الدين البهائي
"لتكن رؤيتكم عالمية ..." -- حضرة بهاء الله
"لو رزقت قليلًا من زلال المعرفة الإلهيّة لعرفت بأنَّ الحياة الحقيقيّة هي حياة القلب لا حياةُ الجسد ..." -- حضرة بهاء الله
"إن دين الله ومذهب الله يهدف إلى حفظ واتحاد واتفاق العالم والمحبة والألفة بين اهل العالم." -- حضرة بهاء الله

مبدأ الوحدة في الديانة البهائية

وحدة العالم الإنساني

من أشهر ما تتميز به كلمات حضرة بهاءالله للجنس البشري قوله:


يا أهل العالم إنكم أثمار شجرة واحدة وأوراق غصن واحد اسلكوا مع بعضكم بكل محبة واتحاد ومودّة واتفاق. قسماً بشمس الحقيقة إن نور الإتفاق يضئ وينير الآفاق.   - منتخبات من آثار حضرة بهاءالله, ص ١٨٤


ما الأرض إلا وطن واحد والناس سكانه.   - منتخبات من آثار حضرة بهاءالله، ص ١٦٠


ليس الفخر لمن يحب الوطن بل لمن يحب العالم، وليس الفضل لحبكم أنفسكم بل لحب أبناء جنسكم.   - "الاشراقات"، الترجمة العربية، ص ١٠٠


فالمواطَنة الصالحة واجب على كل فرد وليست مدعاة للفخر بل الفخر لمن يحب العالم . فإلى جانب الولاء الصغير هناك ولاء كبير من أجل حياة جسم البشرية. فالجنس البشري بأكمله، كما يعتبره الدين البهائي، وحدة عضوية متكاملة، وهو أشرف المخلوقات وأرقى وأسمى شكل وشعور خلقه الله سبحانه وتعالى وهو المتصل به روحياً. ففي الكلمات المكنونة يقول حضرة بهاءالله:


يا ابن الوجود! صنعتك بأيادي القوة وخلقتك بأنامل القدرة وأودعت فيك جوهر نوري فاستغن به عن كل شيء لأن صنعي كامل وحكمي نافذ لا تشكّ فيه ولا تكن فيه مريباً.   - "الكلمات المكنونة"، حضرة بهاءالله


يا ابن الروح! خلقتك غنياً كيف تفتقر وصنعتك عزيزاً بم تستذل ومن جوهر العلم أظهرتك لِمَ تستعلمْ عن دوني ومن طين الحب عجنتك كيف تشتغل بغيري فارجع البصر إليك لتجدني فيك قائماً قادراً مقتدراً قيوماً.   - "الكلمات المكنونة"، حضرة بهاءالله


وعن وحدة الوجود الإنساني يقول:


يا أبناء الإنسان! هل عرفتم لِمَ خلقناكم من تراب واحد لئلا يفتخر أحد على أحد وتفكروا في كل حين في خلق أنفسكم إذاً ينبغي كما خلقناكم من شيء واحد أن تكونوا كنفس واحدة بحيث تمشون على رجل واحدة وتأكلون من فم واحد وتسكنون في أرض واحدة حتى تظهر من كينوناتكم وأعمالكم وأفعالكم آيات التوحيد وجواهر التجريد هذا نصحي عليكم يا ملأ الأنوار فانتصحوا منه لتجدوا ثمرات القدس من شجر عز منيع.   - "الكلمات المكنونة"، حضرة بهاءالله


إن ربكم الرحمن يحب أن يرى مَنْ في الأكوان كنفس واحدة أَنِ اغتنموا فضل الله ورحمته في تلك الأيام التي ما رأت عين الإبداع شبهها طوبى لمن نبذ ما عنده ابتغاءً لما عند الله نشهد أنه من الفائزين.   - منتخبات من آثار حضرة بهاءالله، رقم ١٠٧، ص ١٣٩


وغني عن القول بأن العلم قد أثبت بأن الكون بجميع عناصره ومكوّناته وحدة واحدة، وأن أجزاءه لا غنى لبعضها عن بعض. فالإنسان خلية في جسم الإنسانية جمعاء يستمد حياته من حياة الجسم ويجب أن يبقى حياً حتى يهب الحياة لجسم البشرية . فكل جزء في الكون مؤثر ومتأثر مهما كان دقيقاً في حجمه أو بسيطاً في تكوينه ووظيفته. أما الإنسان، وهو الجامع لكمالات جميع المخلوقات أدناه وفي جوهره فضائل إلهية سامية، فإنه هو المظهر الأعلى والأسمى لذلك التعاون والتعاضد والتكامل في عالم الإنسان.


فمبدأ وحدة الجنس البشري، كما يخبرنا عنه ولي أمر الله، شوقي أفندي، وهو المحور الذي تدور حوله جميع تعاليم بهاءالله، ليس مجرد إحساس متدفق أو تعبير مبهم أو أمل زائف… إنَّه مبدأ لا يطبق على الأفراد فحسب بل يتعلق أساساً بطبيعة العلاقات الرئيسية التي يجب أن تربط بين الدول والأمم باعتبارهم أعضاء في عائلة إنسانية واحدة… وإنَّه يتطلب تغييراً عضوياً في هيكل المجتمع الحاضر على نحو لم يشهد العالم مثله من قبل… إنَّه يدعو إلى إعادة بناء العالم المتحضر برمته ونزع سلاحه… إنَّه يمثل قمة التطور الإنساني الذي بدأ بداياته الأولى بحياة العائلة ثمَّ تطور حينما حقق اتحاد القبيلة الذي أدى إلى تأسيس الحكومة المدنية ثم توسع ليؤسس حكومات وطنية مستقلة ذات سيادة. إنَّ مبدأ وحدة الجنس البشري كما أعلنه حضرة بهاءالله يقوم على تأكيد شديد بأنَّ الوصول لهذه المرحلة النهائية من هذا التطور العظيم ليس ضرورياً فحسب بل حتمي الوقوع وأنَّ ميقات تحقيقه أخذ يقتـرب بسـرعة ولا يمكن تحققه بغير قوة إلهية المصدر.   - من كتاب The World Order of Baha'u'llah شوقي أفندي، ص ٤٢


والآن أما آن لنسر البشرية أن يحلّق في فضاء العزة الإنسانية ونحن نعيش فجر عصر جديد من التقارب بين الشعوب وأهل الأديان، فيتخلص إلى غير رجعة من قيود الأنانية والمادية البغيضة ومن سلاسل التعصبات والتقاليد والأوهام الموروثة ليحلّق بأجنحة الإيمان والعقل معاً إلى آفاق عليا من المحبة الحقيقية والروحانية الصِرفة؟ فالوحدة والاتحاد في المفهوم البهائي يعني "الوحدة والاتحاد في التنوع والتعدد" وهو مفهوم يختلف عن التطابق والتماثل. إنَّ الوصول إلى الوحدة لا يأتي عن طريق إزالة الفروقات وإنمَّا عن طريق الإدراك المتزايد والاحترام للقيمة الجوهرية للحضارات ولثقافة كل فرد. إنَّ التنوع والاختلاف نفسه ليس سبباً في النزاع والصراع وإنما نظرتنا غير الناضجة نحوه وعدم تسامحنا وحميّتنا هي التي تسبب الصراع دائماً. شرح لنا عبدالبهاء هذه النظرة بكلماته التالية:


لاحظوا أزهار الحدائق على الرغم من اختلاف أنواعها وتفاوت ألوانها واختلاف صورها وأشكالها ولكن لأنَّها تسقى من منبع واحد وتنتعش من هبوب ريح واحد وتترعرع من حرارة وضياء شمس واحدة فإنَّ هذا التنوع والاختلاف سبب لازدياد جلال وجمال أزهار الحدائق… أمّا إذا كانت أزهار ورياحين الحديقة وأثمارها وأوراقها وأغصانها من نوع ولون واحد ومن تركيب وترتيب واحد فلا معنى ولا حلاوة له، أمّا إذا اختلفت لوناً وورقاً وزهراً وثمراً، فإنَّ في ذلك زينة وروعة للحديقة وتكون في غاية اللطافة والجمال والأناقة. وكذلك الأمر بالنسبة لتفاوت وتنوع أفكار وأشكال وآراء وطبائع وأخلاق العالم الإنساني فإنْ جاءت في ظل قوة واحدة ونفوذ واحد فإنَّها ستبدو في غاية العظمة والجمال والسمو والكمال. واليوم لا يستطيع أي شيء في الوجود أن يجمع عقول وأفكار وقلوب وأرواح العالم الإنساني تحت ظل شجرة واحـدة سوى القوة الكلية لكلمة الله المحيطة بحقائق الأشياء.   - مكاتيب عبدالبهاء، الجزء الأول، ص ۳۱٨-۳۱٩


والإنسان الذي يمثل وحدة عضوية أساسية في جسم البشرية قد عمل بما لديه من مواهب وقدرات على تطوير حياته الإجتماعية إلى مستويات متقدمة من الوحدة كما أسلفنا، فإنه الآن بصدد تكوين تكامل اجتماعي أعلى في تنظيم المجتمع الإنساني ككل وتأسيس حضارة عالمية جديدة تحتضن سكان هذا الكوكب بأسرهم . هذا هو الأمر الإلهي الذي جاء لتحقيقه حضرة بهاءالله وذلك بتطوير بُنية اجتماعية جديدة خالية من صراعات المصالح الضيقة والتخطيط لها ضمن المصالح الأكبر والأعم في العالم، وهو ما يستدعي رفع مستوى الضمير الإنساني إلى الإيمان بوحدة الجنس البشري حتى تهدأ الأرض ومَنْ عليها. وهذا يعنى وصول الإنسانية إلى مرحلة البلوغ والنضوج تتويجاً لمرحلة الطفولة ثم مرحلة المراهقة التي نأتي على نهايتها حاليا وما يصاحبها من عنفوان وتشتت ومصاعب وبلايا. فلنتمعن بكلمات حضرة بهاءالله التالية:


اعلم بأن الحكماء الحقيقيين قد شبّهوا العالم بهيكل إنسان، فكما أن جسد الإنسان يحتاج إلى قميص هكذا جسد العالم الإنساني يحتاج إلى أن يطرّز قميصه بطراز العدل والحكمة، وإن قميصه هو الوحي الذي أُعطي له من لدى الله، فلا عجب حينئذٍ أنه نتيجة لعناد الإنسان، وعندما يُطفأ نور الدين في قلوب البشر، ويتعمد الإنسان إغفال الثوب الإلهي الموعود لطراز هيكله يتطرق الإنحطاط المحزن فوراً إلى حظ الإنسانية، وبتطرُّقه تحدث كافة الشرور التي تظهر عن قابليات النفس الغافلة؛ فضلال الطبيعة البشرية، وانحطاط الخلق الإنساني، وفساد وانحلال النظم البشرية، كل ذلك يظهر في مثل هذا الظرف بأشد شرور وأعظم ثوران. فالخُلُقُ البشري قد فسد، والثقة تزعزعت، وأركان النظام اضطربت، وصوت الضمير الإنساني سكت، وشعور الحياء والخجل اختفى، ومبادئ الواجب والمروءة وتبادل المصالح والولاء قد انعدمت، كما ينخفت بالتدريج نور السلام والفرح والرجاء. هذه كما نرى هي الحالة التي يتجه إليها الأفراد والنظم على حد سواء.   - "الكشف عن المدنية الالهية"، شوقي افندي، ص ٤٣-٤٤


وفي نظرته إلى العالم ككل يحدّثنا عن واقعنا المؤلم ويرسم لنا الصورة التالية:


قد لا يمكن إيجاد شخصين يمكن أن يقال أنهما متحدان قلباً وقالباً. فعلامات الإختلاف والضغينة ظاهرة في كل مكان مع أن الكل قد خلقوا للوفاق والإتحاد... إلى متى تستمر الإنسانية في الغفلة، إلى متى الظلم، إلى متى يسود الهرج والمرج بينهم، وإلى متى يُغَبِّر الإختلافُ وجهَ الإنسانية؟ إن أرياح القنوط ويا للأسف تهب من كل جانب، والمنازعات الموجبة للإنقسام والمحيطة بالجنس البشري تزداد يوماً بعد يوم.   - "الكشف عن المدنية الالهية"، شوقي افندي، ص ٤٤


ويفيض علينا قلم حضرة شوقي أفندي بوصف ذلك الواقع المؤلم بكلماته:


إن بعث العداء الديني والبغضاء الجنسية والغطرسة الوطنية والعلامات المتزايدة عن الإستئثار بالنفس، والشر والخوف والفسق، وانتشار الفزع والفوضى والخمور والجرائم، والتعطش والإنهماك في الشؤون الدنيوية والبذخ والملاهي، وضعف الكيان العائلي، والتراخي في الإشراف الأبوي، والتفاني في الملذات، وفقدان الإعتداد بالمسؤولية الزوجية، وما ترتب عليه من الطلاق، وفساد الغناء والموسيقى، وعدوى وفساد المطبوعات وشرور الصحافة، وامتداد نفوذ دعاة الإنحطاط الذين يروّجون زواج الإختبار (المتعة) والذين ينادون بفلسفة العراء ويعتبرون الحشمة والوقار خرافة فكرية، والذين يرفضون مبدأ النسل كغاية مقدسة أساسية للزواج، والذين يعتبرون الدين مخدراً للعالم، والذين إذا أُطلقت أيديهم في العمل يرجعون بالإنسانية إلى عصور الهمجية والإضطراب فالإنقراض التام، كل هذا يبدو خاصيات بارزة لإنسانية متدهورة، إنسانية إما أن تولد من جديد أو تهلك وتنعدم.   - من كتاب The World Order of Baha'u'llah شوقي أفندي، ص ١٨٧


حقاً، بعد أن يجتاز الشاب مرحلة المراهقة إلى البلوغ والنضوج فإنه يتحول إلى إنسان آخر في أفكاره وتطلعاته وأسلوبه في حل مشاكله في حياته وكأنه وُلد من جديد.


ففي الطفولة والمراهقة قد نستهين أحياناً بالقدرات الحقيقية الكامنة بالجنس البشري والتي ستبرز جلية قوية في مرحلة البلوغ. وهو ما نشاهده الآن من تقدّم مذهل وسريع في العلوم والإختراعات . فيخبرنا حضرة ولي أمر الله، شوقي أفندي، بقوله:


إنَّ فترة الطفولة والصبا الطويلة التي مر بها الجنس البشري قد قاربت على النهاية، تمر البشرية الآن بفترة مليئة بالهرج والمرج دون استثناء وهي مرتبطة بأكثر المراحل انفعالية من مراحل تكامله وهي مرحلة المراهقة عندما تندفع قوى الشباب بكل حماس وتصل إلى الذروة. ومن ثمَّ يجب أنْ يتحول هذا الاندفاع والحماس إلى هدوء وطمأنينة وحكمة وبلوغ وهي صفات تميَّز مرحلة الرجولة، عندئذ تصل البشرية إلى ذلك المستوى من النضوج الذي تسمح فيه لنفسها بامتلاك كل القوى والقدرات التي ستعتمد عليها في تطورها النهائي.   - من كتاب The World Order of Baha'u'llah لشوقي أفندي، ص ۲٠۲


أمّا بالنسبة لوصول البشرية إلى مرحلة البلوغ الكامل فقد قال حضرة شوقي أفندي:


هناك تغييرات عظيمة وسريعة ولا يمكن وصفها ستصاحب مرحلة البلوغ الذاتي ولا مناص عنها في حياة كل فرد… يجب… أن يظهر ما يشابهها في عملية تكامل منظومة المجتمع الإنساني. هناك مرحلة مشابهة ستصل إليها حياة البشرية جمعاء عاجلاً أم آجلاً وسيكون من ملامحها ظهور نظريات مدهشة في العلاقات الدولية وستمنح البشرية قوى العافية والرفاهية وهي المقوّمات الرئيسية التي ستوفر خلال عصور متتالية الدافع المطلوب لتحقيق ذلك المصير السامي.   - من كتاب The World Order of Baha'u'llah شوقي أفندي، ص ۱٦۳-۱٦٤


ويبشرنا حضرة بهاءالله بعصر ذهبي للإنسانية قادم يرتفع فيه فكر الإنسان إلى مستوى العالمية حيث يقول:


لعمري سوف نطوي الدنيا وما فيها ونبسط بساطاً آخر انّه كان على كلّ شيء قديراً.   - منتخبات من آثار حضرة بهاءالله، ص ٢٠٠


في هذا العصر، وهو تاج العصور، يرتفع فكر الإنسان إلى مستوى العالمية فيتلقى البركات السماوية بفكر ناضج إثر النكبات والويلات مقرّاً بأن مشاكله المحلية والإقليمية والعالمية روحانية وأخلاقية في أساسها، ولا سبيل إلى حلّها إلا بأخذها حُزمة واحدة ضمن منظومة عالمية تعمل بالتعاون الوثيق والبنّاء لخير الإنسانية جمعاء تحت ظل قانون إلهي محيط بحاجات الإنسان وما ينفعه. فيطالعنا ولي أمر الله بكلماته التالية التي تمثل روح مبدأ حضرة بهاءالله في وحدة الجنس البشري:


... يجب أن يُعتبر الظهور الذي أفاض به بهاءالله بأنه يشير إلى بلوغ الجنس البشري بلوغاً تاماً، ويجب ألا ينظر إليه لمجرد بعث روحاني جديد في سلسلة مصائر البشرية المتغيرة على الدوام، ولا أن يعتبر مرحلة أخرى في سلسلة مراحل الإلهام الإلهي المتطور وحتى أنه لا يعتبر كذلك نهاية سلسلة الرسالات الإلهية المتعاقبة، بل يعتبر آخر وأعلى مرحلة من مراحل التطور الهائل الذي تطورت إليه الحياة البشرية بمجموعها على هذه الكرة الأرضية . وأن بروز هيئة اجتماعية عالمية وكذلك ظهور الوعي بالمواطنة العالمية وتأسيس حضارة وثقافة عالمية . كل هذه يجب أن تعتبر أقصى الحدود في تنظيم الهيئة الإجتماعية البشرية بقدر ما يختص الموضوع بالحياة على سطح هذه الكرة الأرضية، بالرغم من أن الإنسان كفرد سوف يستمر بل يجب أن يستمر في التقدم والتطور استمراراً لا حدود له وذلك نتيجة لوصول البشرية إلى هذا الحد من الكمال في البلوغ...   - من كتاب The World Order of Baha'u'llah شوقي أفندي، ص ١٦٣



السبيل إلى الوحدة

يحدثنا شوقي أفندي عن تفاصيل تأسيس وحدة الجنس البشري كما جاءت في آثار بهاءالله في رسالة كتبها عام ۱٩۳٦م:


إن وحدة الجنس البشري كما رسمها بهاءالله تتضمن في مدلولها تأسيس رابطة شعوب عالمية تتحد فيها جميع الأمم والأجناس والعقائد والطبقات اتحاداً وثيقاً متمادياً. وفيها يُصان الإستقلال الذاتي للدول الأعضاء كما تصان حريات الأفراد المكوّنين لها وإبداعهم ومبادرتهم. ورابطة الشعوب العالمية هذه يجب أن تتألف في حدود ما نستطيع أن نتصوره في الوقت الحاضر من هيئة تشريع عالمية يسيطر أعضاؤها على جميع منابع الأمم المكوِّنة لها باعتبارهم أمناء على جميع الجنس البشري، ويشرِّعون القوانين اللازمة لتنظيم حياة جميع الأجناس والشعوب وسد احتياجاتها وتنظيم ارتباطاتها. وإن هيئة تنفيذية عالمية تسندها قوة دولية سوف تنفذ القرارات التي تصدرها هيئة التشريع العالمية وتطبّق القوانين التي تشرّعها وتحرس الوحدة الأساسية لرابطة الشعوب العالمية بمجموعها. وإن محكمة دولية سوف تقاضي وتُصدر قرارها النهائي الإلزامي في جميع المنازعات التي تنشب بين العناصر المختلفة المكوِّنة لهذا النظام العالمي، وسوف تُبتكر وسيلة للإتصالات الدولية تحتضن جميع الكرة الأرضية وتكون متحررة من العوائق والقيود القومية وتقوم بوظائفها بسرعة رائعة وبانتظام تام . وستكون عاصمةٌ عالميةٌ المركزَ العصبيَّ لحضارة عالمية والنقطة التي فيها تتجمع جميع القوى الموحِّدة للحياة ومنها يشعّ نشاط نفوذها الفعّال. وإن لغة عالمية سوف تُخترع أو تنتخب من بين اللغات الموجودة في العالم وتُدرَّس في مدارس جميع الأمم المتحدة باعتبارها لغة مساعدة إلى جانب لغة الأم، وإن خطّاً عالمياً وأدباً عالمياً ونظاماً عالمياً موحّداً للنقد والموازين والمكاييل سوف يسهّل اختلاط الأمم والأجناس ويجعله بسيطاً يسيراً. وفي مثل هذه الجامعة العالمية سوف يتفق الدين والعلم باعتبارهما القوتين المؤثرتين في الحياة البشرية وسوف يتعاونان ويتطوران بكل وِفاق. وسوف لن تعود الصحافة تحت نظام إداري مثل هذا النظام لتكون أداة تُستغل استغلالاً سيئاً مضراً لخدمة مصالح معينة شخصية أو عمومية وسوف تتحرر من نفوذ الحكومات المتناحرة والشعوب المتعادية وتمنح أقصى المدى في حرية التعبير عن الآراء المتنوعة والمعتقدات المتباينة . وسوف تنظم المنابع الإقتصادية في العالم وتستثمر منابع المواد الخام استثماراً كاملاً وترتب وتُطوّر أسواقها وينظم توزيع منتجاتها تنظيماً عادلاً. ولن تعود منافسات القوميات وعداواتها ومؤامراتها بل تستبدل عداوة الأجناس وتعصباتها بالمحبة بين الأجناس وبالتفاهم والتعاون، وسوف تُستأصل أسباب المشاحنات الدينية نهائياً، وتُمحى الحواجز والقيود الإقتصادية محواً تاماً، وتُطمس آثار التمييز المتطرف بين الطبقات، وسوف يختفي الفقر المدقع الذي يُرى في جهة واحدة كما يختفي في الجهة المقابلة الأخرى تراكم الملكية المفرط. وتلك الطاقات الهائلة التي تهدر وتبذر على الحروب سواء الحروب الإقتصادية أو السياسية سوف تكرس إلى غايات توسيع مدى الإختراعات البشرية، وإلى تطوير التكنولوجيا وإلى زيادة القابليات الإنتاجية البشرية، وإلى استئصال المرض، وإلى توسيع البحوث العلمية، وإلى رفع مستوى الصحة البدنية، وإلى شحذ العقول البشرية وتنقيتها، وإلى استغلال منابع الكرة الأرضية التي لم تستغل أو التي لم تُستكشف، وإلى إطالة الأعمار البشرية، وإلى ترقية أية وكالات تستطيع إنعاش الحياة الفكرية والخلقية والروحانية في عموم الجنس البشري . وإن نظاماً فيدرالياً (اتحادياً) عالمياً يحكم جميع الأرض ويمارس سلطة لا يمكن تحدّيها على جميع منابعه الواسعة التي لا يمكن تصورها ويوحّد جميع المثل العليا للشرق والغرب ويجسّدها ويكون متحرراً من لعنة الحرب وبلاياها ومنكبّاً على استثمار جميع الطاقات الموجودة على سطح الكرة الأرضية وفيه تكون القوة عبداً للعدل وتقوم حياته على الإعتراف الشامل بالله الأحد وعلى الولاء لدين إلهي عام – نعم إن مثل هذا النظام هو الهدف الذي تتقدم نحوه إنسانية تدفعها القوة الموحّدة للحياة. إن جميع البشرية متلهفة إلى أن تقاد إلى الوحدة وإلى إنهاء عصر استشهادها الطويل، ومع ذلك ترفض بعناد أن تحتضن النور وتعترف بسلطنة القوة الوحيدة التي تستطيع وحدها أن تستخلصها من ورطتها وتحوّل عنها الكارثة المريعة التي تهدد بالإحاطة بها وبالتحديق بكيانها... إن مبدأ توحيد البشرية بكاملها هو سمة المرحلة التي تقترب منها الجامعة البشرية الآن. ولقد نجحت محاولات تأسيس وحدة الأسرة، ووحدة القبيلة، ووحدة دولة المدينة، ووحدة الأمة، وبقيت وحدة العالم هدفاً تسعى نحوه بشرية قد اُنهِكت قواها. وها قد انتهى بناء الشعوب وتتوجه الفوضى الكامنة في سيادة الدولة إلى أوجها. وإن العالم وهو متوجه نحو مرحلة البلوغ يجب عليه أن ينبذ هذا الوثن ويعترف بوحدة العلاقات البشرية بكاملها ويؤسس أخيراً الأداة التي تستطيع أن تجسِّد هذا المبدأ الجوهري الضروري لحياتها أحسن تجسُّد.   - بهاءالله والعصر الجديد، ص ٢٧٧-٢٨٠


ونرجو في الختام أن نتمعن بالكلمات التالية لشوقي أفندي :


... فمن ذا الذي عساه يرتاب في أن تلك النتيجة –مقام البلوغ البشري– يجب أن ترمز بدورها إلى افتتاح عهد للمدنية العالمية لم ترَ عين مثلها ولم يصل عقلٌ لإدراكها؟ من ذا الذي يستطيع أن يتصور اليوم ذلك المقام الأرفع الذي سوف تبلغه تلك المدنية عندما ينكشف القناع عن وجهها؟ من ذا الذي يستطيع أن يقيس ذلك الأوج الرفيع الذي سوف يحلّق فيه العقل الإنساني عندما يتحرر من قفصه؟ ومن ذا الذي يستطيع أن يتصور تلك الحقائق التي سوف يكتشفها روح الإنسان عندما يتنوّر بنور بهاءالله الساطع بنهاية الجلوة والجلال؟ وأي اختتام أليق بذاك المقام من كلمات بهاءالله إذ يشيد بذكر عصر دينه الذهبي وهو العصر الذي فيه يتلألأ وجه الأرض من أقصاها إلى أقصاها بأنوار جنة الأبهى إذ يتفضل عز بيانه: ’هذا يوم لا يُرى فيه إلا سناء النور المشرق من وجه ربك الكريم الفضّال، قد انصعق كل نفس بسلطاننا الغالب القاهر، ثم خلقنا خلقاً جديداً فضلاً من لدنّا على الناس وأنا الفضّال القديم. هذا يوم يصيح فيه العالَم الأخفى طوبى لكِ يا أرضُ بما جُعلتِ كرسيّ ربك واختاركِ مقرّ عرشه العزيز. وينادي جبروت العزة نفسي لك الفداء بما استقرّ عليك سلطان محبوب الرحمن بقوة اسمه موعود كل الأشياء ما كان منها وما يكون.   - الكشف عن المدنية الإلهية، شوقي أفندي، ص ٧١


%
تقدم القراءة
- / -