مقدمــــــــــــــة
طوبى للقارئين، طوبى للمتفكّرين وطوبى للمنصفين
في هذا الموقع حرصنا أن نقدم للقارئ الكريم، الذي يروم الاطّلاع على الدين البهائي – تعاليمِه ومبادئِه وأهدافِه، طيفًا من الكتب البهائية المقدسة والمراجع المتنوعة ما يمكن أن يروي تعطّش المستفسر والباحث المتعمق والمتحرّي الصادق في حقيقة هذا الدين الإلهي بعين الإنصاف، وما يهدف إليه في إصلاح أحوال العالم التي باتت تُؤرق مضاجعَ الجميع دون استثناء في صورة للمستقبل باتت حالكة الظلمة، لولا أن الله يفتح باب رحمته على عباده برسالة سماوية في تمام الوقت، لتأخذ بيدهم نحو سواء السبيل، وتزيل عن قلوبهم وعقولهم ما لحقها من سواد الغِلَ والكراهية نتيجة المفاهيم الخاطئة لجوهر كل دين سماوي لم يُنَزّل إلا لتحقيق الألفة والمودة والاتحاد وإشاعة المحبّة بين بني البشر، لا للحقد والضغينة والفساد والصّراع والنّزال. وبدين الله فقط تُحلّ المشاكل وتَبْرُؤ البشرية من أسقامها وآلامها، ويَحلّ الأمل والرجاء محلّ اليأس والقنوط. أليس في قرارة أنفسنا إيمان بل وإيقان بأن الرسول هو الطبيب الإلهي الشافي الوافي والكافي لجميع الأسقام والعلل، وأن أمراض الحاضر لا يمكن معالجتها بدواء علل الماضي.
ألا يكفينا من الحروب ما دمّر الشجر والحجر، ومن الصراعات ما أباد البشر، ومن الأحقاد ما أراق الدماء ويتّم وشرّد، ومن التعصبات ما نشر الفتنة وجفّف مبادئ الأخلاق؟
إن الدين البهائي هو دين إلهي في سلسلة الأديان المتعاقبة التي لا انتهاء لها، وهو باب من أبواب رحمة الله التي لن تُغلق في يوم من الأيام أمام عباده الأوّابين. والذي يرقب أحوال العالم اليوم بكل حيرة ويتساءل إلى متى؟ نقول؛ ها هي الإنسانية الآن تنتقل من مرحلة طفولتها ومراهقتها الصاخبة إلى مرحلة نضجها، وتعاني آلام المخاض لولادة نظامها الإلهي الجديد الذي يتّفق ونضجها، وهو ما أتى به حضرة بهاء الله. فالأديان في تعاقبها، كما توضّحه التعاليم البهائية، ما هي إلا مراحل مختلفة من مراحل تطور البشرية، وتمثّل ارتقاءً متواصلاً لدين الله الواحد من أجل ارتقاء الإنسان والمجتمع فكريًا وروحيًا في مسيرة الإنسانية نحو بناء حضارة دائمة التقدّم، وأن الحقيقة الدينية المنزّلة على رسول كل عصر من العصور، ما هي إلاّ نسبية تتناسب ودرجة استعداد البشرية فكريًا في ذلك الوقت وليست حقيقة مطلقة، وتأتي وفق نظام إلهي تربوي متدرّج لا ختام له. فيؤكّد لنا حضرة بهاء الله ذلك في قوله: "بعث الله رسلًا بعد موسى وعيسى وسيرسل من بعدُ إلى آخر الّذي لا آخر له بحيث لن ينقطع الفضل من سماء العناية." فالدين هو شمس الحقيقة الإلهية التي تشرق وتغيب ثم تشرق من جديد إلى ما لا نهاية.
وبفضل ما في هذا الدين من طاقة خلاّقة، فقد آمن به أتباعٌ من مختلف الأعراق والعقائد والقوميات والطبقات، ويعيشون في وحدة واحدة متحابّين، ويعملون معًا – ومعهم من يؤازرهم فكريًا وروحيًا – من أجل خير الإنسانية جمعاء. نبذوا التعصّبات بأنواعها، واتّسعت آفاق المحبة في قلوبهم لتشمل أهلَ العالم طُرًا، وغُرست فيها حبًا جديدًا وتقديسًا لكل الديانات وتفهُّمًا حقيقيّاً لجوهرها. فهل هناك من أمنية أسمى من رؤية العالم في أمان واطمئنان ومحبة وسلام تنفيذا لإرادة الله لهذا العصر في قول حضرة بهاء الله:
"إنّ ربّكم الرّحمن يحبّ أن يرى من في الأكوان كنفسٍ واحدة وهيكلٍ واحد أن اغتنموا فضل الله ورحمته في تلك الأيّام الّتي ما رأت عين الإبداع شبهها."
هذه هي إرادة الله للبشرية في هذا العصر ممثَّلةً بتعاليم هذا الدين الذي يحرص أتباعه في كل مساعيهم ومجهوداتهم من أجل إصلاح العالم وتأسيس ملكوت الله على الأرض كما هو في السماء. أليس هو وعد الله للبشرية وأن الله لن يُخلف وعده؟ ملكوت يعمل كل مؤمن به على إنشائه في دخيلة نفسه وفي قلبه وأركانه أولاً حتى يقوم بالتالي على الوفاء بهذه الأمانة بكل تفانٍ وإخلاص. وفي كلمات كتبتها ملكة أمنت بالبهائية تقول:
"إنّ تعاليم البهائيّة تُدخِل السّكينة إلى الرّوح والأمل إلى القلب. ولِمَن يبحثون عن الطّمأنينة واليقين فإنّ كلمات الآب السّماويّ هي بمثابة ينبوعٍ في الصّحراء بعد هَيَمانٍ طويل."
وفي ختام مقدّمتنا هذه، يسرنا أن نضعكم في إطار ما تفضل به حضرة شوقي أفندي ولي أمر الدين البهائي بهذا الخصوص، أملاً في أن يحظى بعميق تأملكم وتفكيركم في صورة لعالم هو الأفضل تبعًا لما صممته يد القدرة الإلهية، حتى ينعم سكانه بنعماء ملكوت الله على الأرض وبركاته:
"إنّ وحدة الجنس البشريّ، كما صوّرها حضرة بهاء الله، تقتضي تأسيس رابطة شعوبٍ عالميّة تتّحد فيها كافّة الأمم والأجناس والعقائد والطّبقات اتّحادًا وثيقًا دائمًا، ويُصان فيها على نحوٍ قاطعٍ وكامل الاستقلال الذّاتيّ للدّول الأعضاء، والحرّيّة الشّخصيّة وحقّ المبادرة للأفراد الّذين يعيشون في ظلّ هذه الدّول. ورابطة الشّعوب هذه، في حدود ما نستطيع تصوّره، يجب أن تشتمل على هيئةٍ تشريعيّةٍ عالميّة يدير أعضاؤها، بوصفهم الأمناء على الجنس البشريّ بأكمله، شؤون كافّة موارد الأمم المكوِّنة لهذه الرّابطة، ويشرّعون من القوانين ما يتطلّبه تنظيم حياة كلّ الأجناس والشّعوب وسدّ احتياجاتها وضبط العلاقات القائمة بينها. وستتولّى هيئةٌ تنفيذيّةٌ عالميّة، تساندها قوّةٌ دوليّة، تنفيذَ القرارات الّتي تُصدرها هذه الهيئة التّشريعيّة وتطبيق القوانين الّتي تشرّعها، والمحافظة على الوحدة العضويّة لرابطة الشّعوب بأسرها. كما ستتولّى محكمةٌ دوليّة الفصلَ في كافّة النّزاعات الّتي قد تنشب بين العناصر المختلفة المكوِّنة لهذه المنظومة العالميّة وإصدار الأحكام النّافذة الباتّة بشأنها. وستُبتكر وسيلةُ اتّصالٍ عالميّة تحتضن كوكب الأرض بأكمله، متحرّرة من العوائق والقيود الوطنيّة، وتعمل بسرعةٍ مذهلة وانتظامٍ تامّ. وستكون هناك عاصمةٌ عالميّة تعمل بمثابة المركز العصبيّ لمدنيّةٍ عالميّة، والنّقطة الّتي تتجمّع فيها القوى الموحّدة للحياة وتشعّ منها تأثيراتها النّافذة. كما ستُبتكر لغةٌ عالميّة أو تُختار من بين اللّغات الحيّة، وتُدرّس في مدارس كلّ الأمم الفدراليّة كلغةٍ مساعدةٍ للغتها الأمّ. وسيكون من شأن خطٍّ عالميّ، وأدبٍ عالميّ، ونظامٍ عالميّ موحّد للعملات والموازين والمكاييل، أن يبسّط ويسهّل التّواصل والتّعامل والتّفاهم بين أمم الجنس البشريّ وأعراقه. وفي مجتمعٍ عالميٍّ كهذا سيتوافق كلٌّ من العلم والدّين، أعظم قوّتيْن فاعلتيْن في حياة البشر، ويتعاونان ويتطوّران معًا في وفاقٍ ووئام. أمّا الصّحافة في ظلّ مثل هذا النّظم فإنّها، مع إفساحها كامل المجال أمام التّعبير عن آراء وقناعات الجنس البشريّ على اختلافها، سوف تكفّ عن أن تكون ألعوبةً خبيثةً في يد المصالح الخاصّة، شخصيّةً كانت أم عموميّة، وستتحرّر من تأثير الحكومات والشّعوب المتناحرة. كما أنّ موارد العالم الاقتصاديّة سوف تُنظَّم، وتُستثمر موارده من الموادّ الخامّ على الوجه الأكمل، وتُنسَّق أسواقه وتُطوَّر، ويُنظَّم توزيع منتجاته تنظيمًا عادلًا.
وستتوقّف المنافسات والأحقاد والمؤامرات بين الدّول، ويحلّ الوئام والتّفاهم والتّعاون بين الأجناس محلّ البغضاء والتّعصّب. وتُستأصل أسباب النّزاع الدّينيّ بغير رجعة، وتُلغى تمامًا كافّة الحواجز والقيود الاقتصاديّة، وتُمحى الفروق الشّاسعة بين الطّبقات، ويختفي الفقر المدقع من جهة وتكديس الثّروات والممتلكات من جهةٍ أخرى. وتُكرَّس الطّاقة الهائلة الّتي تُبدَّد وتُهدر على الحروب، اقتصاديّةً كانت أم سياسيّة، لغاياتٍ من شأنها توسيع مجال الاختراعات البشريّة والتّطوير التّقنيّ، وزيادة إنتاجيّة الجنس البشريّ، والقضاء على المرض، وتوسيع مجال البحث العلميّ، ورفع مستوى الصّحّة البدنيّة، وشحذ الفكر البشريّ وتهذيبه، واستثمار موارد كوكب الأرض غير المستغلّة وغير المكتشفة، ولإطالة عمر الإنسان، وللنّهوض بأيّة وسيلةٍ أخرى من شأنها أن تحفّز الحياة الفكريّة والخُلقيّة والرّوحيّة للجنس البشريّ بأكمله."
أليس هذا ما يدغدغ خيال كل منا، ويتمنى تحقيقه من صميم قلبه في عالم يسوده العدل والإنصاف والأمن والسلام والمحبة والاطمئنان بعد طول عناء ومصائب وويلات؟ فملكوت الله ليس أبنية شاهقة تقام، ولا هو أي شيء مادي آخر، بل هو شجرة وارفة الظلال تمتد جذورها وتتشعّب في القلوب الطاهرة والعقول المستنيرة والأعمال الطيبة والنوايا الحسنة والإرادة الماضية، يغذيها في كل آن تنفيذ تعاليم الحق وأحكامه، وتسقيها مياه الرضاء الإلهي وبركاته، وتقطف ثمارَها البشريةُ في كل حين وآن.