الدين البهائي
"لتكن رؤيتكم عالمية ..." -- حضرة بهاء الله
"لو رزقت قليلًا من زلال المعرفة الإلهيّة لعرفت بأنَّ الحياة الحقيقيّة هي حياة القلب لا حياةُ الجسد ..." -- حضرة بهاء الله
"إن دين الله ومذهب الله يهدف إلى حفظ واتحاد واتفاق العالم والمحبة والألفة بين اهل العالم." -- حضرة بهاء الله

حضرة شوقي أفندي
وليّ امر الدين البهائي (١٨٩٧-١٩٥٧)م


ضريح حضرة شوقي افندي في لندن "إنّ دين حضرة بهاء الله لا ينسخ ديناً من الأديان السابقة ويبرأ عن كل محاولة ترمي للحطّ من شأن أي نبيّ من أنبياء الله السابقين، أو طمس حقيقة تعاليمهم الخالدة... إنه لا يتعارض بأي وجه مع الروح الذي شمل دعوتهم ولا يحاول تقويض ولاء أي شخص لأمرهم. ولكن مطلبه الأساسي وغايته الصريحة، هو أن يمكّن كل مؤمن بأي منها من الحصول على إدراك أتم للدين الذي يؤمن به، والبلوغ إلى درجة أعلى في فهم غايته وأغراضه. ولا يدّعي الدين البهائي التفرّد في بسط حقائقه، ولا يقول بأنه نخبة ممتازة، ولا هو متغطرس في إثبات دعوته، وإنما تدور تعاليمه حول مبدأ أساسي واحد: هو أنّ الحقيقة الدينية متصلة وليست منفصلة، وأنّ الوحي الإلهي مستمر وليس منقطعاً، ويعلن بكل صراحة وبغير تحفّظ، أنّ كل الأديان المعروفة هي من أصل مقدّس واحد، وأَنها متحدة في وظائفها مستمرة في هدفها وضرورية في قيمتها لبني الإنسان..." شوقي أفندي * * مقتطف من كتاب "صفحة النور"، ص ٥ و ٦.


إثر صعود حضرة عبدالبهاء عام ١٩٢١ شهدت الجامعة البهائية تحوّلاً في قيادتها إذ دخلت مرحلة جديدة من مراحل تطورها. وتم انتقال مقاليد السُلطة الروحية التي كانت من اختصاص فرد واحد لتصبح مسؤولية يتحمّلها نَظْم إداري قائم على "العمادين التوأمين": وِلاية الأمر وبيت العدل الأعظم.


رسم حضرة بهاء الله الخطوط العريضة الأولى لهذا النظام الإداري في كتاب شريعته، وقام حضرة عبدالبهاء بعد ذلك ببلْورة معالم ذلك النظام وفصّلها بوجه خاص في ألواح وصاياه. وعيّن حضرة عبدالبهاء في هذه الوثيقة الأخيرة حفيده البكر حضرة شوقي أفندي وليّاً للأمر، كما أشار أيضاً إلى انتخاب أعضاء بيت العدل الأعظم مستقبَلاً، فنصّ في وصيته بأنّ "وليّ أمر الدين البهائي هو الرئيس المقدّس لهذا المجلس والعضو الأعظم الممتاز الذي لا ينعزل."[۱]


لم يتأسس بيت العدل الأعظم في عهد حضرة عبدالبهاء، وانتقلت مسؤولية تأسيسه إلى وليّ أمر الدين البهائي بصفته الرئيس الأعلى لدين حضرة بهاء الله، فعكف مدة السنوات السّت والثلاثين اللاحقة على بناء الأُسس المتينة لتشييد صرح تلك الهيئة الجليلة. ففي غضون تلك السنوات، قام حضرة شوقي أفندي بتثقيف الجامعة البهائية في موضوع النظام الإداري ومهّد السبيل أمامها لتُقيم في نهاية الأمر ذلك الصرح الرئيسي الآخر لهذا النظام، فكتب باستمرار عن الارتباط الوثيق القائم بين ولاية الأمر وبيت العدل الأعظم، فوصفهما قائلاً: "إنّ كُلاًّ من هذين العمادين التوأمين لنظام دين حضرة بهاء الله الإداري إلهيّ من حيث الأصل، جوهريّ من حيث العمل، ومتمّم أحدهما للآخر من حيث الغاية والمطلب."[۲] ويسترسل حضرة شوقي أفندي في شرحه هذا فيضيف "إنّ هدفهما الأصليّ وغايتهما الأساسية ضمان استمرار السلطة الإلهيّة التعيين النابعة من أُصول هذا الدين، بالإضافة إلى صيانة وحدة أتباعه والمحافظة على سلامة تعاليمه ومرونة تنفيذها."[۳] فولاية الأمر تمثّل الوسيلة التي اختارها حضرة بهاء الله لتستمر الهداية الإلهيّة عبر مبيّن يشرح آياته المقدسة شرحاً صادقاً أميناً منزهاً عن الخطأ والضلال. أما وظيفة بيت العدل الأعظم، من جهة أخرى، فهي في "سن الشرائع في المسائل التي لم يَنُصّ عليها حضرة بهاء الله صراحة."[٤] وحسبما ذكر حضرة شوقي أفندي "يقوم وليّ أمر الدين البهائي وبيت العدل الأعظم بغير انفكاك على إدارة شؤون هذا الدين، وتنسيق جهوده، وترويج مصالحه، وتنفيذ شريعته، وحماية مؤسّساته."[٥]


إنّ الارتباط الوثيق بين ولاية الأمر وبيت العدل الأعظم ارتباط يؤكده الجهد المتواصل الذي بذله وليّ أمر الدين البهائي لتوسيع رقعة الجامعة البهائية في العالم، وذلك بُغية تأسيس الهيئات المركزية التشريعية للنظام الإدراي ونموّها، وكان هدف هذا النشاط التعجيل بانتخاب بيت العدل الأعظم ونمو كلّ عناصر النظام الإداري الذي أبدعه حضرة بهاء الله نموّاً كاملاً وتامّاً.


ورغم أنَّ ولاية الأمر كما تمَّ رسمها مؤسسة تخضع لنظام وراثي وأنَّ وصايا حضرة عبدالبهاء قد جعلت في الإمكان استمرار الخط الوراثي هذا من بعد وليّ الأمر الذي عيّنه حضرة عبدالبهاء، فقد تُوُفِّيَ حضرة شوقي أفندي دون أنْ يترك وريثاً يخلُفه. وهو لم يعيّنْ أحداً من أفراد عائلته ليخلفه لانتفاء الشروط التي وضعها حضرة عبدالبهاء لمثل ذاك التعيين. ومع ذلك فإنّ ولاية الأمر مستمرة في حيويتها ودوام أثرها الخيّر، فقد ترك حضرة شوقي أفندي في آثاره الكتابية كنزاً لا يفنى من صنوف الهداية والإرشاد. إنّه ميراث غنيّ تركه وليّ أمر الدين البهائي للجامعة البهائية وكان حصيلة سنوات ولايته الحافلة بالأحداث من عام ١٩٢١ إلى عام ١٩٥٧. ومما يساعد على تقدير هذا الميراث الغني حقَّ قدْره أنْ نستعرض بالتفصيل أوجه النشاطات العديدة التي قام بها وليّ أمر الدين البهائي لنموّ الجامعة البهائية وتطويرها.



إنجازات حضرة شوقي أفندي

كتب حضرة عبدالبهاء في ألواح وصاياه هذه الكلمات المؤثرة يصف فيها مَنْ سيخلفه بعد صعوده:


"يا أحباء عبدالبهاء الأوفياء، يجب أنْ تحافظوا كل المحافظة على فرع الشجرتين المباركتين، وثمرة السِّدرتين الرحمانيتين، شوقي أفندي، حتى لا يغبّر خاطره النوراني غبارُ الكدر والحزن ويزداد فرحه وسروره وروحانيته يوماً فيوماً... إذ إنّه هو وليّ أمر الله بعد عبدالبهاء... من عصى أمره فقد عصى الله ومن أعرض عنه فقد أعرض عن الله ومن أنكره فقد أنكر الحقّ. إياكم إياكم، أن يُؤوّل أحد هذه الكلمات..."[٦] وهكذا أعلن حضرة عبدالبهاء بمنتهى الدقة والوضوح عن قراره في اختيار من سيخلفه ليتولى قيادة الجامعة البهائية بعد صعوده. وحافظت ولاية الأمر على وحدة دين حضرة بهاء الله لأنها ضَمِنَتْ استمرار تلك المسؤولية الإلهيّة التي انتقلت من حضرة بهاء الله إلى حضرة عبدالبهاء، وأصبحت الآن تقع على عاتق حضرة شوقي أفندي الذي وصفه حضرة عبدالبهاء بأنّه "آية الله بين خلقه."[٧]


عندما تم تعيين حضرة شوقي أفندي وليّاً للأمر بعد وفاة جدّه كان لا يزال طالباً يدرس في كلية باليول بجامعة أكسفورد، ولم يكن قد تخطّى سن الرابعة والعشرين. فشعر بالحزن العميق لوفاة جدّه الحبيب كما شعر بثقل المسؤولية التي حمّلها إياه حضرة عبدالبهاء في وصيّته، وكان لكل ذلك في بداية الأمر وقْعُ الصّاعقة في نفسه، حيث أنّه لم يكن يتوقع بتاتاً تعيينه في مثل ذاك المنصب.


ورغبة منه في التغلّب على ما ألمّ به من الحزن والأسى وفي الاستعداد للمسؤوليات التي أُنيطت به، غادر حضرة شوقي أفندي الأراضي المقدسة ليخلو إلى نفسه فقضى فترة من الزمن خارج البلاد استغرقت عدة أشهر. وفي هذه الأثناء ترك شؤون أمر الله في يد عمة والدته بهيّة خانم - كريمة حضرة بهاء الله، وشقيقة حضرة عبدالبهاء. وكان حضرة شوقي أفندي يكنّ لعمة والدته محبة خاصة إذ كانت أقرب أفراد عائلته إليه. وهي التي أدركت ما عصف به من الحزن والأسى إثر صعود جدّه المحبوب، وكانت في إخلاصها وحكمتها خير معين له إبّان السنوات الأولى من ولايته للأمر وحتى وافتها المنيّة عام ١٩٣٢. ولعل أبلغ دليل على ما كان يكنّه لها من تقدير واحترام هو ذلك المديح المؤثّر الذي خطّه بقلمه بعد وفاتها، والذي نورد هنا جزءاً يسيراً منه في المقتطف التالي:


"أيتها الورقة العليا المباركة المحبوبة... إنّ ذكرى ابتسامتك العذبة الفائقة الوصف، سوف تفعم قلبي بالبهجة والسرور وتشدّ من أزْري وأنا أسْلُك هذا الدرب الشائك الذي هو نصيبي. أما ذكرى لمسة يدك المباركة فلسوف تحفزني على متابعة طريقي بكل عزم واستقامة. وحين تتفاقم الشدائد وتَدْلَهِمُّ الأمور، فلسوف تذكّرني حلاوة صوتك الساحر بأن اتشبّثَ بذلك الحبل المتين الذي أمْسكْتِ به أنتِ أيضاً بكل قوة وثبات طوال حياتك."[٨]


أما "الدرب الشائك" الذي يشير إليه وليّ أمر الدين البهائي في هذا المقتطف فلربما كان يمثّل إحدى مُهمّاته الصعبة التي كُلّف بتأديتها، ألا وهي المحافظة على دين الله الفتيّ والدفاع عنه ليصدّ أعداءه من الداخل كانوا أم من الخارج. ولكنه كان أيضاً المبيّن الوحيد لتعاليم هذا الدين، وهو الذي شيّد أركان نظامه الإداري، ونفّذ المشاريع العالمية لتوسيع نطاق الجامعة البهائية وانتشارها في العالم طبقاً لما خطّط له حضرة عبدالبهاء. وبالإضافة إلى كل ذلك قام بترجمة عدة مجلّدات حوت الآثار الإلهيّة المقدّسة المكتوبة أصلاً باللغتين العربية والفارسية إلى اللغة الإنجليزية، وبالتالي أصبحت ترجماته الإنجليزية هذه مثلاً أعلى يُحتذى لدى غيره من المترجمين إلى اللغات الأخرى. وأخيراً ألّف أول كتاب تاريخيّ تناول دراسة القرن الأول من تاريخ هذا الدين، كما أنّه عكف على تنمية الممتلكات الأمرية وتجميلها أبنية وحدائق في المركز العالمي للأمر في حيفا وعكا. وتمثّل هذه الإنجازات جميعها ذلك الميراث الرئيسي الملموس الذي خلّفته لنا ولاية الأمر. ولعل ما يوازي في الأهمية أيّاً من هذه الإنجازات تلك الكيفية التي تمكّن بها حضرة شوقي أفندي من شحْذ همم الأفراد العاديين وبعث الإلهام في نفوسهم، لينهضوا ويحققوا من الأعمال ما ليس له مثيل أو شبيه. وكما يقود القائد العظيم جيشه إلى خوض المعارك، كذلك قاد حضرة شوقي أفندي جموع المؤمنين في خدمة أمر الله فوجّه الرسالة تلو الرسالة، والبيان إثْر البيان، ودعا الجامعات البهائية صغيرها وكبيرها في كل بقعة من بقاع الأرض إلى القيام بالخدمات الجليلة تجاه دينهم وفي سبيل الإنسانيّة جمعاء. فكتب مثلاً في عام ١٩٤٨ رسالة يشجّع فيها أفراد الجامعة البهائية في أمريكا واصفاً إياهم بأنهم "البناة الأبطال لنظام حضرة بهاء الله العالمي النامي،" وحثهم على السعي "لتحقيق مستوى للبطولة أكثر سموّاً ونبلاً، في الوقت الذي تجد الإنسانيّة نفسها تنحدر أكثر فأكثر في بؤرة من اليأس والانحطاط والتطاحن والألم والأسى."[٩]


حافظ حضرة شوقي أفندي على الوحدة والتراصّ بين صفوف المؤمنين بصفته المبيّن الرسميّ المعتمد للكلمة الإلهيّة والآثار المقدسة تماماً كما فعل حضرة عبدالبهاء من قبله. فطبقاً لوصيّة حضرة عبدالبهاء كان لا بد لكلّ مسائل الشرح والتّبيين أنْ تُرفع إليه ليبتّ فيها، إلا أنّه لم يكن يملك أية سلطة تخولّه حق تغيير ما سنّه ونصّ عليه كلٌّ من حضرة بهاء الله وحضرة عبدالبهاء. فأدّى وظيفته الدقيقة على خير وجه موضحاً ما لم يكن مفهوماً وشارحاً ما تم تنزيله سابقاً. وفي هذا المجال خطّ الآلاف من الرسائل التي وجّهها إلى أفراد المؤمنين وجامعاتهم المنتشرين في كل أنحاء العالم. وبقيت لوليّ أمر الدين البهائي الهداية الأولى في توجيه المفهوم العام لدى المؤمنين بالنسبة للكلمة الإلهيّة، ممّا ساعدهم على الثبات والاستقامة في دين الله بكامل المحبّة والاتحاد.


ترجم حضرة شوقي أفندي الآيات المباركة والنصوص المقدسة المكتوبة أصلاً باللغتين العربية والفارسية إلى لغة إنجليزية أضفى عليها نمطاً من أنماط الكلام اتّسم بالبلاغة والإبداع، وعَكَسَ أسلوبُه اللغوي مَلَكتَه الموهوبة من قدرة الوعي وقوة التعبير. ولم يكن في عام ١٩٢١ من آثار حضرة بهاء الله الغزيرة سوى القليل نسبيّاً مترجماً إلى الإنجليزية. فترجم وليّ أمر الدين البهائي أهم آثار حضرة بهاء الله واختار مما ترجمه مقتطفات ومقاطع نشرت في مجموعات خاصة مختلفة. وبهذه الطريقة مكّن المؤمنين في العالم الغربي من الاطّلاع على ترجمة أمينة ودقيقة للآيات والألواح المباركة. وإلى هذه التراجم أضاف ترجمته لتاريخ النبيل الأعظم،[١٠] وهو سجلٌ حافل بالأحداث التي صاحبت مولد هذا الدين ونشأته الأولى. وقد أراد حضرة شوقي أفندي بذلك أنْ يتعرف المؤمنون الناطقون بالإنجليزية على تاريخ دينهم، ويسمعوا بآذانهم عبر ترجمته الرائعة، صوت أسلافهم الروحانيين، وخاصة تلك الحكايات التي سجّلها شهود العيان من الذين تشرفوا بلقاء حضرة الباب وحضرة بهاء الله. وتمنّى أنْ يكون هذا التاريخ مصدراً للإلهام يَشحَذ الهِمم وقدوة حسنة يتّبعها الجميع. وعاد حضرة شوقي أفندي فأتحفنا بكتاب آخر أرّخ فيه للقرن الأول من تاريخ الدين البهائي تحت عنوان God Passes By والذي تمت ترجمته الى العربية بعنوان "كتاب القرن البديع."


رسم حضرة شوقي أفندي خطةً ألمعيّة لبناء صرح النظام الإداري مستقياً من الآثار المباركة التي خلَّفها كلّ من حضرة بهاء الله وحضرة عبدالبهاء حول هذا الموضوع، فسعى الى دعم الجامعات الناهضة في مختلف أقطار العالم وتَنْمِية قُدْراتها الى المستوى الذي يمكّنها من إقامة تلك المؤسسات الإدارية التي نصَّ عليها حضرة بهاء الله. فعندما تَمّ تعيينه وليّاً للأمر لم يكن هناك من الهيئات والمؤسسات الإدارية المركزية هيئة واحدة، ولكنه ترك لنا عند وفاته ستة وعشرين محفلاً روحانيّاً مركزيّاً، وفي ختام مشروع السنوات العشر الذي صاغ بنوده بقصد توسيع رقعة الأمر الكريم وانتشاره في العالم فيما بين عامي ١٩٥٣ و١٩٦٣، بلغ عدد المحافل الروحانيّة المركزيّة في العالم ستة وخمسين محفلاً.


تبادل حضرة شوقي أفندي الرسائل على نطاق واسع مع الجامعات البهائية المنتشرة في العالم متناولاً فيها موضوع النظام البهائي. وقد بعث برسائله تلك في بواكير ولايته، ففي شهر آذار (مارس) من عام ١٩٢٣ مثلاً كتب حضرة شوقي أفندي الى البهائيين في أمريكا، وبريطانيا، وألمانيا، وفرنسا، وسويسرا، وإيطاليا، واليابان، وأستراليا، فشرح الشروط التي ينبغي توفّرها لإجراء عمليّة انتخابات المحافل وحدَّد نطاق وظائفها وطبيعة أنشطتها. وقد شاطرَ وليّ أمر الدين البهائي البهائيين في رسائله رؤيته البعيدة المدى فكتب في إحداها يقول: "إِنَّ قيام هذه المحافل الروحانية، المحلية والمركزية، بنشاطاتها بكل انسجام وحيويّة وكفاءة في كل أنحاء العالم البهائي، سوف يكون الوسيلة الوحيدة لضمان تأسيس بيت العدل الأعظم."[۱۱]


من الجليّ إذاً، أنّ نموّ النظام الإداري لم يكن نتيجة عمل منفرد، بل تضافرت الخطط والمشاريع التي وضعها حضرة شوقي أفندي لتنفيذ منهج منظم لتوسيع الجامعة البهائية وانتشارها في العالم. فهبّ "المتطوعون" الذين عُرِفوا باسم "المهاجرين" وفتحوا الأصقاع النائية وسعوا لتأسيس الجامعات البهائية هناك. وهكذا استقر المئات من هؤلاء المهاجرين، إبّان مشروع السنوات العشر (١٩٥٣ – ١٩٦٣) في مختلف البلاد والأقطار، فأسّسوا أربعة وأربعين محفلاً روحانيّاً مركزيّاً وإقليميّاً إضافة إلى ما كان قائماً من المحافل الإثني عشر آنذاك. وكان نتيجة كل ذلك أن ارتفع تعداد البهائيين في العالم ارتفاعاً ملحوظاً.


نسّق حضرة شوقي أفندي خطط انتشار المهاجرين في كل بقعة من بقاع العالم، وساعد على إنجاز تقدُّم عظيم بالنسبة لازدهار المركز العالمي للأمر في حيفا. فها هو يُباشر بعملية بناء الصرح الخارجيّ للمقام الأعلى الذي يضم ضريحي حضرة الباب وحضرة عبدالبهاء، ويُجمّل الحدائق المحيطة بالحرم الأقدس في عكا موسّعاً رقعتها ومساحتها، ويُشيّد محفظة الآثار البهائية على سفح جبل الكرمل حيث يُحتفظ بالآثار الكتابية والعينيّة الخاصة بحضرة بهاء الله وحضرة الباب، ويُشرف على تنظيم تلك الآثار في عرض أنيق ليتمتع بمشاهدتها جماهير الحجاج الزائرين، وأخيراً يقوم على نقل رُفات حرم حضرة بهاء الله، ورُفات إبن حضرة بهاء الله الأصغر الميرزا مهدي، الى مقرهما الأخير في رحاب مقام حضرة الباب وعلى مقرُبة من ضريح الورقة المباركة العليا. وجدير بالذكر هنا أنّ حرم حضرة بهاء الله "نواب"[١٢] صاحبته طوال سنوات النفي والحبس، وأنّ ابن حضرة بهاء الله الأصغر والملقّب بالغصن الأطهر فَقَدَ حياته وهو في ريْعان الصّبا إثر حادث مفجع وقع له وهو رهين السجن مع والده في قلعة عكا. وقد أوجدت تلك الانجازات كلّها جوّاً سامياً يليق بمكانة المركز الإداري والروحي لدين عالمي النطاق والمستوى. وعلى قدْر هذا الدّأْب الشّديد في اجْتلاب جو القداسة والجلالة وأسباب التمكين والتدعيم للمركز العالمي للأَمر، كان لوليّ أمر الدين البهائي دأْبٌ مثله في القيام بالعديد من النشاطات المتعلقة بالشؤون الخارجية والعلاقات الدولية لدين حضرة بهاء الله ومركزه العالمي.


ولو أردنا أنْ نُقيّم واحداً من أوجه النشاطات المختلفة التي نفّذها وليّ أمر الدين البهائي لقلنا بأنّ مجهوده في تحقيق ذلك كان مجهوداً جباراً مضنياً وشاقّاً. وإذا أعدنا النظر الى ما أنجزه في العديد من مختلف المجالات طوال فترة الستة والثلاثين عاماً التي استغرقتها ولايته، لا بدّ وأنْ نقف مشدوهين مأخوذين بما حقّقه وأنجزه. لذا، ولأنه استطاع أنْ يرفع صرح النظام الاجتماعي الجديد الذي بعثه الله للعالم عبر رسالة حضرة بهاء الله، كتب أحدهم يقول: "ما جاد التاريخ كلّه علينا بإنسان كحضرة شوقي أفندي. فهو الوحيد الذي يمكن القول بأنّه صاحب أعظم أثر في صياغة القالب البهائي للنظام الاجتماعي العالمي وتحديد المناهج والأساليب المستخدمة لإدارة شؤون هذا النظام وتصريف أموره."[١٣]


%
تقدم القراءة
- / -