الدين البهائي
"لتكن رؤيتكم عالمية ..." -- حضرة بهاء الله
"لو رزقت قليلًا من زلال المعرفة الإلهيّة لعرفت بأنَّ الحياة الحقيقيّة هي حياة القلب لا حياةُ الجسد ..." -- حضرة بهاء الله
"إن دين الله ومذهب الله يهدف إلى حفظ واتحاد واتفاق العالم والمحبة والألفة بين اهل العالم." -- حضرة بهاء الله

العدالة الاقتصادية


إن التعليم العام الإجباري الذي تنادي به البهائية من شأنه أن يمحو الجهل الذي هو آفة الآفات، والتخطيط للعالم على أنه وحدة واحدة يستفيد الكل من الموارد الطبيعية بكل عدالة، ورفع مستوى المرأة لتساوي الرجل في الحقوق والواجبات والفرص، وفتح آفاق المعرفة أمام الجميع دون عوائق واستثناءات، كلها عناصر ستدفع بالإنسانية إلى العيش بازدهار فلا معوز جائع ولا غني متخم.


إن تاج الأهداف التي جاء لتحقيقها حضرة بهاءالله مبدأ يدخل في صميم تشكيل بُنية المجتمع الإنساني على إساس إلهي التكوين ألا وهو تحقيق وحدة العالم الإنساني، وهو هدف تقترب منه الهيئة الاجتماعية بكل مكوِّناتها. والقاعدة الصلبة التي ستقوم عليها تلك الوحدة هي العدالة. ذلك لأن العدل هو القوة الأوحد التي باستطاعتها أن تترجم وَعْيَ ضمير الفرد بوحدة الجنس البشري إلى عمل جادّ طاهر مجرد من شأنه أن يقيم الدعائم الضرورية لحياة إنسانية تنعم بالرخاء.


كلنا مقرّ بالخلل الحاصل في الشؤون الاقتصادية محلياً وإقليمياً وعالمياً، لدى الفرد والمجموعة والدول. فهناك القلة ممن تتحكم بالانتاج واكتناز الأموال والثروات على حساب كثرة عظمى من سكان الأرض ترزح تحت نير الفقر تمزقها أنياب الحرمان وتطحنها أضراس الجوع. هناك الدول الغنية بمواردها الطبيعية التي أنعم الله بها للبشر كافة وأخرى محرومة من ثمارها تصارع من أجل البقاء فغرقت في بحر الديون وفوائدها فازدادت فقراً وكانت مرتعاً لكل أشكال الانحراف عن طبيعة الإنسان الخيّرة. إنها اللاعدالة الاقتصادية التي جرت وراءها وما ابتلينا به من آفات اجتماعية وسياسية وخلقية جَنَتْهُ البشرية على مرّ التاريخ، وقد آن الأوان لوقفة للتأمل تتفق وما وصل إليه الإنسان من بلوغ في تفكيره وسلوكه. ولنتأمل فيما وجهه حضرة بهاءالله من نداء قائلاً:


"خبّروا الأغنياء بأنين الفقراء."   - "الكلمات المكنونة" الفارسية


إنه نداء يشمل الأفراد والجماعات بقدر ما يشمل الدول والشعوب والأمم. ويخبرنا حضرة عبدالبهاء بقوله:


"عندما نرى الفقر وقد تحول إلى وضع من الحرمان فإنه مؤشر على الاستبداد والطغيان "   - "محادثات عبدالبهاء في باريس"،مترجم، ص ١٥٩


وخاطب حضرة بهاءالله ضمير كل فرد وقلبه قائلاً:


"يا ابن الإنسان، أنفق مالي على فقرائي لتنفق في السماء من كنوز عز لا تفنى وخزائن مجد لا تبلى..."   - الكلمات المكنونة" العربية


وفي "سورة البيان" قوله:


"لا تحرموا الفقراء عما أتاكم الله من فضله وإنه يجزي المنفقين ضعف ما أنفقوا إنه ما من إله إلا هو له الخلق والأمر يعطي من يشاء ويمنع عمن يشاء وإنه لهو المعطي الباذل العزيز الكريم."   - "آثار القلم الاعلى"، المجلد الرابع، ص ١١٤


فالتقدم العلمي وتطوير الموارد المادية والطبيعية والبشرية يجب أن توظف لمصلحة الجميع في جو من التعاون والتآزر بدل روح المنافسة والاستئثار غير الشريفين، واعتبار ذلك أساساً لاقتصاد عالمي متين، ويجب أن يشمل التعاون جميع الطبقات والفئات العاملة. وقد شرح لنا حضرة عبدالبهاء بأنه حتى المشاريع الفردية يجب أن تعكس تلك المشاركة بين العامل وصاحب العمل بأن يأخذ العامل نسبة محددة من الأرباح بالإضافة إلى راتبه. وبهذه الطريقة سوف نرى أن العمال وأصحاب العمل يعملون معاً في مشروع تعاوني مشترك، ولا تضارب في مصالحهم المشتركة. إن النظام الحالي الذي يستحوذ فيه صاحب العمل على جميع الأرباح يؤدي إلى حدوث نزاع وصدام بينه وبين العمال مسبباً اختلالاً اقتصادياً وظلماً واستغلالاً في أغلب الأحيان. ويبين لنا حضرة عبدالبهاء أيضاً أن التعاون يمنح الحياة مثلما تعمل أجزاء جسم الكائن الحي فتعطيه الحياة وذلك بقوله:


"في عالم الوجود جميع الكائنات لها علاقة مع بعضها البعض، ومن هذه العلاقة يحصل التعاون والتعاضد، وهذا هو سبب البقاء والحياة، فإذا استبعد التعاون والتعاضد ولو لدقيقة واحدة من حقائق الأشياء تنحل جميع الكائنات وتصبح هباء منثوراً."   - من كتاب "من مفاوضات عبدالبهاء"، مترجم، أنظر كتاب "الدين البهائي"، ص ١٤٨


وفي إطار هذا التعاون لا تنكر البهائية حق الفرد في التملك وإقامة المشاريع الفردية، ولا تدعو أن يكون الجميع متساوين في الدخل، لأن ذلك يتنافى وطبيعة الاحتياجات والقدرات بين إنسان وآخر، إذ إن هناك أنواع من خدمة المجتمع يقتضي أن يكافأ عليها أصحابها أكثر. وبالاجمال من الواجب أن يتيح النظام الاقتصادي العالمي فرصة لكل فرد أن يفي دخله بمتطلباته الأساسية، وإن عجز عن ذلك لأي سبب كان مثل العجز أو غيره، فمن حقه الحصول على ما يسد ذلك العجز المالي، ومن ناحية أخرى يجب على النظام أن يحد من تراكم الثروات بأيدي أفراد أو فئات معينة وذلك بفرض الضرائب التصاعدية. وعليه، فإن المبادئ البهائية التي تتناول الاقتصاد تضم بعض العناصر الإيجابية المشابهة للأنظمة الحالية ولديها الرؤية نحو إيجاد نظام اقتصادي جديد فريد من نوعه قائم على توزيع عادل للسلع والخدمات ولا نظير له في رؤيته العالمية.



النظام الاجتماعي يجب أن يكون أساسه روحانياً

مهما قدمت من أنظمة اقتصادية بديلة حلاً للمشاكل القائمة، فلن تعمل بالكفاءة المطلوبة إذا بقي الإنسان حبيس أطماعه وأنانيته متخلياً عن مبادئ دينه ميّت الضمير والوجدان. فنظام من شأنه الحد من تضارب المصالح والمنافسات غير الشريفة واستباحة كل أسلوب للوصول إلى الثروة والمال، لن يعدّل من أسباب المعيشة إلا جزئياً إذا لم يقترن بوعي ضميري بالورع والتقوى وخشية الله. فالتوجه المادي الدنيوي يقسّي القلوب ويميت الروح فتجف الرأفة والشفقة وكل شعور إنساني. فيخبرنا حضرة عبدالبهاء بقوله:


"إن الأسس التي تقوم عليها الأحوال الاقتصادية برمتها إلهية في طبييعتها، ولها ارتباط بعوالم القلب والروح."   - من كتاب The Promulgation of Universal Peace ص ٢٣٨


فأي نظام اقتصادي يطلق العنان للجانب المادي في الانسان الخاضع لشهواته النفسية وأطماعه وأنانيته ويغفل الجانب الروحاني، وهو الأساس، سوف يفشل في تحقيق هدف الله من خلق الانسان. وما نزلت الكتب والرسل إلا لتطوير طبيعة الإنسان الروحانية وتنميتها ليعيش في طاعة الخالق. يخبرنا حضرة شوقي أفندي بقوله:


"لقد ذهبت الانسانية ويا للأسف بعيداً في ضلالها وأصابها انحطاط هائل إلى درجة يصعب معها إنقاذها، إذ لا جدوى من جهود لا تأييد لها والتي يبذلها أشهر القادة ورجال الدولة البارزون مهما كانت نواياهم خالصة، ومهما بلغت أعمالهم من الإعداد والتخطيط... فلا جدوى من أي خطط تأتي نتيجة حسابات أكثر زعماء السياسة أهمية ولا فائدة من العقائد التي يسعى أصحاب النظريات الاقتصادية تقديمها، ولا جدوى من أي مبادئ يحاول دعاة الاصلاح والأخلاق من خيرة القوم غرسها في النفوس ما لم توفر في نهاية الأمر القاعدة الصحيحة التي يمكن أن يبنى عليها صرح المستقبل لعالم مشتت الأفكار والحواس. "   - من كتاب The World Order of Baha'u'llah ص ٣٣-٣٤


وفي إحدى رسائله أيضاً يقول:


" إن الحل الاقتصادي هو إلهي في طبيعته" يقصد من ذلك أن الدين وحده، وكملجأ اخير، يمكن أن يأتي بتغيير جوهري في طبيعة الانسان وسلوكه لكي يستطيع هذا الأخير تعديل العلاقات الاقتصادية في المجتمع. إنها الوسيلة الوحيدة التي يستطيع الانسان فيها أن يسيطر على القوى الاقتصادية التي تهدد وجوده ومن ثم سيطرته على قوى الطبيعة."   - من رسالة كتبت بالنيابة عن حضرة شوقي افندي إلى أحد الأحباء بتاريخ ۱٩ تشرين الثاني ۱٩٤٥م


تعديل أسباب المعيشة


"أما الفوارق الشاسعة بين الأغنياء والفقراء، وهي مصدر من مصادر المعاناة الحادة، فتضع العالم على شفا هاوية الحرب والصراع وتدعه رهناً للاضطراب وعدم الاستقرار. وقليلة هي المجتمعات التي تمكنت من معالجة هذه الحالة معالجة فعالة. ولذلك فإن الحل يتطلب تنفيذ جملة من الاتجاهات العملية والروحية والخلقية. والمطلوب هو أن ننظر إلى هذه المشكلة نظرة جديدة تستدعي إجراء التشاور بين مجموعة موسعة من أهل الاختصاص في العديد من المجالات العلمية المتنوعة، على أن تتم المشاورات مجردة عن المحاولات العقائدية والاقتصادية ويشترك فيها أولئك الذين سوف يتحملون مباشرة أثر القرارات التي يجب اتخاذها بصورة ملحة. إن القضية لا ترتبط فقط بضرورة إزالة الهوة السحيقة بين الفقر المدقع والغنى الفاحش، ولكنها ترتبط أيضاً بتلك القيم الروحية الحقة التي يمكنها، إذا تم إدراكها واستيعابها، خلق اتجاه عالمي جديد يكون في حد ذاته جزءاً رئيساً من الحل المطلوب."   - بيت العدل الأعظم، رسالة "السلام العالمي وعد حق"، تشرين الأول ۱٩٨٥م


"وفي معالجتنا للمشاكل الاقتصادية التي تواجه عالم اليوم، حري بنا أن ننظر إليها من منظور رفع لمستوى القدرات بالتوسع في تحصيل العلم والمعرفة على كافة المستويات. فمن تجاربنا في العقود الأخيرة الماضية، لا يمكن أن نعتبر أن المكاسب الماد\ية غايات بحد ذاتها. فالهدف منها لا ينحصر في تأمين الاحتياجات الأساسية للانسان مثل المسكن والمأكل والرعاية الصحية وأمثالها فحسب، بل في تحسين القدرة الانسانية في المهارات والتجارب أيضاً. إن أهم دور للجهود الاقتصادية أن تلعبه في عملية التطوير يكمن في إعداد الأفراد والمؤسسات وتوفير الوسائل التي بواسطتها يستطيعون إنجاز الهدف الحقيقي من التطور. وهذا معناه وضع الأسس لنظام اجتماعي جديد قادر على بعث وتنمية قدرات لا محدودة كامنة في أعماق الانسان. وليس أمام الفكر الاقتصادي سوى أن يسلّم بهذا الهدف من التطوير عن قناعة تامة ودون أي تحفّظ، ويؤمن بدوره الفاعل في خلق وسائل تحقيقه. وبهذا الاسلوب دون غيره يمكن لعلم الاقتصاد وما يدور في فلكه من علوم أن يحرر نفسه من تيار التسابق وحب التملك الذي يجرفنا اليوم، فيسخّر كل ما لديه لرخاء البشرية بكل ما في الكلمة من معنى. وهنا تدعونا الحاجة بكل وضوح إلى حوار دقيق وجازم بين ما يفعله العلم وما يراه الدين بنظره الثاقب. ومعضلة الفقر هي الآن تتصدر المقدمة، والحلول المطروحة لمواجهتها تقوم على القناعة بأن الموارد المادية متوفرة أو يمكن توفيرها بفضل العلم والتكنولوجيا، وبذلك يمكن التخفيف من وطأتها ثم القضاء على هذه المشكلة المزمنة التي قضّت مضجع البشرية وأصبحت من مظاهر حياتها. والسبب الرئيس في بقاء هذا الإشكال قائماً يكمن في سلّم الأولويات في برامج العمل العلمي والتكنولوجي الذي يصيب فقط سطح الاحتياجات الفعلية للسواد الاعظم للجنس البشري لا عمقها. وعليه، فإننا بحاجة إلى إعادة تقييم جذري للأولويات إذا ما أردنا أن نرفع عن كاهل البشرية نهائياً أعباء الفقر ومعاناته بأسلوب جادّ. وإنجاز كهذا يستدعي تركيز البحث وتكثيف الجهود في وضع قيم لائقة محددة وهو ما يعدّ امتحاناً للموارد الروحية والعلمية للجنس البشري. وسيظل الدين عاجزاً عن أداء دوره في هذا الميدان ما دام حبيس الاعتبارات الطائفية ومفاهيم لا تستطيع التمييز بين القناعة والسلبية وتعتبر أن الفقر هو سمة الحياة الدنيا ولا سبيل للخلاص منه إلا في العالم الآخرغافلين عن جوهر الدين الذي يدعو إلى رخاء البشرية وسعادتها. ومن روح الرسالة السماوية التي تستلهم تعاليمها من فيض الحق سنجد مفاهيم روحية جديدة ومبادئ تنير لنا عصرنا الحاضر الذي بات يلهث وراء الوحدة والاتحاد ثم العدالة والانصاف في كافة الشؤون الانسانية. وآفة البطالة على هذه الشاكلة أيضاً. ففي الفكر المعاصر نجد أن مفهوم الهدف من العمل لدى الغالبية قد انحدر لينحصر في البحث عن وظيفة مجزية مادياً تتيح لهم الحصول على المواد المتوفرة، وعليه فإن النظام الحالي يدور في حلقة متصلة: استهلاك وتكسّب يؤديان إلى دوام التوسع في الانتاج الذي يترتب عليه دفع الرواتب والأجور. فلو أخذنا هذه العملية بالمستوى الفردي نجد أن كافة هذه النشاطات ضرورية لرخاء المجتمع، إلا أن الوضع بما هو عليه غير سليم ولا يوحي بالرضا. يشهد بذلك ما نقرؤه بين سطور المعلقين الاجتماعيين من مشاعر الفتور واللامبالاة في كل مكان إلى جانب ازدياد أرتال العاطلين عن العمل. ولهذا فإنه ليس مدعاة للدهشة أن نلحظ إدراكاً متزايداً إلى حاجة ماسة للعالم لمفهوم جديد ل " أخلاقيات العمل". فنعود ونقول: لا أقل من البصيرة النافذة المتولدة من التفاعل الخلاّق بين المعارف العلمية والدينية يمكنها أن تضع أساساً متيناً لإعادة تكييف ما اصطبغت به حياتنا من عادات ومواقف. فالانسان على نقيض تام مع الحيوان الذي يعتمد في بقائه على ما تجود به بيئته، أما النوع الانساني فهو مفطور على التعبير عن طاقاته الهائلة الكامنة فيه بالعمل المبرمج المنتج الذي يلبي احتياجاته والآخرين، وفي هذا فإن الأفراد جميعهم هم شركاء في عمليات تقدم الحضارة الانسانية مهما كان المستوى متواضعاً ويحققون بذلك أهدافاً توحّدهم مع الآخرين. والعمل المجبول بالضمير الذي يؤدَّى بروح الخدمة الانسانية هو الذي وصفه بهاءالله بأنه نوع من أنواع الصلاة والعبادة لله الحق. وكل فرد في المجتمع، إذا ما استنار فكره بهذا المفهوم، لديه القدرة والارادة أ، يرى نفسه في ذلك العمل محققاً ذاته. وإلى هذه الارادة والقوة يجب أن تتوجه استراتيجية التطور فتخاطبها وتتعامل معها مهما كانت طبيعة الخطط والمشاريع ومهما بلغت مكافأتها المادية. بهذا المفهوم البسيط والدقيق ندعو سكان الأرض إلى حشد الطاقات الهائلة وتسخير إرادة الالتزام لديهم لخدمة ما تتطلبه الواجبات الاقتصادية. وتحدِ آخر مشابه في طبيعته يبرز أمام الفكر الاقتصادي نتيجة الازمات البيئية ؛ فما خدعنا في السابق من نظريات قالت بأن الطبيعة بإمكاناتها ومواردها لا حدود لها في تلبية حاجات الانسان أصبح يلقى الفتور. فالمفهوم الذي يبيح منح أهمية قصوى للتوسع والتملك وتلبية ما يتطلبه الانسان يحتم علينا أن ندرك أن مثل هذه الاهداف بحد ذاتها ليست مرشداً حقيقياً لنا في وضع السياسة العامة، وليس كافياً، في الوقت نفسه، أن نأخذ هذا المفهوم مدخلاً لبحث المشاكل الاقتصادية ونضعه أمام صانعي القرار الذين يتعاملون مع الحقيقة بأن التحديات في معظمها عالمية التأثر والتأثير أكثر منها محدودة في مداها. إن الأمل المعقود على إمكانية مواجهة الأزمات الأخلاقية بتأليه الطبيعة نفسها لهو مظهر من مظاهر الافلاس الروحي والفكري الذي ولدته الأزمات نفسها. فالإقرار بأن الخَلْق بأجمله هو كيان عضوي ككل، وأن الانسانية مسؤولة عن رعاية هذا الكيان وتقبّله كما هو عليه لا يحمل في طياته تأثيراً يستطيع وحده أن يغرس في ضمائر الشعوب نظاماً جديداً للقيم. فليس أمامنا سوى قلب المفاهيم ليصبح إيماننا الراسخ بأن الطاقات العلمية والقوى الروحية بكل ما فيها من قدرات هي العنصر المساعد والوصي المؤتمن الذي يدفع مصالح البشرية في الاتجاه الذي يريده التاريخ. وستستعيد شعوب الأرض، عاجلاً أم آجلاً، أيمانها وثقتها بكامل طاقاتها، وترحب بالنظم الاخلاقية وبالتفاني في العمل وأداء الواجب الذي اعتبرته حتى وقت قريب نسبياً من المظاهر الأساسية الدالة على إنسانية الانسان. وعلى مرّ التاريخ سيكون باستطاعة تعاليم مؤسّسي الأديان الإلهية العظماء أن ترسّخ في جموع معتنقيها هذه القيم والفضائل التي نحن في أمسّ الحاجة إليها في عصرنا الحاضر. إلا أن التعبير عنها يجب أن يأخذ شكلاً يتناسب وعصر النضج والبلوغ الذي نعيشه. وهنا نعود إلى القول بأن التحدي الذي يواجه الدين يكمن في تحريره مما علق به في الماضي من الأوهام والترهات. فالقناعة والرضا لا يعنيان السلبية، والخُلُق يقف مشلولاً في حياة يخرس فيها صوت التقديس والتنزيه الذي يتكلم باسمه، والاخلاص للعمل ليس لتحقيق مكاسب خاصة بقدر ما يشعر صاحبه بقيمته وقدره.   - "وثيقة ازدهار الجنس البشري ورخاؤه" الصادرة عن مكتب المعلومات العامة التابع للجامعة البهائية العالمية عام ۱٩٩٥م


إذن فالعدالة الاقتصادية وما يتبعها من أزمات خانقة هنا وهناك وما تفرزها من آفات اجتماعية أساس حلها روحاني. وعليه، ليس في الآثار البهائية، كما يخبرنا حضرة شوقي أفندي، حل كامل للمشاكل الاقتصادية في معزل عن حل الاشكالات الاجتماعية والسياسية والصحية وغيرها. إلا أن حضرة بهاءالله قد وضع للعالم خطوطاً رئيسية لنظام اقتصادي عالمي منصف، وترك لأصحاب الاختصاص من الاقتصاديين العالميين وضع التفاصيل التي سوف تخضع للتغيير بين الحقبة والأخرى تبعاً للتطور البشري في الحاجات والقدرات.


أولاً - أوجب حضرة بهاءالله على الجميع العمل والتكسب، فلا عاطل كسول أو قاعد يستجدي، وحث على تعلم الصنائع والفنون والحرف إلى جانب العلوم النظرية والآداب وغيرها، وذلك بقوله في كتابه الأقدس:


"قد وجب على كل واحد منكم الاشتغال بأمر من الأمور من الصنائع والاقتراف وأمثالها. وجعلنا اشتغالكم بها نفس العبادة لله الحق. تفكروا يا قوم في رحمة الله وألطافه ثم اشكروه في العشيّ والإشراق. لا تضيعوا أوقاتكم بالبطالة والكسالة واشتغلوا بما ينتفع به أنفسكم وأنفس غيركم... أبغض الناس عند الله مَن يقعد ويطلب. تمسكوا بحبل الأسباب متوكلين على الله مسبب الاسباب."   - "الكتاب الاقدس"، فقرة ٣٣


ثانياً - ربح النقود: بالنظر لتطور الحياة الاقتصادية في عصرنا الحاضر، فقد أباحت البهائية تعاطي ربح النقود ترويجاً لمصالح الفرد والمجتمع وتسهيلاً لهم في تحقيق مصالحهم التجارية التي أصبحت متشابكة ومتبادلة في آن معاً. وتركت لبيت العدل الأعظم تحديد نسبة الفائدة وأوصت بالعدل والإنصاف. ويقول حضرة بهاءالله بهذا الصدد:


"إن أكثر الناس محتاج لهذه المعاملة، ولو لم يكن ربح متداول معمول به بين الناس تتعطل وتتعوّق الأمور. وقَلّما يوجد مَن يوفَّق بمراعاة أبناء جنسه وأبناء وطنه وإخوانه ويقرضهم قرضاً حسناً، لذا فضلاً على العباد قررنا الربح كسائر المعاملات المتداولة بين الناس... ولكن يجب أن يكون الأمر بالاعتدال والإنصاف."   - "لوح الاشراقات"


ثالثاً - منع الاستعباد والرق الزراعي والصناعي، وأنه من الضروري أن يكون رأس المال والعمل شريكين. فبالاضافة إلى أجر العامل يجب أن يعطى نسبة محددة من الأرباح حتى يشعر بأنه جزء من المشروع، وبذلك يحل التفاهم والتعاون والتعاضد بدل النزاع والاضراب الذي يضر بمصالح الجميع.


رابعاً - تقسيم الميراث والتركة إلى سبع طبقات لمن لم يترك وصية وهي: الذرية - الزوج أو الزوجة - الأب - الأم - الأخ - الأخت - المعلمون. وحُدِّدت حصة كل طبقة، وفي حالة فقدان أي منهم حدد الشرع لمن تؤول.


خامساً - الثروات الطبيعية. بما أنها مِنْحة من الله للبشرية فإنها من حق الجميع أن يستفيد من خيراتها، لذلك فإن هيئة عالمية لها صلاحيات كافية يجب أن تقوم باستغلالها والاشراف عليها وتوزيعها بين دول العالم حسب احتياجاتها بكل إنصاف.


سادساً - ضرورة توحيد العملة في العالم لتسهيل المعاملات التجارية وغيرها وتوفيراً للاموال الطائلة نتيجة التحويلات المالية.


سابعاً - الاتقاق على مقاييس وأوزان ومكاييل واحدة تستعملها جميع أمم الأرض.


ثامناً - فرض الضرائب التصاعدية على ذوي الدخل العالي بما يحقق الانصاف، وإعطاء من لا يكفي دخله احتياجاته الضرورية.


تاسعاً - ضريبة العُشر على المزارعين بالإضافة إلى ضريبة الحيوانات.


وعليه، فإن البهائية تلتزم جانب الاعتدال في تحقيق حل المشكلة الاقتصادية ومعالجة اختلال الميزان الاقتصادي العالمي. فهي لا تقر مبدأ القوة واستعماله لنزع ثروات الاغنياء أو إجراء المساواة التامة بين العموم في الأمور الاقتصادية، إذ إن المساواة أمر لا يمكن تحقيقه في عالم الطبيعة نظراً للتفاوت الطبيعي القائم بين الخلق في القابليات والاستعدادات الذاتية كالتفاوت الموجود في الصور والاشكال الظاهرة، ولكن من المحقق أنه باستعمال الحكمة واتباع الانصاف إزاء هذه الكيفية يمكن التوصل إلى حل مرضٍ جداً للطبقات العامة ولأصحاب رؤوس الأموال الذين سوف لا يتمكنون من جمع ثروات عظيمة من عمل العمال وتعبهم فيما لو تم الاتفاق بين الطرفين على اقتسام الارباح التي يدرّها العمل بصورة تكفل حقوق كل من العامل وصاحب المال، وهذا لا يتم إلا بواسطة قيام الحكومات بسن القوانين اللازمة ضمن دائرة المنطق والانصاف بحيث يمكن القضاء على الغنى المفرط والفقر المدقع في كل مجتمع.


%
تقدم القراءة
- / -