الدين البهائي
"لتكن رؤيتكم عالمية ..." -- حضرة بهاء الله
"لو رزقت قليلًا من زلال المعرفة الإلهيّة لعرفت بأنَّ الحياة الحقيقيّة هي حياة القلب لا حياةُ الجسد ..." -- حضرة بهاء الله
"إن دين الله ومذهب الله يهدف إلى حفظ واتحاد واتفاق العالم والمحبة والألفة بين اهل العالم." -- حضرة بهاء الله

الأسرة

عماد عائلة إنسانية واحدة

الأسرة هي "مؤسسة إلهية مقدسة" حسب التعاليم البهائية، وتأتي قدسيتها من قول حضرة بهاء الله " تزوجوا يا قوم ليظهر منكم من يذكرني بين عبادي ..."، فعندما ينطق الزوجان بهذه العبارة عند عقد القران "إنا كل لله راضيون" فإنهما ملتزمان أمام الله بذرية صالحة تذكر الله. هنا تبدأ رحلتهما في تعاونهما على تنمية الفضائل لدى كل منهما لغرسها في الأطفال، فتنمو هذه المؤسسة وتزدهر. فالكتابات البهائية تصوّر لنا الأسرة السليمة قوية الأركان، بأنها تشكّل بيئة مفعمة بالمحبة والعطاء والتعاون والتضامن، وهي التي يضع لها حضرة عبد البهاء وصفًا لحياتها بأن تكون كحياة ملائكة السماء مبتهجة وسبباً لسرور الآخرين وسعادتهم. وأن يكون الزوج والزوجة كالعنادل في تغريدهما على أغصان شجرة وحدة العائلة واتحادها، وأن يشهدا حباً صادقًا لبعضهما البعض، وأن يجهدا في تعليم الفتيات والفتية بأقصى ما يمكن. فعائلات كهذه لا توفر راحة البال والأمن لكل فرد من أفرادها فحسب، بل تمنحهم أيضاً فرصًا لتنمية مواهبهم وقدراتهم الفريدة في مسيرة حياتهم على طريق التطوّر والازدهار، وتساهم أيضًا في إنارة العالم الإنساني.


يعتبر البهائيون الأسرة وحدة إنسانية هي جوهر المجتمع البشري. وهي حاضنةٌ تتشكل فيها القيم الأخلاقية والقدرات الروحية والبشرية. ففي جو الأسرة ينمو استعداد أفرادها ويمارسون الفضائل بالتدريج، ويتلقّون مبادئ المحبة والاحترام وقيم الصبر والتحلي بالعدل. بيد أنه بقدر ما يمكن أن تكون الأسرة حاضنة لتنمية القيم والفضائل والسلوكيات الإيجابية، يمكن أن يكون لها أيضاً تأثير سلبي. فغالباً ما تبدأ عادات مثل الميل إلى الظلم والاستبداد والسلوك العنيف والتنمُّر بعيدًا تمامًا عن مشاعر المودة والشفقة والتسامح، ثم تنمو وتكبر وتنتقل بدورها إلى المدرسة ومكان العمل لتجد طريقها إلى المجتمع في النهاية. هناك تكون المآسي والويلات التي يصعب حلّها.


إن أهم ركن من أركان تكوين عائلة سليمة وقوية، حسب تعاليم ومبادئ الدين البهائي، هو مساواة الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات. إلا أنه مع الأسف والحسرة، نجد أن أغلب سلوكيات أفراد الأسرة التي تؤسس للظلم والاستبداد، إنما يشكلها الجانب الذكوري من الأسرة دونما اعتبار لحقوق الآخرين. فعدم احترام حقوق الزوجة والفتيات، وتجاهل حقوق الطفل في الأسرة، يُؤدي إلى نشوءِ وترعْرُعِ ثقافة فرض إرادة فرد على الآخرين، وترسيخها في العقول والأذهان، فيتم الرضوخ إليها مع مشاعر مكبوتة بالظلم لا يمكن التنبؤ في كيفية انفجارها ومتى. إن التمادي في إهانة النساء والأطفال، والاستمرار في إنتهاك حقوقهم المشروعة بكل وسائل القوة والعنف، كل ذلك وغيره يخلق بيئة تكرّس ثقافة القوة والعنف وسيلة لحل جميع مشاكل الأسرة بدل الجلوس معا بكل محبة وتفاهم وتشاور في شؤون العائلة وطرق توفير السعادة والازدهار لأفرادها على السواء باتخاذ قرارات جماعية يتسابق الجميع بكل رضى وشغف على تنفيذها لأنهم يعيشون في كنف ثمارها ونتائجها الرائعة. ففي جو الأسرة وحياتها تبدأ روح تعاون الجميع في تنمية القدرات والمهارات والفضائل لدى جميع الأطراف بكل صبر وهدوء دون تشنجات لا تخرج إلا من الرغبة في الاستبداد والتحكُّم. .


إن مبدأ العدالة له تأثير عميق على بنية الأسرة ورفاهية أفرادها. عندما تسود العدالة في العلاقات الأسرية، تُضمن حقوق كل فرد فيها ويُؤدي دوره في تحمل مسؤولياته بالشكل السليم. ومن جهة أخرى، فإن إيلاء الإهتمام الزائد المبالَغ فيه والتركيز على مصالح الأسرة فقط والسعي لتحقيقها، يمكن أن يضر بمصالح الآخرين. فالعائلات التي لديها وجهة نظر متحيزة لجزء من المجتمع، وتغرس في نفوس أفرادها مفهوم حب الذات لدرجة تبنيّ التفريق بـ (نحن ... وهم) وتنمّيته عمليًا، إنما تقوّض أركان العدالة الاجتماعية وحب الخدمة والإيثار الذي فطر عليه الإنسان في جِبِلَّته. فأطفال ينشأون ويتربون في بيئة كهذه سيحملون معهم مشاعر اللامبالاة أمام معاناة الآخرين ومآسيهم طيلة حياتهم، ويربّون أطفالهم في المستقبل على هذا المنهج السقيم.


إن جو التعلُّم والتعليم في الأسرة هو الخطوة الأساسية في معالجة هذه العلل الإجتماعية الكبرى، فالأطفال يجب أن ينشأوا ويترعرعوا وفي دخيلة أنفسهم أنهم كباقي الأطفال في العالم دون أدنى تمييز، بغض النظر عن الدين أو العرق أو الجنس أو أي تصنيف آخر، وأنه من الواجب احترام حقوق الآخرين. وبمراعاتهم لحقوق أفراد الأسرة يتعلمون مراعاة حقوق الآخرين دون تعدٍّ أو محاباة. عندها تنمو لديهم مشاعر الاهتمام بالغير والشعور معهم، ويتعلمون بقوة الإرادة، سبل الخدمة والعطاء والصبر والتحمل والتصميم ليقطفوا معا ثمار السعادة الدنيوية والأبدية . هكذا يكونون شبابًا وعناصر فعالة في مجتمعهم المحلي ويحملون رؤية أوسع تشمل العالم الإنساني قاطبة، ويغدو ذلك ديدنهم في الحياة، وبه يرضون أنفسهم وضمائرهم ويكسبون رضاء الله وبركاته.


بفضل جيل مرّ وصفه نستطيع أن نبني حضارة إنسانية دائمة التطور والترقي ماديًا وروحيًا بغاية التوازن والانسجام. أليس هذا ما يشكل بُرء الإنسانية من أمراضها ومشاكلها التي غدت مستعصية على الحل رغم جهود قادة الفكر السياسي والاجتماعي والاقتصادي بلا جدوى؟ ذلك لأن أساس كل المشاكل التي نرزح تحتها يكمن في فقداننا القيم والمبادئ الأخلاقية، ففقدنا التضحية في سبيل الغير والعمل على إصلاح المجتمع الإنساني ككل بنظرة شمولية متكاملة لهذا الوجود المادي والإنساني. لقد فقدنا بيئة نشأة طفل سليم وشاب معطاء وكهل عاقل، أفرادًا ومجتمعاتٍ ومؤسسات، كما غدونا نفقد بالتدريج بيئتنا الطبيعية، مصدر حياتنا المادية. وعلى هذا الأساس، وبرؤية ثاقبة شاملة، يسعى البهائيون، أينما كانوا، جاهدين في تقوية أواصر الروابط الروحية بين أفراد كل أسرة بدراسة منهاج روحي متكامل يشمل الأطفال والشباب الناشئين والشباب اليافعين وأولياء الأمور بقصد النهوض بمستوى الوعي الروحي للهدف من حياتنا على هذا الكوكب في هذه الفترة القصيرة من حياتنا الدنيوية. فهذا هو الميدان المقدس الذي يصنع فيه السلام مع النفس البشرية أولاً ثم في المجتمع المحلي والمجتمع الإنساني ككل، فيعم السلام وترتفع خيمة الاتحاد والوئام التي تضم شعوب العالم على اختلاف أجناسها في روية واحدة وهدف واحد يسعى الجميع معًا إلى تحقيقه." الرفاه المادي والروحي والمعنوي"، وبذلك تتشكل مشيئة الله لمخلوقاته على الأرض في الحياة الدنيا والآخرة.


%
تقدم القراءة
- / -