الاستقلال في تحرّي الحقيقة
أليست الحقيقة واحدة من أي جانب نظرناها؟
أليس صرح الحضارة الإنسانية والتقدم المادي في العلوم والمعارف الكونية قائماً على أساس تحرّي الحقيقة؟
فما بال تحرّي الحقيقة الدينية، أليست هي الأساس للإنسان في حياته الروحية وإحساساته الإنسانية؟
أليست التعصبات بجميع أنواعها حجاباً يمنع الوصول إلى الحقيقة؟
ألم تكن التقاليد الموروثة ولا تزال سحباً سوداء تحجب عنا شمس الحقيقة؟
أليس كل إنسان مسؤولاً عن أفعاله أمام الحقّ يوم لا تُغني نفس عن نفس شيئاً؟
أين نحن من كلام الحقّ إلينا "وكل انسان ألزمناه طائره في عنقه" ؟(الإسراء ۱۳)... لعلنا نفكر.
ألم يأمرنا الله تعالى بتحرّي الحقيقة في كل شيء حينما قال "إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا"؟(الحجرات ٦)
أليس تحرّي الحقيقة دوراً خلقياً وحقاً إيمانياً يمارسه الإنسان تنفيذاً لأمر مولاه؟
ألا يقود الإخفاق في هذا الدور إلى التطرف والتشدد وعواقبه الوخيمة؟
لقد خاطب حضرة بهاءالله كل فرد بما هو أحبّ الاشياء إلى الله بقوله:
يا ابن الروح! أحب الأشياء عندي الإنصاف لا ترغب عنه إن تكن إليَّ راغباً ولا تغفل منه لتكون لي أميناً وأنت توفق بذلك أن تشاهد الأشياء بعينك لا بعين العباد وتعرفها بمعرفتك لا بمعرفة أحد في البلاد فكّرْ في ذلك كيف ينبغي أن تكون. ذلك من عطيتي عليك وعنايتي لك فاجعله أمام عينيك. - الكلمات المكنونة العربية
إنها منقذ الانسان من العيش في وهدة الوهم والتقليد بعيداً عن نور الحقيقة بسبب التقاليد الموروثة التي أصبحت ترسم لنا طريق الحياة والمعتقد والايمان دونما أي تفكير وتمعّن في قول الحق، وأصبح تحرّي الحقيقة ضرباً من الكفر مع أنه هو المدخل إلى جوهر الدين وحقيقته. فيخبرنا حضرة بهاءالله في كتابه "الإيقان" بما يلي:
الباب المذكور في بيان أن العباد لن يصلوا الى شاطئ بحر العرفان إلا بالانقطاع الصرف عن كل من في السموات والارض. قدسوا أنفسكم يا أهل الارض لعلّ تصلنّ الى المقام الذي قدّر الله لكم وتدخلنّ في سرادق جعله الله في سماء البيان مرفوعاً. جوهر هذا الباب هو أنه يجب على السالكين سبيل الإيمان والطالبين كؤوس الإيقان أن يطهّروا أنفسهم ويقدسوها عن جميع الشؤونات العرضية، يعني ينزّهون السمع عن استماع الأقوال، والقلب عن الظنونات المتعلقة بسبحات الجلال، والروح عن التعلق بالأسباب الدنيوية، والعين عن ملاحظة الكلمات الفانية ويسلكون في هذا السبيل متوكلين على الله ومتوسلين إليه، حتى يصبحن قابلين لتجليات إشراقات شموس العلم والعرفان الإلهي ومحلاً لظهورات فيوضات غيب لا يتناهي. لأن العبد لو أراد أن يجعل أقوال العباد من عالم وجاهل وأعمالهم وأفعالهم، ميزاناً لمعرفة الحق وأوليائه فإنه لن يدخل أبداً رضوان معرفة رب العزة ولن يفوز بعيون علم سلطان الأحدية وحكمته ولن يرد منزل البقاء ولن يذوق كأس القرب والرضا. - كتاب الإيقان، ص ٣-٤
وفي مقام آخر يتفضل:
قدّس ونظّف بصرك حتى ترى تجليات الأنوار اللانهاية من جميع الجهات، ونزّه سمعك من لوث التقليد حتى تسمع نغمات عندليب الوحدة والتوحيد من أفنان السدرة الباقية… ومن قيود التقاليد اذهب إلى روضة قدس التجريد وفردوس عز التوحيد. - پيام ملكوت، ص ١١-١٢
ويخبرنا حضرة عبدالبهاء بقوله:
... إن غاية طالب العلم العاقل الكامل هي تحصيل العلم بغض النظر عن الذي بينه له، والنور محبوبه في أي زجاج أضاء، والورد مطلوبه في أية أرض نبت، والنير الأعظم يهب الفيض الإلهي من أي مشرق طلع. ولا يجوز أن يتعصب، بل ينبغي أن يكون عاشقاً للشمس سواء طلعت من المشرق الموسوي أم المحمدي أم العيسوي. فالشمس هي الشمس. وعلى هذا فالحقيقة يجب أن تكون هدف الإنسان بغضّ الطرف عمن سمعها منه. هذه هي مسألة تحري الحقيقة. فما هي نتيجة هذا البحث؟ نتيجته أن على جميع ملل العالم أن تتخلي عن كل ما سمعت من قبل، وألا تتمسك بملة ما أو تنفر من غيرها من الملل. فلعل الملة التي نفرت منها على حق، ولعل تلك التي تمسكت بها على باطل، فإذا ما تخلت عما سمعت ولم تتمسك بملة معينة ولم تنفر من غيرها عندئذ يبدأ تحري الحقيقة وسوف تلاحظ في النهاية أن حقيقة الأديان الإلهية واحدة، وأن الاختلاف منحصر في التقاليد، وهكذا يكون تحري الحقيقة سبباً في اتفاق جميع البشر. - خطب عبدالبهاء في اوروبا وامريكا، ص ١٥٧-١٥٨