الدين البهائي
"لتكن رؤيتكم عالمية ..." -- حضرة بهاء الله
"لو رزقت قليلًا من زلال المعرفة الإلهيّة لعرفت بأنَّ الحياة الحقيقيّة هي حياة القلب لا حياةُ الجسد ..." -- حضرة بهاء الله
"إن دين الله ومذهب الله يهدف إلى حفظ واتحاد واتفاق العالم والمحبة والألفة بين اهل العالم." -- حضرة بهاء الله

مسافر إلى الله

محطّات في رحلة البحث عن الحقيقة
(الطبعة الأولى ٢٠١٩)

محمد منصوري


تمهيد

يُشكّل الموروث المقدّس قناعة راسخة يصعب علينا مناقشتها والتعامل معها على أنّها مُجرّد اعتقاد مبني على مسلّمات غيبيّة. ويزيد من صعوبة الوضع اعتمادنا على معرفة جاهزة للاستهلاك تشكّل التوجّه الغالب والمتعارف عليه لمجتمع ما. هذه القناعات الموروثة، والتي تحدّد جُزءًا مُهِمًّا من هويّتنا الجماعيّة، تفرز لنا تلقائيًّا تعصّبًا فكريًّا يصل مداه حين تكون هويّتنا على المحك. ومن الطبيعي أن يؤدّي بنا هذا التعصّب للفكر والعقيدة إلى الجدال والمواجهة العنيفة، لفظيّة كانت أو جسمانيّة، ما دمنا نعتبرها دفاعًا عن المقدّس وعن الهويّة.


وعلى ما يبدو، فإنّ مجتمع البشريّة قد بدأ يؤرّقه هذا الكمُّ الهائلُ من المقدّسات التي تدّعي امتلاكها للحقيقة المطلقة في سؤال توقّف عند حدوده العقل والمنطق حول وجود الآخرة من عدمه وكيف هي "الحياة" بعد الموت، خصوصًا وأنّ هذه المقدّسات تستمدّ قوّتها من ارتباطها بخالق مهيمن على الكون وما فيه. وهنا أيضًا نجد أنّ كلّ واحدة منها تمنحنا تعريفًا، أو بالأحرى تمثُّلًا، لماهيّة هذا الارتباط ونوعيّته. وبعد ذلك تأتي التفاصيل الأخرى من عبادات وقيم ومعاملات لتزيد من هُوَّة الاختلاف وتجسّده بمظاهر بادية للعيان، بعد أن كان الاختلاف مجرّد أفكار مخزونة في الوجدان.


لكن، ما الذي يجعلنا لا نشكُّ ولو للحظة بأنّ ما وصل إلينا من معرفة متوارثة أبًا عن جد، والتي نعتبرها معرفة ,"مقدّسة"، قد تكون في الأصل مبنيّة على أفكار شائعة أو اجتهاد خاطئ؟ هل سبق وتحرّينا في مصداقيّة المصادر ونوعيّة المراجع التي اعتمدناها حول ما نتداوله من معرفة تاريخيّة وعقائديّة؟ وكيف لا، ونحن نتحدّث في أمور جوهريّة تحدّد معالم هويّتنا الفرديّة والجماعيّة، وتشكّل فهمنا للوجود والمصير؟


خاتمُ النبيّين، مثلًا، واحدة من المقدّسات التي بنيت عليها الديانة المحمديّة. وبغضّ النظر عن دلالاتها اللغويّة، نجد أن المؤمنين بهذه الديانة قد اتّفقوا في المجمل على أنّها دليل واضح وصريح بأنّ الوحي قد انقطع، وبأن الله الذي كلّم البشر عبر العصور قد كفّ لتوّه عن الكلام. وكنتيجة حتميّة لهذا الاعتقاد، أصبح هذا الدِّين في نظرهم صالحًا لكل مكان وزمان بصفته آخر الأديان التي أرسلت للبشر كافّة. ومن الواضح أن الأمر لن يستمرّ إلى الأبد، فخاتم النبيّين قد بشّر في نفس الوقت باقتراب "السّاعة" ومجيء يوم ,"القيامة"، وهذه أيضًا من المُسلّمات في العقيدة التي تدلُّ على الفناء و "البعث" الجسدي والحساب والعقاب الجسماني.


خلاصة القول إنّ المسلمين باتوا متّفقين على أنّ نبيّ الإسلام هو آخر المرسلين، وأنّ بعده تقوم القيامة وتفنى البشريّة وينتهي كلُّ شيء في هذا العالم. فما الذي يجعل جملة من الإشارات الغامضة، كختم النبوة والسّاعة والقيامة والبعث، تصبح مع مرور الوقت معرفة متداولة لا تقبل الشك؟ وهل هكذا تنتهي قصّة البشريّة بالفعل، أم أنّ هناك نهاية مختلفة لهذه الحكاية؟ ثم من قال أصلًا أنّ للحكاية نهاية؟


إنّها قصّة بشريّة تنمو وتتطوّر وتَتَكَشَّفُ ملامِحُها عبر الزمن، وكأنّنا نسير في طريق لا يُرى آخره، ننتقل فيه من معلم إلى آخر. ومن الواضح أنَّ هذا الطفل البشري الذي تعَلَّم الوقوف والنطق والكتابة، قد بلغ واشتدّ عُودُه في غفلة من الجميع. وككلّ بالغ لا أظنّه سيقبل بعد اليوم بحكايات الماضي وأساطيره، وستجده يبحث بنفسه في مُسَمَّيَات الأشياء وأصلها. فهل من معنى آخر غير الذي سيق لنا عن "خاتم النبيّين" وغيرِها، من قيامة وساعة خَفِيَ علينا سرُّها ... أو يكاد؟


هذا ما حاولت جاهدًا أن أعرفه من خلال بحثي في "الكتب المقدّسة" وكتب التفسير والسِّيرة النبويّة، حتى وجدت نفسي غارقًا في تاريخ الحضارات القديمة وكتب الفلسفة المثيرة. إلى أن جاء اليوم الذي يُخبرني صديقي بأنّه على دِينٍ جديد، في تلك اللحظة بالذّات أحسست أنّي أُمسك بيدي مفتاحَ بابٍ من حديد. وأنا اليوم، إذ أخُطُّ هذه السطور، لا أدّعي الحجّة والبرهان، ولا أجادلكم بما جاءت به الأديان. فقط أسلك من جديد طريق رحلتي إلى الله مترنّحًا بين الشكّ والإيقان، باحثًا عن الحقيقة، مسافرًا بين الوديان. وأول الطريق سؤال، فسؤالان ... ثُمّ تساؤلات كثيرة!!


كنت أتساءل، وليس في السؤال خطيئة: إذا أصبح الناس على دين واحد، هل كانت لتنتهي الحروب ويعُمَّ السلام والسكينة؟ ألسنا جميعًا من أصل واحد، وركبنا ذات يوم تلك السفينة؟ وإذا كان أهل الدِّين الواحد لا يتّفقون، كيف يمكننا أن نعود للأحكام القديمة؟ كيف نُحقّق الوحدة ونحن نرفض الاختلاف ونعدُّه جريمة؟


في الأديان السابقة مذاهب ومدارس عتيقة، وكلّ فريق يرى أنه يمتلك الحقيقة. وفي الأديان السابقة طقوس وأحكام قديمة لم تَعُد تُساير الحاضر في شيء وفي تطبيقها مشقّة عظيمة. فلِمَ الإصرار على فرض رؤية محدودة تُقصي كثيرًا من الخلق، ويختلف أصحابها في تمييز الباطل من الحق؟


وسط هذا الاختلاف والتنوّع في الأفكار والمعتقدات من منَّا يمتلك الحقيقة؟! من منَّا يعرف الله حقَّ المعرفة حتى يدَّعي أنَّه خَيْرُ الخليقة؟ وماذا نعرف عن وجوده وعن ملكوته حتّى نؤمن به أو لا نؤمن بالمرة؟ ماذا نعرف عن رُسُله، عن طبيعتهم وعن حُجَّتهم، حتّى نصدّقهم أو نُسارع إلى تكذيبهم؟ ماذا نعرف عن الأديان، عن تاريخها وعن أصلها؟ ماذا نعرف عن الكلمة الإلهيّة، عن معناها وعن ماهيّتها؟ وما الذي نعرفه عن الروح وعن بقائها، وعن الحياة والسبب من وجودها؟ ... كلّ ما نعرفه مبنيٌّ على إيمان واعتقاد، فلماذا كلّ هذا الجدال والعناد؟! لماذا الإصرار على رأي دون بحث واجتهاد بقلب سليم وشوق في الفؤاد؟ ففي النهاية هو سؤالٌ في المصير وليس في الهويّة ومن معه الحقُّ ومن له السَّداد. هي أمورٌ كثيرة أثارني غموضُها وجعلني أسير في طريق بلا نهاية، فشكَّلت محطَّات رحلتي من البداية!


*********


مَحَطَّات الرِّحلة

- المحطّة الأولى: البداية ...
- المحطّة الثانية: حاجز الهويّة
- المحطّة الثالثة: في مفهوم الدّين
- المحطّة الرابعة: حين تَكَلَّمَ الله
- المحطّة الخامسة: خاتم النبيّين
- المحطّة السادسة: المسيح المنتظر
- المحطّة السابعة: يوم القيامة
- المحطّة الثامنة: الصّراط المستقيم
- المحطّة التاسعة: جنّة الإيمان
- المحطّة العاشرة: الامتحان


*********


%
تقدم القراءة
- / -