الدين البهائي
"لتكن رؤيتكم عالمية ..." -- حضرة بهاء الله
"لو رزقت قليلًا من زلال المعرفة الإلهيّة لعرفت بأنَّ الحياة الحقيقيّة هي حياة القلب لا حياةُ الجسد ..." -- حضرة بهاء الله
"إن دين الله ومذهب الله يهدف إلى حفظ واتحاد واتفاق العالم والمحبة والألفة بين اهل العالم." -- حضرة بهاء الله

مسافر إلى الله

محطّات في رحلة البحث عن الحقيقة


خاتمة

في عالم مضطرب يبحث له عن هويّة، كثُر الهدم والدمار وتعالت أصوات القتل في كلّ مكان. هذا ليس من ديني وهذا ليس من شيعتي، هذا ليس من قومي وهذا ليس من أمّتي، أنتم! نحن! هم! ... فوضى من الهويّات، كلّ واحدة منها تدّعي الأفضليّة. وسط هذا المشهد المظلم الكئيب وقفت وتساءلت: أليس من شيء يجمعنا، يوحّدنا كي نتعايش في أمان؟ كي لا نتقاتل باسم العرق وباسم الأديان؟ هل نسينا من نحن؟ ألسنا في الأصل، جميعًا، أبناء الإنسان؟


نحن عائلة واحدة لا تخلو من أبناء العم! نسكن الأرض نفسها ونتنفّس الهواء نفسه. ذات يوم ذهب كلّ منّا في طريقه، يسعى في كسب رزقه، فبنينا وشيّدنا وصرنا ما نحن عليه. اليوم كلٌّ يدعو لأبيه، ونسينا أو تناسينا أنّنا "أثمار شجرة واحدة وأوراق غصن واحد".


لقد أصبح بديهيًّا، في ظلّ الاكتشافات العلميّة المتوالية، أنّنا ننتمي للعائلة الإنسانيّة نفسها، وأنّه لا وجود للعرق إلّا في العقول المتعصّبة وكتب التاريخ البالية. فالمجتمعات الحديثة هي أقرب إلى مفهوم المواطنة منه إلى مفهوم القوميّة، والاتحادات السياسيّة بين الشعوب هي قائمة على ارتباطات جغرافيّة تجعل من الأمن والاقتصاد مصلحة مشتركة وإن اختلفت اللغة والثقافة والهويّة. كما أنّ مشاكل المناخ والتهديدات البيئيّة بدأت تجمع الشعوب حول طاولة واحدة، وتُوحّد قراراتهم وتطلّعاتهم لمستقبل البشريّة.


وبسبب ارتفاع معدّلات الهجرة الفرديّة والجماعيّة، بشكل متكرّر وفي اتجاهات مختلفة، فإن التركيبة الاجتماعيّة للشعوب صارت تتغيّر وتتنوّع باستمرار، حتّى أصبحنا نرى صورة مصغّرة عن العالم في الدولة الواحدة. فمن سيحارب من؟ ومن سيقضي على من؟ ومن سيحكُم من؟ حَرِيٌّ بهذه الأفكار أَلّا تذكر إِلّا في القصص الغابرة. فلم يعد هناك شيء اسمه "هُم" و "نَحن"، وكلّ الشعوب صارت تعزف لحنًا واحدًا ولو بآلات متنوّعة.


إنّ كلّ ما يحدث اليوم من اضطراب وتصدّع في المعتقدات والأفكار والمبادئ والتصرّفات ليس وليد اللحظة وإنّما هو جزء من عمليّة النموّ والتطوّر التي تشهدها الإنسانيّة. فلم تخلُ العصور والأزمنة السالفة من قوى الهدم والدمار، كما لم تخلُ أيضًا من قوى البناء والإعمار. وإذا تأمّلنا تاريخنا المشترك نجده بالفعل مليئًا بالأحداث الدامية والفترات العصيبة، إلّا أنّ ذلك لم يمنعنا من التقدّم والازدهار. وبالرغم من الحروب والكوارث والمآسي، ازدهرت الحضارة وتطوّرت الفنون والعلوم والآداب. فقد مرّت الإنسانيّة في المرحلة السابقة بأطوار متميّزة من النموّ، وكانت حقبة اللغة والخطّ علامة فاصلة لما سبق. كما ساهمت الزراعة بدورها في ترويض الأرض، والانتقال بنا من حياة البدو والترحال إلى المدنيّة والاستقرار. لكنّ اليوم، هو فعلًا يوم جديد!


اليوم، قد طوّرنا قدرتنا على التواصل بشكل مثير للإعجاب. فكان التلغراف والهاتف ثم الإنترنت والطيران والأقمار الصناعيّة، حتّى صار العالم الفسيح الشاسع قرية واحدة يتجاور سكانها. وها هم يستكشفون الفضاء وأعماق المحيطات، يعلمون متى يسقط المطر وما تحمل الأنثى، ويُشَغِّلون التلفاز بقُدرة قادرٍ متفوّقين على سحرة فرعون في زمَن موسى. أليست اللحظة فارقة في تاريخنا؟ أليست إعلانًا صريحًا بانتقال الإنسانيّة من طفولتها الجماعيّة إلى مرحلة البلوغ؟!


إنّها مرحلة متسارعة مليئة بالتغيّرات والاضطرابات بحثًا عن الذات وعن الهويّة. فنحن ندرك أنّه في سنّ البلوغ والمراهقة يحتاج الشابُّ الناشئ إلى مرافقة حثيثة وتوجيه مستمرّ، غير أنّ الأسلوب يختلف تمامًا عمّا كان عليه في مرحلة الطفولة. فلا مجال هنا لإعطاء الموعظة والتهديد بالعقاب، ما يحتاج إليه الشابُّ الناشئ هو مخاطبة الوجدان وإثارة الحسّ المرهف الكامن فيه لفعل الخير وإصلاح العالم. ما تحتاجه الإنسانيّة كذلك في هذه المرحلة هو تربية روحانيّة تهدف إلى تحقيق السلم والسلام والوحدة بين جميع البشر، ليس خوفًا من نار "جهنَّم" أو طمعًا في الجنان، بل لأنّها أصبحت تدرك أهمّيّة الاتّحاد في عالم مترابط الأركان.


كلُّنا يدرك بأنَّه في القرون السابقة استمرّ التأرجح بين حالة الحرب والسلم حسب توازن القوى الموجودة، إلّا أنّ فكرة التحكّم والسيطرة ظلّت قائمة لدى هذه المجتمعات تُغذّيها الرغبة في السلطة من جهة، ومفهوم الواجب المقدّس من جهة ثانية. واليوم، بفضل تأسُّس النظام العالمي الجديد، رغم ما يعتريه من نقائص فهو لا يزال في مرحلة التكشُّف، أصبحت العلاقات بين الشعوب يحكمها القانون الدولي، ولم تَعُد هذه الحروب الدينيّة والطائفيّة موجودة إلّا في بُؤَر محدودة. لكن، وللأسف الشديد، لا تزال الرغبة التحكّميّة المستمدّة من هذا الوازع الديني حاضرة في مخيّلة عدد كبير من المتديّنين، وهُم ليسوا بالضرورة متشدّدين.


لذلك، نحن في حاجة إلى الإيمان بالوحدة والسلام في هذا العالم لكي يتصالح المسلم والمسيحي واليهودي، والهندوسي والمجوسي والبوذي، ويتصالح الشرق مع الغرب والجنوب مع الشمال، ويتصالح السود مع البيض والنساء مع الرجال. نحن نحتاج إلى الإيمان لنُحقّق "الصُّلح الأعظم"۱۱٤ حتّى تعلو الهويّة الإنسانيّة على كلّ الهويّات الفرعيّة، وتصبح الوحدة في التنوّع أسلوب حياة ينبع من الوجدان.


لَيْسَ الفَخْرُ لحُبّكم أَنْفُسِكُم بَل لحُبّ أَبنَاء جِنسِكُم ولَيْسَ الفَضْلُ لمَن يُحبّ الوَطَن بَل لمَن يُحبّ العَالَم
بَهاءُ الله


فهل نحن أمام مفترق طرق وعلينا الاختيار مرّة أخرى؟! هل سننقسم من جديد إلى مؤمنين وكفّار؟ أم أنّ هذا اليوم يختلف عن سابقيه، وهذا النداء يمكن أن يسمعه الجميع، سواء آمنوا بمصدره الغيبي أو لأنّهم وجدوا فيه سبيلًا للتغيير والإصلاح؟!


إنّ نداء الوحدة والسلام العالمي مُقَلِّبٌ للقلوب والأرواح، ولا يستطيع أن يتجاهله إنسان يسعى إلى تحقيق السعادة والرخاء، أكان نداءً من الأرض أو قادمًا من رَحِم السماء. هذا ما استنتجته من تجربتي، وهذا ما اكتشفته في رحلتي بحثًا عن الحقيقة. فلم يكن هدفي في الحياة له معنى، ولم أكن لأحلم بأن تصبح رؤيتي عالميّة. كنت أبحث عن الحقيقة وهي معي ترافقني بكرة وعَشِيّا، وكنت أبحث عن الله في سفري فوجدته في وحدة البشريّة.


اليوم، لا زلنا نقف وسط ذلك المشهد الكئيب. مع كلّ أزمة نتفقّد ذوينا ونستجمع قوانا، بعد أن تألّمنا وبكينا ونال الحزن منّا. لكنّنا أيضًا بدأنا نُضيء الشموع ونَتْلُو الصلوات، ونُمْسِكُ بيد الصديق والغريب فقط لأنّه قريب منَّا، حزين مثلنا، يناجي السماوات. اليوم ما يجمعنا هو أصلنا، هو إنسانيّتنا، هو حسُّنا المتنامي بالهدف من الحياة. فلا يَسَعُنا إلّا أن نَبْنِي كلّ ما تَهَدَّم، لأنّنا نحن من يصنع السلام، ومعًا سنجعل البناء أجمل.

*********

في الأخير أودُّ أن أوجّه هذا النداء لكلّ الذين قرأوا هذه السطور، متأمّلين في رحلتي المستمرّة استمرار ما في العمر من شهور، ولكن ليس لأن تسلكوا نفس الدرب الذي سلكته أو تقتنعوا بمثل ما اقتنعت وآمنت به بقلبي وعقلي، ولكن لتتحرّوا الحقيقة بأنفسكم وتتساءلوا عن وجودكم والهدف من خلقكم. فربّما لن تغيّروا من قناعاتكم ومعتقداتكم شيئا، لكنّي متأكّد من أنّ نظرتكم للأمور لن تظلّ أبدًا كما كانت عليه من قبل.


%
تقدم القراءة
- / -