مسافر إلى الله
محطّات في رحلة البحث عن الحقيقة
المحطّة السادسة
المسيح المنتظر
مِن بين الأمور التي لفتت انتباهي وبدأت تشغل تفكيري في موضوع تعدّد الديانات واختلافها، هو السبب وراء تمسّك كلّ فئة بمعتقدها ورفضها التغيير أو مجرّد الاطّلاع على ما جاءت به الأديان الأخرى. وحين تتحدّث هذه الأديان عن ظهور شخصيّة قياديّة جديدة، فيما اصطلح عليه بالنبوَّات أو التنبّؤات، يُفهم ضمنيًّا بأنّ هذا المبعوث "المنتظر" سيحافظ على الدين نفسه دون تغيير، وفي الوقت نفسه سوف يجدّده ويعيد له قوّته وتوهُّجه. كيف سيتحقّق هذا الأمر؟! هذا هو اللغز الذي حيَّر الباحثين والمتديِّنين منذ سنين مضت.
أظن أنّه بمرور الوقت يصبح التعلّق بالدِّين مسألة نفسيّة تدخل في إطار تكوُّن شخصيّة الإنسان وهويّته، حتّى وإن لم يكن مقتنعًا بمعتقداته وممارساته. والتفكير في التغيير أو مجرّد البحث في حقائق الأمور يصيبه بنوع من الخوف والارتباك لأنّه يخشى أن يفقد استقراره الروحي وراحته النفسيّة والاجتماعيّة، ويصبح بعد ذلك في مواجهة مصير مجهول. ولذلك تجدنا نتمسّك بالهويّة الدينيّة وبالرموز الدَّالة عليها أكثر من تمسّكنا بالدِّين نفسه، أي بأهدافه ومقاصده. ولهذا السبب أيضًا تجدنا "نؤمن" بمجيء "موعود" منقطع النظير ننتظره بشغف وحبّ كبير، ولكنّنا لا نتصوّره خارج مجال هويّتنا وانتمائنا. ولدينا في مسألة "ظهور المهدي" و "عودة المسيح" أفضل مثال.
فمن منّا لم يسمع بقصة المسيح؟ المخَلِّص الذي انتظرته اليهود لسنوات طويلة، فلمّا ظهر فيهم كذَّبوه وصلبوه، أو "شُبِّه لهم"، وبعد حين صدّقته الروم، بل اعتبروه ابن الله وكأنّهم يُذكِّروننا بأنصاف الآلهة. نفس المسيح وعد أتباعه بظهور جديد فأخذوا يترقّبون عودته ويرصدون علامات ظهوره جيلًا من بعد جيل. والغريب في الأمر أنّ المسلمين كذلك آمنوا برجوعه، أو الأحرى بِـ "نزوله"، وهم أيضًا لهم علاماتهم وإشاراتهم التي تدلّ عليه وعلى اليوم الموعود والساعة المنتظرة. فمن يا ترى سيتعرّف عليه ويؤمن به وقت ظهوره من بين هؤلاء؟
فلو جاء المسيح مرة أخرى بغير شريعة موسى، كيف ستؤمن به اليهود وقد كذّبوه في المرّة الماضية؟ ولو جاء حاملًا صليبه ذات الشمال وإنجيله ذات اليمين، من كان ليؤمن به من بين المسلمين؟ لأن الأمر سيكون أشبه برِدَّة جماعيّة. ثم إذا جاء على دين الإسلام مُردّدًا آيات القرآن فمن سيؤمن به من بين اليهود والمسيحيّين، والقرآن يتلى على مسامعهم منذ مئات السنين، هذا إن لَقِيَ عند المسلمين أنفسهم آذانًا صاغية. أمّا إذا أحيا "السَّبْتَ" من جديد ونادى في "شعب الله المختار"، سيقول الآخرون وما حاجتنا به نحن الأغيار؟ وكيف يعود على ملّة اليهود وقد عذّبوه أوّل مرّة وأنكروا عليه ما جاء في الأسفار؟ ... يا لها من قصّة غامضة ألهمتنا في الصغر، وحيّرتنا ونحن كبار !!
بحلول الألفيّة الثالثة لم تعد هذه المسألة تحظى بنفس الاهتمام والدّعاية، فقد طال الانتظار كثيرًا وبدأت الأجيال الصاعدة تشكّك في حقيقة الرواية، بل وفي حقيقة النصّ الديني بكلّيته. وبغضّ النظر عن دين المسيح حين عودته والهدف من دعوته، يبقى السؤال مشروعًا حول شكله وماهيته، ناهيك عن كيفيّة ظهوره. فمن يكون المسيح المنتظر في مخيّلة البشر الذين آمنوا به وبظهوره من جديد؟ هل هو نفس الشخص الذي يتوسّط لوحة "العشاء الأخير" لليوناردو دافينشي، وهي اللوحة التي تتزيّن بها المتاحف وكنائس المسيحيّين؟ وهل سينزل من السماء في مشهد سرياليّ خارق للعادة ولقانون الطبيعة كما يتصوّر ذلك كثيرٌ من المسلمين؟ أم أنّ في الأمر تشابهًا ومجازًا، ويحتاج لكثير من التمعُّن والتفكّر بعيدًا عن التعصّب والأوهام والمسبق من الأحكام؟ وأنا بطرحي لهذا السؤال، إنّما أدعوكم لإعمال العقل قبل ترديد نفس الكلام.
فمثلًا في "العهد القديم"۲٦ يتمُّ وصف مشهد قدوم المسيح كملك مدعَّم بجنود الملأ الأعلى وملائكة السماء، قادمًا فوق الغمام ليخلّص اليهود من أَسرهم وذُلِّهم، ويجمع شملهم من جديد، ويُعيد إليهم مجدهم العتيد. ويبدو أن شخصيّة "عيسى" أو "يسوع" وحياته البسيطة لم تَرُق لعلماء اليهود وأحبارهم، هُم الذين ينتظرون قدوم الملك، أو لأنه غيَّر شريعتهم معلنًا بداية عهد جديد. المهم أنّه، في النهاية، لم يؤمن به إلّا القليل ممّن عاصروه رغم ما رُوي عنه من "معجزات" و "كرامات" من المفترض بها أن تقطع الشك باليقين.
"الكتاب المقدّس" نفسه نجده يتحدّث عن عودة المسيح مرّة أخرى في آخر الزمان ولكن هذه المرّة "باسم جديد". أظنّ أنّ هذا أكبر دليل على أنّ الأوصاف المذكورة في "الكُتُب المُقدَّسة" هي تعابير مجازيّة يلفّها الغموض من كل جانب، فهي مليئة بالرموز والإشارات الخفيّة ولا تُفهَم بظاهرها ومعانيها الماديّة. ولذلك لا عجب أنَّ اليهود لا زالوا ينتظرون ظهور المسيح "الحقيقي" في نسخته الأولى، قبل الحديث عن عودته مرّة ثانية. فهل سيرتكب المسيحيّون والمسلمون نفس "خطئهم" في هذا الظهور الجديد؟ يبدو لي الأمر كذلك! فمجرّد الحديث عن ترقّب "نزوله" من السماء يُعيد للأذهان مَشْهَدَ الملك الموعود الذي انتظره مَجْمَعُ اليهود. بالإضافة إلى ذلك، هل يُعَدُّ النزول من السماء، في عصرنا هذا، شيئًا خارقًا أو مستحيلًا حتّى يكون دليلًا على صدق المسيح المنتظر؟
من جهة أخرى، نجد قصّة المسيح نفسها أو ما شابهها في مختلف الديانات الموجودة. فمنهم من ينتظر عودة "بوذا" ومن ينتظر ظهور "المُعلِّم الكبير" ومن ينتظر "القائم" و "صاحب الزمان"، وكلّها أوصاف لظهور عظيم يتجدّد به الدِّين، فتنعم الأرض بالراحة والأمان. ثم بعد ذلك تكون النهاية وتقوم القيامة، لنتساءل بكلّ تلقائيّة: وما الهدف من كلّ هذا العناء؟ إلّا إذا كان فَهْمُنا للقيامة، أيضًا، فَهْمًا خاطئًا ولا يعني بالضرورة الفناء!
إنّ الديانات الإبراهيميّة الثلاث، على الأقل، تؤمن باقتراب ظهور مبعوث إلهيّ جديد، أو مُجَدَّد، يتزامن ظهوره مع مجيء القيامة ونهاية الزمان. وسواءٌ عادَ المسيح ابن الله أو عاد لنا ابن الإنسان، فهذا خير دليل على استمرار الوحي وتجدّد الأديان. وإذا صرنا اليوم نشكّك في الأمر ولا نذكره كثيرًا كما كنّا نفعل في السابق، فربّما لأنّنا لم نعد نعرف شيئًا عن "عودة المسيح" ولا عن "ظهور المهدي" المنتظر. ولا ندري إن كان علينا أن نتحرّى الحقيقة بأنفسنا أم نتّبعَ "فقهاءنا" كما يفعل سائر البشر؟ فكيف لنا أن نهتدي إلى حضرة المسيح لو تجلّى لنا في يوم من الأيام؟ ثم من قال بأنّه لم يَمُر بالقرب منّا كما يمرُّ "السَّارِقُ فِي اللَّيل"۲۷ والناس نيام؟ أليس هذا ما أخبر به عيسى بن مريم حواريّيه حين كان يحدّثهم عن يوم عودته: "اِسْهَرُوا إِذًا لأَنَّكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ فِي أَيَّةِ سَاعَةٍ يَأْتِي رَبُّكُمْ. وَاعْلَمُوا هذَا: أَنَّهُ لَوْ عَرَفَ رَبُّ الْبَيْتِ فِي أَيِّ هَزِيعٍ يَأْتِي السَّارِقُ، لَسَهِرَ وَلَمْ يَدَعْ بَيْتَهُ يُنْقَبُ. لِذلِكَ كُونُوا أَنْتُمْ أَيْضًا مُسْتَعِدِّينَ، لأَنَّهُ فِي سَاعَةٍ لاَ تَظُنُّونَ يَأْتِي ابْنُ الإِنْسَانِ."۲٨؟!
في النصف الأوّل من القرن التاسع عشر استحوذ على العديد من الناس شعورٌ عميقٌ من التَّرقُّب والانتظار لعودة السيّد المسيح. وبينما كان المسيحيّون ينتظرون المجيء الثاني ليسوع المُخلِّص، اجتاحت العالم الاسلامي موجة من التوقّعات بظهور "المهدي المنتظر" الذي يَسْبِقُ "نُزُولَ" عيسى ابن مريم. هكذا اعتقد كلٌّ من المسيحيّين والمسلمين بأَنَّ عصرًا روحيًّا جديدًا سيبدأ تحقيقًا للنبوّات التي جاءت في كتبهم المقدّسة. وفي الوقت الذي كانت فيه كل التوقّعات في الغرب تشير إلى سنتي ١٨٤٣-١٨٤٤م، ظلّ المسلمون يترقّبون حلول سنة ١٢٦٠هـ بفارغ الصّبر حسب ما ذهب إليه كثير من المفسّرين. والغريب في الأمر هو أنّ هذه السنة توافق نفس الحقبة من التأريخ الميلادي. لكن سرعان ما مرّت هذه السنة دون شيء يُذكر، وأُصيب الكثيرون بخيبة أمل كبيرة.
اكتشفتُ هذا الجانب الخفيّ من تاريخنا المشترك بعد أن حدثني صديقي عن عقيدته التي نشأت خلال هذه الفترة بالذَّات. وعرفت أنّه في السنة نفسها التي كان العالم في الغرب ينتظر ظهور المسيح ونهاية الكون، كانت قصة مثيرة قد بدأت تُنْسَجُ فصولها في الشرق. ففي ليلة الثالث والعشرين من شهر مايو/أيار سنة ١٨٤٤م أعلن تاجر شابٌّ من إيران – يُدعى السيد علي محمد – والمعروف بانتمائه للسلالة النبويّة بأنّه صاحب رسالة إلهيّة، طال الوعد بها، ومقدّر لها أنْ تُحوِّل الحياة الروحيّة للجنس البشري وتُحيِيها من جديد.
كان المجتمع الفارسي آنذاك يرزح تحت وطأة انهيار خُلُقيّ وثقافي واسع في مداه، فأثار ذلك الإعلانُ الأملَ والانفعالَ لدى طبقات المجتمع كافّة، وسرعان ما اجتذبت الدعوة الجديدة الآلاف من المؤيّدين والأتباع. وكان لقب "الباب" الذي اتّخذه لنفسه إشارة واضحة بأنَّ مجيئه لم يكن إلاّ مَدْخَلًا تَعبُرُه الإِنسانيّة نحو ذلك الظُّهور الإلهيّ الذي ينتظره البشر في كلِّ مكان. فقد أعلن عن الظهور الوشيك لرَسُولٍ ثانٍ يبعثه الله، يكون أعظم شأنًا منه، ويحمل رسالةً جديدة لبَدْءِ عهدٍ من العدل والسلام، وهو ما وَعَدَ به من قبل كلُّ دينٍ عالميّ اعتنقه البشر.
لقد اتّسم الإعلان عن الدعوة الجديدة بالشجاعة والإقدام، وهي الدعوة التي رسمت للبشر رؤية مجتمع جديد في كلّ نواحيه، فأصاب الفزع المؤسّسات الدينيّة والمدنيّة على حدّ سواء. وسرعان ما تعرّض أتباع "الباب" للاضطهاد والتعذيب نتيجة لذلك، وأُعدِم الآلاف منهم في سلسلة من المجازر الفظيعة. وسَجَّل عددٌ من المراقبين الغربيّين الشجاعة الخارقة التي أبداها هؤلاء وهُم يواجهون حملة العنف والاضطهاد تلك، وأصبحت أخبار "الباب" موضوع حديث المنتديات الفكريّة والأدبيّة الأوروبيّة بصورة متكرّرة. وحَمَلت تلك الأخبار البطولة التي تحلَّى بها أتباعه، وحكت عن سيرته ونُبل تعاليمه. وفي نهاية الأمر قرّرت السُّلطات في إيران التخلّص من "الباب" وإِعدامه، فنفّذ فيه الحكم في التاسع من يوليو/تموز عام ١٨٥٠م. استمرّت دعوة "الباب" في الانتشار رغم ذلك، وفي سنة ١٨٦٣م أعلن ميرزا حُسين علي النُّوري – ولقبه "بهاءُ الله" – بأنّه الموعود الذي طال انتظاره.۲٩
كان "بهاءُ الله" ينتمي إلى إحدى العائلات الفارسيّة الحاكمة، وهو ابن وزير في بلاط الشاه. وكان لا يزال في ريعان شبابه حين رفض أن يتقلّد نفس المنصب بعد أن تُوفِّي والده. لقد كان هذا الإعلان بمثابة النفخة الثانية في الصُّور، وكان صداه مدوّيًا في الشرق كما في الغرب. حدث ذلك في بغداد بالعراق، المكان الذي نُفي إليه مع عائلته بعد أن صدّق بدعوة "الباب" وصار من وزرائه. وكانت العراق آنذاك تخضع للحكم العثماني كغيرها من الأمصار العربيّة في مرحلة تعدُّ الأخيرة من تاريخ الخلافة الإسلاميّة.
مَكَثَ "بهاءُ الله" في منفاه ببغداد عشرَ سنوات قبل أن يَشُدَّ الرحال إلى المجهول مستمرًّا في رحلة نفيه وحبسه التي دامت أربعين سنة. كانت الوجهة هذه المرّة هي إسطنبول، ولكن المقام بها لم يدم طويلًا حيث تَمّ ترحيله من جديد إلى أَدِرْنَة على الجانب الأوروبي من الإمبراطوريّة العثمانيّة، وبعد ذلك أودع سجن عكّاء بفلسطين والتي اشتهرت آنذاك بسجنها العظيم وبيئتها الملوثة. وفي هذا المكان الموحش أمضى "بهاءُ الله" بقيّة حياته بين السجن والإقامة الجبريّة إلى أن صعدت روحه، فوُوري الثرى بأرضها التي تحوّلت اليوم إلى واحدة من أجمل بقاع الدنيا.۳۲
لقد حمل "بهاءُ الله" رسالة جديدة إلى البشر تؤكّد مبدأ وحدانيّة الله، وتنصُّ على وحدة الأديان ووحدة الجنس البشري. فقد أخبر أنّ الإنسانيّة اليوم تُوَدّع مرحلة الطفولة وتقف على عتبة مرحلة البلوغ والنضج، وهي مرحلة ستشهد تدشين عصر السلام العالمي. ومن خلال آلافٍ من الآيات والرسائل والألواح وَضَع الخطوط الرئيسة لإطار عمل يهدف إلى تطوّر الحضارة العالميّة، ويأخذ بعين الاعتبار البُعدين الروحي والمادي لحياة الانسان. ومن أجل ذلك، تحمّل السجن والتعذيب والنفي طيلة أربعين عامًا.۳٤
بعد أن تعرّفت على هذا الجزء المغيّب من تاريخ الأديان، تساءلت في البداية لماذا نجهل هذه الحكاية؟ ثم سرعان ما تذكّرت قصّة المسيح الذي عذّبه قومه وأنكروا عليه دعوته، فظلّت في طيّ النسيان ولم تقم لها قائمة إلا بعد مرور ثلاثة قرون. وتبادر إلى ذهني أيضًا ما أخبر به أصحابه عن عودته المتخفيّة كسارق يتسلّل في جنح الظلام. كما شدّ انتباهي تطابق هذه الرواية مع ما هو شائع ومتداول في الأثر الإسلامي عن ظهور المهدي من ولد فاطمة والذي يعيش سبع سنين، وعن عودة عيسى الذي يكون من وزرائه ويحكم أربعين سنة.۳٦
إنّ كثرة الاستدلالات والتأويلات التي تتقاطع مرارًا وتكرارًا في الزمان والمكان مع هذين الظهورين شيء مثير للاهتمام لكنّه لن يكون أبدًا حجّة دامغة على صدق الرسالة، وإلّا لآمن من على الأرض كلّها، ولَمَا كُذِّب المُرسَلون من قبل. لكن، كان لا بُدّ من التساؤل عن السبب الذي يجعل شابًّا في مقتبل العمر يدعو إلى أمر سيؤدّي إلى إعدامه، ويكون هذا الأمر هو فقط إعلانًا عن اقتراب ظهور الموعود الذي بشّرت به الرسالات السماويّة من قبل. ثم يأتي نبيلٌ، سليل أسرة حاكمة، ويزهد في الحكم والثروة ليُعلن للنَّاس أنّه ذلك الموعود المرتقب، وكلمةُ الله التي ستوحّد العالم وتنشر السلام والمحبّة بين البشر كافّة، فيكون مصيره النفي والسجن مدى الحياة؟!
بالنسبة لي، هي نفس القصّة ونفس الحكاية التي نشاهد حلقاتها من زمن لآخر لشخصيات عظيمة ضحّت بنفسها لتحمل إلينا رسالة من عند الله فيها دعوةٌ للإصلاح وسبيلٌ للرقيّ والنجاح. وإن كنّا عاجزين عن إدراك طبيعة الرسالة وماهيّتها، فإنّنا على الأقل نستطيع التفكُّر في مضمونها ومُحتواها لعلّنا نستكشف هدايات تُنير دربنا، كأرض أشرقت بنور ربّها بعد ليلة ظلماء.
إذن الهداية هي الحجّة والبرهان، ولكنها حُجَّة المؤمنين فقط الذين يُكلِّمُهم الله من حينٍ لآخر. فكلّ الأديان العظيمة لَعِبت هذا الدَّور في حياة البشر، فكانت هي المنهاج والدافع للتقدّم والازدهار. لذلك قال حضرة المسيح: "من ثمارهم تعرفونهم"۳۷. فكلمات الله هي النُّور الذي أنار سماء البشريّة على مرّ العصور. وهذا ما جاء في القرآن الكريم: "اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ"۳٨.
إنّ كلّ شيء في هذه القصّة يُخبرني بأنّ وَعْدَ الله تحقّق. فإذا كان المسيح قد عاد إلينا من جديد في مَجْدِ أبيه وبَهَائِه، هل نكون الآن نعيش يوم القيامة غير مُدركين بمجيئه؟!