الدين البهائي
"لتكن رؤيتكم عالمية ..." -- حضرة بهاء الله
"لو رزقت قليلًا من زلال المعرفة الإلهيّة لعرفت بأنَّ الحياة الحقيقيّة هي حياة القلب لا حياةُ الجسد ..." -- حضرة بهاء الله
"إن دين الله ومذهب الله يهدف إلى حفظ واتحاد واتفاق العالم والمحبة والألفة بين اهل العالم." -- حضرة بهاء الله

العدالة

تبدأ العدالة عند الفرد أولاً، وأسمى ما تعنيه أن يعرف الإنسان نفسه بأن جوهر روحه نفحة من الله، وفيها كنزت جميع الفضائل الإلهية التي يجب أن تظهر في الوجود برتبة الإنسان، وبها يعرف خالقه بعظمته وجلاله فيحبه ويعبده طائعًا لا رهبة من نار أو طمعًا في جنّة. بعد ذلك ينتقل هذا الوعي إلى أفراد المجتمع وإلى مؤسساته وهيئاته فتسود العدالة والمساواة بدل الظلم والقهر والاعتساف.


لذلك، فهي من أهم مبادئ الدين البهائي، لأن الحضارة الإنسانية تعتمد في تطوّرها على إقامة العدل وتطبيق مبادئ العدالة في جميع شؤون الحياة الفردية والجماعية. وحتى ندرك تمامًا ونفهم تعاليم حضرة بهاء الله عن العدالة يجب القبول أولاً بمبدأ وحدة الجنس البشري، وهو القاعدة التي يقوم عليها كل شيء. حينئذ تصبح العدالة أمرًا منطقيًا ملازمًا لذلك المفهوم لا انفصام عنه. فعندما نقبل أنّ جسم المجتمع البشري هو كلٌ مترابطٌ ومتناغم، تصبح القدرات والمواهب الفردية من مسؤولية الجميع في تطويرها وتنميتها لخدمة المجتمع، وأي تقصير في الجزء يصيب الكل. في هذا السياق، يمكننا إدراك بيانات حضرة بهاء الله بأنّ الغرض من إحقاق العدالة في المقام الأول هو خلق الوحدة بين البشر وإقامة أركانها على أسس ثابتة حتى يتمكن الجنس البشري من العيش ككائن واحد وهيكل واحد.


إن غريزة حب الاستطلاع والمعرفة وتحري الحقيقة سمة للإنسان في صميم فطرته. ولا شك أن زاده في هذا الميدان هو "العدالة"، وتتجلى في القدرة على التمييز بين الخطأ والصواب وبين الحقيقة والتخيُّل بكل تجرّد وحيادية، وتكون ملازمة لمبدأ تحري الحقيقة دون أدنى شائبة من تعصب وتقليد أعمى أو منفعة ذاتية، وهو ما يتطلب من الإنسان أن يرى الأمور بعينه لا بعين غيره ويعرفها بمعرفته لا بمعرفة أحد. بحرصنا على العدالة ندرك بأن جميع البشر يستحقون الفرصة لتطوير مواهبهم وقدراتهم المكنونة التي تضمن للفرد ازدهاره وللمجتمع تطوره وتقدمه دون النظر إلى مصالحه الشخصية بل للصالح العام الذي سيضمن بدوره للفرد مصالحه الشخصية. فلا ظلم بعد ذلك بسيادة نور العدالة.


إن مراعاة مبدأ العدالة على الصعيد الجماعي، بما في ذلك داخل الأسرة وفي مكان العمل والمؤسسات المجتمعية والمنظمات الإنسانية وغيرها، هي مظهر عملي لوعي الضمير الإنساني بأن مصالح الفرد والمجتمع مرتبطان إرتباطاً وثيقاً إذا ما أريد لعجلة التقدم أن تواصل الدوران. فتحقيق العدالة ليس بالأمر الهيّن، ولا يمكن اختزاله في صيغ وكلمات وتركها نهبًا بأيدي خفية تُقَلبها كيف تشاء، بل هي ثمرة جهود مجرّدة من المشورة البنّاءة في تحري الحقيقة واتخاذ القرارت الجماعية السديدة، وهو نهج يتطلب البصيرة الروحانية والنضج الفكري والإجتماعي والأخلاق الحميدة وعدم التحيز والإبتعاد عن المنافع الشخصية. فكلما سادت العدالة في التواصل البشري كلما كان الفضاء أكثر ملاءمة للتشاور والحوار الذي به يمكن التعبير عن الآراء وإتخاذ القرارات دون تحيز.


إن الانغماس الكلي في الشؤون الدنيوية المادية يضع حجابًا غليظًا على البصائر ويقتل مبدأ العدالة باسم الحرية. فالدين البهائي يعرّف لنا معنى الحرية بأنها التحرر من قيود النفس البشرية الأمارة بالسوء والتي هي أساس كل الرذائل والخطايا والتجاوزات. فالحرية المطلقة هي للحيوان فقط. وهذا ما يسعى البهائيون إلى تحقيقه في تنمية الفضائل الإلهية التي تدعو إلى التضحية والعطاء عن طيب خاطر في سبيل تحقيق العدالة للجميع. إن العلاقات القائمة الآن على جميع المستويات تظهر جسامة ما تعانيه البشرية من الاختلافات والتناقضات التي أصبحت أساسًا للعلاقات الإنسانية وما أفرزتها من دمار وهلاك. وضغائن واقتتال.


عندما تُفهم العدالة في سياق مبدأ "وحدة الجنس البشري" سيكون للجهود الإنسانية تأثيرها الكبير في مكافحة آفة القهر والظلم. ففي غياب هذا المبدأ، بكل أسف، أدى السعي إلى تحقيق العدالة في كثير من الاحيان إلى بروز حركات وصفت بأنها عدائية وترسخت في أذهان الناس بأنها معارضة هدامة.


كما أن القبول بمبدأ الوحدة هذه ضروري لفهم العدالة، كذلك يجب مراعاة العدالة في فهمنا لحقيقة هذا المبدأ الحيوي، إذ يمكن استغلاله، إذا ما فُهم سطحيًا، ذريعة لفرض وحدة الجنس وقمع التنوع وإسكات الفكر النقدي وإنشاء أنظمة رقابة إجتماعية قمعية في المجتمعات على اختلافها. تنص تعاليم حضرة بهاء الله على ان العدالة يجب أن تكون المبدأ الموجّه للمجتمع البشري، وأن الوحدة الحقيقية لا يمكن ان تتحقق إلا بقوة العدل.


يسعى البهائيون جنباً إلى جنب مع زملائهم الملتزمين ببناء عالم أفضل، إلى شرح وتوضيح معنى العدالة ودورها في تحقيق وحدة الجنس البشري مما سيساعد حتمًا في تغيير اجتماعي جذري في مفهوم الحوكمة والاقتصاد والتعليم ووسائل الإعلام، أي كيف تصبح العدالة أساس تنظيمنا مجتمعًا متناغما متعاونًا ومترابطًا في كل شؤونه.


%
تقدم القراءة
- / -