كتيب: الموجز في دحض التّهم الموجّهة للدّين البهائي (١٩٧٤)
الموجز
في دحض التّهم الموجّهة للدّين البهائي
طبع بمعرفة
المحفل الروحاني المركزي للبهائيين بشمال شرق أفريقيا
آديس أبابا - الحبشة
١٣١ بهائيّة
١٩٧٤ ميلاديّة
دحض التّهم الموجّهة إلى الدّين البهائي
go to chunk 5
highligh
character 'ط'
highlight
an
element
highlight
a specific word wrapped in <span id="xx">
"استبصروا في أمرنا وتبيّنوا فيما ورد علينا ثم أحكموا
بيننا وبين أعدائنا بالعدل وكونوا من العادلين"
(حضرة بهاء الله)
توطئــــة
منذ نشأة الدّين البهائيّ في النّصف الأخير من القرن الثالث عشر الهجريّ والتّاسع عشر الميلاديّ إلى يومنا هذا تناول عدد
من الكتّاب هذا الدّين فعالج البعض منهم تاريخه بينما اهتمّ البعض الآخر بالتعليق على مبادئه وشرائعه، وانقسم كل هؤلاء
إلى فئتين من الكّتاب، فمنهم من كان موضوعياً في بحثه قدّم لنا هذا الدّين كما جاء به صاحبه فوضع أمامنا الدّعوة لنحكم
عليها بمنطق البحث والدرس العلمي المجرّد عن العاطفة والتعصب، وعلى عكس هذه الفئة قامت فئة أخرى تقدّم هذا الدّين إلى
الناس سالكة منهجاً ابتعد كلّ البعد عن الموضوعيّة أو الدقّة العلميّة أو الإنصاف الحق، فهاجمت صاحبه وكالت له الاتّهام
تلو الاتّهام ووصفته باللفظ البذيء والكلام الجارح، رافضة كلّ ما جاء به بدون أي تمييز.
ولكن هذه سُنّة الله في خلقه، فتاريخ الأديان السّماويّة حافل بالقصص العديدة عن ألوان الإنكار والإعراض والعذاب التي
تعرّض لها كلّ صاحب رسالة، وكل من حمل كلمة الله إلى بني البشر فنقرأ في القرآن الكريم ما ألمّ بموسى عليه السلام، وكيف
قام عليه حتى أقرب النّاس إليه۱ ولا يمكن لأي منّا
أن يتجاهل آلام السيد المسيح والعذاب الذي تعرّض له. ومعروف لدى كل مطّلع على سيرة الرّسول الكريم(ص) وما أتّهمته به قريش وكيف قامت عشيرته بأسرها تضّطهده وتحاربه حتى أنه
قال(ص) في الحديث الشريف: "ما أوذي نبيّ بمثل ما أوذيت."۲
فلا عجب اذاً أن يتعرّض صاحب الرّسالة الجديدة لمثل ما تعرّض له كلّ من سبقه من الرّسل. والمؤرّخ المنصف والعالِم
المحقّق لا يمكن أن يتجاهل أنّ المُبشّر بالدّين البهائي صُلب وشاركه هذا المصير أكثر من عشرين ألفاً من أتباعه، كما
سُجن مؤسّس هذا الدّين طيلة حياته ونُفي وعُذِّب ضُرِب وتعذّب معه أهل بيته من نساء وأطفال، وقامت عليه قوى طاغية عنيفة
كان بإمكانها محو كلمته من الوجود لولا أن كلمة الحق "إنّا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدّنيا ويوم يقوم
الأشهاد"(سورة غافر- ٥١).
أما الكتّاب والمؤرخون الذين ينتمون إلى الفئة الأولى – فئة الكتّاب الموضوعيين الذين حاولوا إنصاف هذا الدّين وصاحبه
دون الترويج له أو اعتناق مبادئه – فهم أمثال المستشرق الدانمركي المشهور آرثر كريستنس۳ والمستشرق المجري غولد زيهر٤ والمستشرق الإنكليزي إدوارد براون٥ والكاتب الروسي المشهور ليو تولستوي٦ والمؤرّخ اللبناني المعروف بأمير البيان الأمير شكيب أرسلان۷ وغيرهم ممّا لا مجال لنا لإيراد أسمائهم في هذه الرسالة
المقتضبة، ومع أنّ هؤلاء جميعاً لم تخل كتبهم من بعض الأخطاء والمغالطات سواء من الناحية التاريخيّة أو من ناحية عرض أو
فهم المبادىء البهائية والعقائد الاساسيّة التي يقوم عليها هذا الدّين، إلاّ أنّهم كانوا حسني النيّة وهدفهم واضح
المعالم وهو لفت نظر أولي الألباب إلى "دعوة" تستحق الاهتمام وجديرة بأن تحظى بتفهّم أكبر، وكان الباعث على ذلك ما أوجده
هؤلاء من مفارقات عظيمة بين نُبل الدّعوة البهائيّة وبين ما يتعرض له أتباعها من اضطهاد وتنكيل على أيدي أولئك الذين
يرفضون حتّى الإصغاء إلى ما يقوله البهائيون. وقد هال بعض هؤلاء الكتّاب والمؤرّخين حجم المأساة التي حاقت بآلاف
الأبرياء الذين لم يكن لهم من ذنب إلاّ أنّهم "أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ
وَيَنْهَونَ عَنِ المُنْكَرِ"(سورة آل عمران -١٠٤). رغم هذا كلّه فإنهم
ذاقوا عذاباً واضطهدوا اضطهاداً لم تتعرّض له أمّة من قبل.
ويقابل هذا الاتجاه ذلك الاتجاه المعاكس الذي أشرنا اليه والذي يدعو إلى الحضّ على كراهيّة هذا الدّين والمطالبة
بالتّنكيل بأتباعه، ويذهب أصحاب هذا الاتجاه مذاهب شتى في اختلاق التّهم الباطلة، ويحرّضون البسطاء من الناس على ارتكاب
الجرائم باسم الدفاع عن دينهم ضدّ ما يصوّرونه أنّه ضد الدّين الإسلاميّ الحنيف، وما أبعدهم عن الحقّ فيما يذهبون. ويبني
كتّاب هذه الفئة الثانية فئة الذين يهاجمون هذا الدّين – حجتهم على مبدأ يبدو لنا أنّه خاطىء وهو أن الدّين البهائي جاء
بما يخالف أحكام القرآن الكريم والأحاديث النبويّة الشريفة ويتذرعون بمسائل عدّة كختم النبوة وغيرها قائلين أنّ الإسلام
هو آخر الأديان السماويّة حوى علاج جميع الأمراض الرّوحانية والاجتماعية والاقتصاديّة التي تعاني منها البشرية من أيام
سيدنا محمد(ص) إلى يومنا هذا. وبناءً عليه ذهبوا إلى القول بأنه من غير المعقول
أن يبعث الله برسول بعد محمد(ص) وأن يبعث بكتاب بعد القرآن الكريم، ونسي هؤلاء أو
تناسوا أنّ الأديان جميعها تأتي حاملة مبادىء أساسيّة روحانيّة هي الكلمة الإلهية لا تتبدّل ولا تتغيّر عبر الزمان او
باختلاف المكان، وهذه تتكرر متتابعة عبر تاريخ الإنسان فالاعتراف بالله رباً للسّموات والأرض، صاحب السّطوة والجبروت،
القادر القدير على كلّ شيء لا يختلف فيه دين عن آخر. أما النّظم التي تفرضها ظروف الزمان والمكان وهي غير الأساسيات
والتي يمكن أن نصفها بأنها الفرعيات، فالبطبع تختلف حسب البيئة الجغرافيّة والاجتماعية السّائدة في كل عصر وحسب مفاهيم
ظروفه المادية آنذاك. وهنا فقط تكمن نقطة الاختلاف بين دين ودين. ألم يقع اليهود في هذا الخطأ الفاحش فاضطهدوا السيد
المسيح وأنكروه ونسوا أو تناسوا أن السيد المسيح لفت نظرهم إلى الأساسيات وبيّن لهم سخف التمسّك بالفرعيّات، فنقضَ السبت
وكأنّه يمثّل لهم أن الروحانية هي أساس الدّين لا الطّقوس الجوفاء والماديّات التي يدخلها الإنسان فيلوّث بها تلك
الروحانية، وبالمثل فات أهل الكتاب أنّ رسول الله(ص) أعاد كلمة الله الحقّة إلى
مجراها الصحيح وذكّر أهل الكتاب وفاء بعهد الله أن السيد المسيح من قبله قد ذكّر الناس بالأساسيات، أي أنّ كلّ رسول
يؤكّد ويعيد ما جاء به من سبقه رغم اختلاف الأسلوب وتباين الوسائل. وهذه نقطة جوهريّة إذا رفضناها ينهار الأساس الذي
يجعل كل واجب أمّة آمنت برسول سابق أن تعترف وتؤمن بمن بعده وكلمّا كلّف الله نفسه دعوة الناس إلى الحقّ كلّما وجدهم عن
صراطه منصرفين متناسين الأساسيات متمسّكين بالفرعيّات.
فالكتب التي هاجمت الدّين البهائي في بداية ظهوره كتب مختلفة متعددة أهمّها في عنف الهجوم والعداء هو كتاب "تاريخ
البابية أو مفتاح باب الأبواب" للدكتور محمد مهدي خان وكتاب "الحراب في صدر البهاء والباب" للسيد محمد فاضل، والرسائل
التي كتبها الشيخ عبد السلام مفتي الديار القوقازيّة رداً على كتاب "كتاب
الإيقان" لحضرة بهاء الله، وقد اشترك كل
هؤلاء في كيل التّهم مردّدين القول أنّ الدّين البهائي إن هو إلاّ بدعة فأعادوا الأذهان حملات التكذيب التي قام بها
أعداء أي دين جديد، فكانت كتبهم شبيهة بما كتبه كهنة اليهود في إنكار رسالة السيد المسيح وما كتبه قساوسة أوروبا في
تكذيب الرسول(ص) وكانوا بذلك مصداقاً للآية الكريمة:
"وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِم لَئِن جَاءَهُم نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأُمَمِ
فَلَّمَا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً * وَاسْتِكْبَاراً فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّءِ
وَلَا يَحِيقُ المَكْرُ السَّيِّءُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ
لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلا".(سورة فاطر ٤٢-٤٣).
وهكذا تحقّق قول الرسول الكريم(ص) "لتسلكنّ سُنن من قبلكم شبراً فشبراً
وذراعاً فذراعاً".٨
ولو اقتصر الأمر على هذا الجيل من الأولين الذين ناواؤا الدّين البهائي وهاجموه في بدء ظهوره وفي زمن لو تعصّب المرء فيه
لكان له عذر، فلو اقتصر الأمر على هؤلاء لما كان من الضروريّ أن نجشّم أنفسنا عناء الردّ والشرح والتفصيل. غير أنّه في
الآونة الأخيرة وفي غضون عام واحد قام نفر من الكتّاب لم يكتفوا بترديد التّهم الباطلة وأكاذيب الأولين الذين عاصروا
الشخصيّات الرئيسيّة الثلاث لهذا الدّين – المبشّر به حضرة
الباب (اسمه المبارك علي محمد ١٨١٩-١٨٥٠) ومؤسّسه حضرة بهاء الله (اسمه المبارك الميرزا حسين
علي ١٨١٧-١٨٩٢) ومبيّن كتابه حضرة عبد البهاء
عباس (١٨٤٤-١٩٢١) بل جاء هذا النفر العديد بافتراء من نوع جديد فقام هؤلاء باختلاق تهم جديدة يستحيل عليهم
إثباتها مهما أوتوا من حيلة، وكلّ ما قالوه بهتان باطل لا أساس له من الصحة، "أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا
لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ"(سورة البقرة -٨٧).
والجدير بالذكر في هذا المقام أنّ هذا النفر الجديد أخذ الاتهامات التي أوردها الأولون كما هي دون تحقيق فأعادوا تلك
الاتهامات التي باتت باهتة لكثرة تكرارها والتي تتلخّص في القول بأنّ الدّين البهائي لا يحقق نبوآت القرآن الكريم
والأحاديث النبويّة الشريفة الخاصّة بظهور مهدي آخر الزمان وقيام عيسى عليهما السلام، وهي النبوآت التي كان العالم
الإنساني ولا يزال ينتظر تحقيقها. وقد قام كلّ من مبشّر الأمر البهائي حضرة الباب، ومؤسّسه حضرة بهاء الله ومُبيّن آياته حضرة عبد البهاء بالرّدّ على كل هذه التّهم
والاعتراضات بشكل مُفحم في آثارهم العديدة نذكر على سبيل المثال "كتاب الدلائل السبع" لحضرة الباب وكتاب "كتاب
الإيقان" لحضرة بهاء الله وكتاب "المفاوضات" لحضرة عبد البهاء. ففي هذه الكتب الثلاثة
دحضٌ بليغ لكلّ تهمة وتفنيد كامل لا يبقي ذرّة من شكّ لكل الاتهامات وإثبات لصحّة الرسالة البهائيّة واتّفاقها مع ما جاء
في الإسلام، بل ما جاء في كل الأديان السماوية الأخرى. وبالإضافة إلى هذه البيانات من يراع الشخصيّات الرئيسيّة للدّين
البهائي هناك مئات الرسائل والكتب بلغات عديدة وضعها بهائيّون درسوا كل ناحية من نواحي دينهم آخذين في اعتبارهم كل ما
جاءت به الأديان الأخرى، فأتوا بما يبدو لنا أنّه الحجّة التامّة والبيّنة الصادقة على صحّة هذا الدّين، نذكر على سبيل
المثال لا الحصر الكتب التالية وذلك لمن يهمّه الاطلاع عليها من المنصفين: "الفرائد" و "الحجج البهيّة" و "الدرر
البهيّة" لأبي الفضائل.
ولعل انتشار الدّين البهائي منذ استشهاد حضرة الباب عام ١٨٥٠ انتشاراً عظيماً في أنحاء العالم واستقطاب هذه "الدعوة"
السمحة للآلاف من أبناء البشر مختلفي الجنس والّلغة والّلون والدّين أوحى إلى الذين يهاجمون دين الله اليوم باتّهامات
جديدة ذات أبعاد لم تكن تدور بخلد المعترضين على هذا الدّين في نصف القرن الماضي. فأضاف أولئك الذين يروّجون العداء
اليوم اتّهامات نلخص فيما يلي أخطرها شأناً وأعظمها زوراً وبهتاناً:
١- أنّ
البهائية ظهرت لتقويض كلمة الإسلام ومحوها من عالم الوجود.
٢- أنّ البهائيّة تدعو إلى الإلحاد والإباحيّة.
٣- أنّ للبهائيّة أغراضاً سياسيّة وهي من صنع الإستعمار والصهيونيّة.
٤- أنّ الدّين البهائي يعتنقه السذّج من النّاس الذين يمكن إغراءهم بسهولة.
٥- التّشكيك في المصادر التي تموّل البهائيّة.
٦- التوبة المزعومة لحضرة الباب. ٩
والقصد من هذه الرسالة هو الرّد على هذه الاتّهامات – الباطلة وأن نسوق لمن يريد معرفة البابيّة والبهائيّة بعض الحقائق
لا مجال إلى دحضها وإنكارها، والتي زيّفها البعض لخدمة أغراض نربأ بأنفسنا أن نخوض في بيانها والتّعليق عليها.
البهائية والإسلام
يدّعي البعض أن البهائية ظهرت لتقويض كلمة الإسلام ومحوها من عالم الوجود، ولكن ليس في استطاعتهم الإتيان بكلمة واحدة من الآثار البهائيّة وكتبها العديدة ومعتقداتها الأساسيّة لإثبات هذه التّهمة التي ليس لها أساس من الصحّة، وليسأل أولئك الذين يقيمون مثل هذا الإتّهام البهائيين المنتشرين في أكثر من ثلاثمائة وخمسين إقليماً من أقاليم العالم، يتحدّثون بأكثر من مئتي لغة وينتمون إلى شعوب وقبائل عديدة، ويتفرعون من أصول دينية مختلفة، فليسأل هؤلاء واحداً واحداً من البهائيين عن مكانة الإسلام في نفس البهائي ليجدوا الجواب القاطع بأن كل فرد من أفراد الجامعة البهائية العالمية يكنّ للاسلام ونبيّه الكريم(ص) ولتعاليم الدّين الحنيف ما يكنّه من التقديس والمحبّة والاحترام لدينه البهائي، وليعرف أن البهائيين في كلّ مكان هم أحرص الناس على إفهام العالم حقيقة الدّين الإسلامي على عكس ما يفهمها المتعصّبون ضده، فاذا بالبهائيّين في خلال مائة وتسعة وعشرين عاماً من تاريخ دينهم بمثابة السّفراء الحقيقيين للدّين الإسلامي في مشارق الأرض ومغاربها، وكفى دليلا أن كل بهائي من أصل هندوسي أو بوذي أو زرادشتي أو يهودي أو مسيحي أو حتى وثني عليه أن يعترف ويقرّ بأن سيدنا محمد(ص) رسول الله وصاحب دعوة حق، وأن القرآن الكريم منزل من عند الله، تقدّست آياته، وأن فضل الإسلام على العالم الإنساني فضل ينكره العالم اليوم دون حق، وأنّه لولا الحضارة العظمى التي جاء بها الإسلام لما وصل العالم اليوم إلى ما وصل اليه من تقدّم أذهل العقول.
ولم يحظ الإسلام بسفير له يرفع من شأنه ويعلي مقامه في ربوع أوروبا وأمريكا كما حظى بقيام حضرة عبد البهاء بإفهام مجتمع كان في ذلك الوقت ينظر إلى الإسلام نظرة شكّ وامتهان وبيّن وشرح أن الحضارة التي يسميها هؤلاء غربية أصولها وبذورها إسلامية، ولولا الإسلام لما كان ذلك المجتمع فيما هو فيه من تقدّم وازدهار.۱۰
وكل من يقرأ الآثار البهائيّة يجدها ملأى بآيات التمجيد والاحترام والتقديس للقرآن الكريم وللرّسول عليه السلام. ونورد هنا مقتطفات على سبيل المثال ليدرك القارىء ما يعتقده البهائي والرّوح التي يتحلّى بها تجاه الدّين الإسلاميّ الحنيف.
في القرآن الكريم
من آثار حضرة بهاء الله:
- "لا شكّ أنّ القرآن نزل من عند الله ولا شكّ أن الكلمات الإلهيّة مقدّسة عن أوهام المتوهّمين."۱۱
- فاعلم بأنّ كلمة الله تبارك وتعالى في الحقيقة الأوّليّة والرتبة الأولى تكون جامعة للمعاني التي احتجب عن إدراكها أكثر الناس نشهد بأنّ كلماته تامّات (أي القرآن الكريم) وفي كلّ كلمة منها سترت معانٍ ما اطّلع بها أحد إلاّ نفسه، ومن عنده علم الكتاب، لا اله إلاّ هو المقتدر العزيز الوهّاب ثم اعلم بأن المفسّرين الذين فسّروا القرآن كانوا صنفين، صنف غفلوا عن الظّاهر وفسّروه على الباطن وصنف فسّروه على الظّاهر وغفلوا عن الباطن، فاعلم من أخذ الظّاهر وترك الباطن إنّه جاهل ومن أخذ الباطن وترك الظّاهر إنّه غافل ومن أخذ الباطن بايقاع الظّاهر فهو عالم كامل..."۱۲
" إنّ ربّ العالمين قد وعد الناس بلقائه في القرآن المبين."۱۳
" كل من لم يصدّق الفرقان فهو في الحقيقة لم يصدّق الكتب التي نزلت قبل القرآن."۱٤
من آثار حضرة عبد البهاء:
- لو نظرنا بعين الإنصاف لرأينا أن جميع القوانين السياسيّة تكمن في معنى هذه الكلمات المباركة قوله تعالى: "يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصّالحين، وأيضاً "ولتكن منكم أمّة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأُولئك هم المفلحون" وأيضاً "إن الله يأمر بالعدل والإحسان وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، ويعظكم لعلكم تتذكّرون، وعن حلو الأخلاق قوله تعالى "خذ العفو وأمر بالمعروف واعرض عن الجاهلين" وأيضاً "الكاظمين الغيظ والعافين عن النّاس والله يحبّ المحسنين" وأيضاً "ليس البِرّ أن تولّوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البِرّ من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنّبيين، واتي المال على حبّه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرّقاب وأقام الصلوة وأتى الزكاة والموفون بعدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضّراء وحين البأس، أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتّقون" وأيضاً "ويؤثرون على أنفسهم ولو كانت بهم خصاصة" والملاحظ أن في هذه الآيات المباركة نجد أسمى درجات حقائق الحضارة وكافّة الشّيم الإنسانيّة اللّامعة الحميدة."۱٥
- يا أيّها المتوجّه إلى الله طّهر الفؤاد عن كل شؤون مانعة عن السداد في حقيقة الرشاد وزن كل المسائل الإلهية بهذا الميزان العادل الصادق العظيم الذي بيّنه الله في القرآن الحكيم والنبأ العظيم، لتشرب من عين اليقين، وتتمتّع بحقّ اليقين، وتهتدي إلى الصراط المستقيم، وتسلك في المنهج القويم، والحمد لله رب العالمين."۱٦
في الرّسول الكريم(ص)
من آثار حضرة بهاء الله :
- أسألك يا الهي بالمشعر والمقام والزّمزم والصفا وبالمسجد الأقصى وبيتك الذي جعلته مطاف الملأ الأعلى ومقبل الورى .. أي ربّ
صلّ على سيّد يثرب والبطحاء وعلى آله وأصحابه الذين ما منعهم شيء من الأشياء عن نصرة أمرك يا من في قبضتك زمام الأشياء لا إله إلاّ أنت العليم الحكيم."۱۷
- "الصلوة والسّلام على مطلع الأسماء الحسنى والصّفات العليا الذي كان في كلّ حرف من اسمه كنزت الاسماء وبه زيّن الوجود من الغيب والشهود وسُمي بمحمد في ملكوت الأسماء، وبأحمد في جبروت البقاء وعلى آله وصحبه من هذا اليوم إلى يوم فيه ينطق لسان العظمة الملك لله الواحد القهّار."۱٨
- "أسألك يا فالق الأصباح ومسخّر الأرياح بأنبيائك ورُسلك وأصفيائك وأوليائك الذين جعلتهم أعلام هدايتك بين خلقك ورايات نصرك في بلادك وبالنّور الذي أشرق من أفق الحجاز وتنوّرت به يثرب والبطحاء وما في ناسوت الإنشاء بأن تؤيد عبادك على ذكرك وثنائك والعمل بما أنزلته في كتابك."۱٩
- "أشهد يا إلهي بما شهد به أنبياؤك وأصفياؤك وبما أنزلته في كتبك وصحفك أسألك بأسرار كتابك وبالذي فتحت أبواب العلوم على خلقك ورفعت راية التّوحيد بين عبادك بأن ترزقني شفاعة سيّد الرسل وهادي السُبُل وتوفقني على ما تحبّ وترضى."۲۰
- "لقد ظهر حضرة خاتم الأنبياء روح ما سواه له فداء من مشرق الأمر الإلهي ودعا الناس بمنتهى الفضل والعناية العظمى إلى كلمة التّوحيد المباركة وكل القصد من ذلك هو إيقاظ النّفوس الغافلة وخلاصهم من ظلمات الشرك ولكن القوم تألبوا عليه بالإعراض والاعتراض وأصابوه بما ناح له معشر الأنبياء في الجنّة العليا."۲۱
- فمثلاً سلطنة حضرة الرّسول هي الآن ظاهرة واضحة بين النّاس ولكن في أول أمر حضرته كانت كما سمعت وعرفت بحيث ورد على ذلك الجوهر، جوهر الفطرة وساذج الهوية ما ورد من أهل الكفر والضلال، الذين هم علماء ذلك العصر واتباعهم. فكم كانوا يلقون من الأقذار والأشواك في محل عبور حضرته: ومن المعلوم أن اولئك الأشخاص كانوا يعتقدون بظنونهم الخبيثة الشيطانيّة أن أذيتهم لذلك الهيكل الأزلي تكون سبباً لفوزهم وفلاحهم لأن جميع علماء العصر مثل عبدالله ابن أبيّ، وأبو عامر الراهب، وكعب ابن أشرف، ونضر بن الحارث، جميعهم قاموا على تكذيب حضرته ونسبوا إليه الجنون والإفتراء ورموه بمفتريات نعوذ بالله من أن يجري به المداد، أو يتحرّك عليه القلم أو تحمله الألواح. نعم إنّ هذه المفتريات التي نسبوها إلى حضرته كانت سبباً في إيذاء النّاس له. ومن المعلوم والواضح أنه إذا كان علماء العصر يكفّرون شخصاً ويحكمون بردّته ويطردونه من بينهم ولا يعتبرونه من أهل الإيمان فكم يرد على هذه النفس من البلايا كما ورد على هذا العبد ممّا كان مشهوداً للجميع. لهذا قال حضرة الرسول "ما أوذي نبيّ بمثل ما أوذيت" فهذه المفتريات التي ألصقوها بحضرته، وذلك الإيذاء الذي حلّ به منهم، كل ذلك مذكور في الفرقان فارجعوا اليه لعلّكم بمواقع الأمر تطّلعون. واشتدت عليه الأمور من كل الجهات بدرجة ما كان يعاشر أحداً، ولا يعاشرون أصحابه مدّة من الزمن وكل من كان يتشرّف بحضرته ويتّصل بهم كانوا يؤذونه غاية الأذى. إنّا نذكر في هذا المقام آية من الكتاب لو نظرت اليها بعين البصيرة لنحت وندبت على مظلوميّة حضرته ما دمت حياً، وهذه الآية قد نزلت في وقت كان حضرته في شدّة الضيق والكدر من شدة البلايا وإعراض النّاس عنه. فنزل عليه جبرئيل من سدرة منتهى القُرب، وتلا هذه الآية: "وإن كان قد كَبُر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض أو سُلّماً في السّماء، أي يقول له أنه إن كان قد كَبُر عليك إعراض المُعرضين واشتّد عليك إدبار المنافقين فاطلب نفقاً تحت الأرض أو سُلّماً في السّماء.
ويفهم من التلويح في هذا البيان أنّه لا مفرّ لك من ذلك ولا قدرة لك عليه إلاّ إذا كنت تختفي تحت الأرض أو ترقى إلى السّماء.
والآن أنظر وتأمّل كم من السلاطين يخضعون لإسم حضرته ويعظّمونه، وكم من البلاد وأهلها يستظلّون في ظلّه ويفتخرون بالإنتساب إليه، وكما أنّهم يذكرون على المنابر والمآذن هذا الإسم المبارك وبكمال التّعظيم والتكريم. وكذا السلاطين الذين لم يدخلوا في ظلّ حضرته، ولم يخلعوا عن أنفسهم قميص الكُفر هم أيضاً مقرّون ومعترفون بالعظمة والجلال لهذه الشمس شمس العناية فهذه هي السلطنة الظّاهرة التي تشاهدها."۲۲
من آثار حضرة عبد البهاء :
"لاحظوا أن حضرة محمد وُلِدَ بين القبائل العربيّة المتوحّشة (لكونها جاهلة بالإسلام قبل دعوته) وعاش بينهم وكان حسب الظاهر أُميّاً لا خبرة له، وكانت القبائل العربيّة في منتهى الجهل والهمجيّة بحيث أن بعضها كان يدفن البنات أحياء ويحسب ذلك منتهى الفخر والحميّة وسموّ الفطرة. وكانت تعيش تحت سيطرة حكومات إيران والرّومان في منتهى الذلّة والأسر مشتّتة في بادية العرب يقاتل بعضها بعضاً. فلما طلع النّور المحمديّ زالت ظلمة الجهالة من بادية العرب ووصلت تلك القبائل المتوحّشة في أقل زمان إلى منتهى درجات المدنيّة حيث انتفعت بمدنيتهم أسبانيا وبغداد وأهالي أوروبا. فالآن أيّ برهان أعظم من هذا؟ وإنّ هذا دليل واضح ما لم يغمض الإنسان عين الإنصاف ويقوم بكل تجاوز واعتساف."۲۳
- "والصلوة والسّلام على أشرف نقطة في دائرة الوجود، وأعلى مصدر في قوس النزول والصعود، الكلمة الوحدانيّة، والآية الفردانية، والحقيقة الوجدانيّة، والواسطة الرحمانية، وعلى آله وصحبه ونصرائه وتابع تابعيه إلى يوم الدّين."۲٤
- وعندما أشرقت الأرض بنور ربّها، وتنسّمت نسائم الفضل، وفاحت سحاب العدل، وانحدرت سيول الجود، وتجدّد قميص كلّ موجود وتزيّنت البطحاء بظهور خير الورى المُؤيّد بشديد القوى اعترض اليهود والنصارى..."۲٥
- "لما ظهر بينهم الحبيب الأعظم والنّور الأفخم وآية القِدَم والصُبح الأبسم وأووا في كهف تربيته ما مضى أيام معدودة، وسنين محدودة إلاّ وترقّت هذه الطائفة الجاهلة من حضيض الجهل إلى أوج العلم والحكمة، وبرعت في الفنون والمعارف، وفرعت على أعلام العلوم والعوارف، واشتهرت بين الخلائق بخصائص الإنسانية وصفات الرحمانيّة حتى صارت معدن الكمال والعرفان ومحور دائرة المفاخر والإحسان. وبذا انتصرت على الآفاق وتسلّطت على كلّ القبائل والشعوب من البرية، فصارت الناس يأتون من كل فجّ عميق إلى بلادهم حتى يتعلّموا العلم والحكمة ويتزيّنوا بحلل الفضل والكمال وكلّ ذلك ما كان إلاّ بفضل الله ورحمته بما بعث فيهم خير البريّة بقوّة عجزت عنها الخلائق أجمعون."۲٦
" .... وأمّا الرّسول الكريم محمد المصطفى عليه الصلوة والسلام فقد بعثه الله في وادٍ غير ذي زرعٍ لا نبات به بين قبائل متنافرة وشعوب متحاربة وأقوام ساقطة في حضيض الجهل والعمى لا يعلمون من دحّاها ولا يعرفون حرفاً من الكتاب، ولا يدركون فصلاً من الخطاب، أقوام متشتّتة في بادية العرب، يعيشون في صحراء من الرمال بلبن النياق وقليل من النّخيل والأعناب، فما كانت بعثته عليه السلام إلاّ كنفخ الرّوح في الأجساد، أو كإيقاد سراج منير في حالك من الظلام فتنوّرت تلك البادية الشاسعة القاحلة الخاوية بتلك الأنوار السّاطعة على الأرجاء، فانتهض القوم من رقد الضلال وتنوّرت أبصارهم بنور الهدى في تلك الأيام. فاتّسعت عقولهم وانتعشت نفوسهم وانشرحت صدورهم بآيات التوحيد فرتّلت عليهم بأبدع الألحان، وبهذا الفيض الجليل قد نجحوا ووصلوا إلى الأوج العظيم، حتى شاعت وذاعت فضائلهم في الآفاق، فأصبحوا نجوماً ساطعة الإشراق. فانظروا إلى الآثار الكاشفة للأسرار حتى تنصفوا بأن ذلك الرجل الجليل كان مبدأ الفيض لذلك القوم الضئيل، وسرج الهدى لقبائل خاضت في ظلام الهوى، وأوصلهم إلى أوج العزّة والإقبال، ومكّنهم من حياة طيّبة في الآخرة والأولى. أما كانت هذه القوّة الباهرة الخارقة للعادة برهاناً كافياً على تلك النبّوة الساطعة؟"۲۷
وبالإضافة إلى هذه الشذرات المختارة من آثار حضرة بهاء الله وحضرة عبد البهاء فإن حضرة وليّ أمر الله شوقي أفندي رباني الذي تولّى ولاية الدّين البهائيّ بعد صعود حضرة عبد البهاء ولمدة ست وثلاثين سنة قام بتنوير أهل الغرب والشرق عن مقام الرسول الكريم(ص) وحثّ البهائيين من أصل غير اسلامي بدراسة الإسلام من مصادر مُنصفة موثوق بها وأكدّ على أهميّة القرآن الكريم معطياً إيّاه الأهميّة ذاتها التي أعطاها للكتب البهائية المقدسة وفي مقام آخر يعود فيؤكّد كلّ ما سبق أن ذكرناه فيتفضل قائلاً بعد أن يشرح موقف الظهور البهائي من الأديان جميعها: ۲٨
"إن أصل (حضرة) الباب الذي هو سليل الإمام حسين، ثم الأدلّة العديدة المدهشة في رواية النبيل (الزرندي)۲٩ على الموقف الذي اتخذه مُبشّر ديننا تجاه كلّ من مؤسس الدعوة الإسلامية وكتاب (الله العزيز) والأئمة ثم الإجلال العظيم الذي أظهره (حضرة) بهاء الله في كتاب "الإيقان" لمحمد(ص) ولخلفائه الشرعيين وخاصة للإمام حسين الذي لم يكن لحضرته مثل أو شبه على وجه الأرض۳۰ ثم البراهين التي قدمها (حضرة) عبد البهاء بكل عزم وشجاعة وعلانية في الكنائس والمعابد للدلالة على حقيقة رسالة النبيّ العربي ثم أخيراً وليس آخراً تلك الشهادة التي خطّتها (الملكة ماري) ملكة رومانيا وأعلنت فيها اعترافها برسالة محمد النبويّة والقرآن الكريم وهي الملكة المترعرعة في الإيمان الإنجيلي، متجاهلة بذلك الحلف الوطيد المعقود بين حكومتها وبين الكنيسة الأرثوذكسيّة (وكانت الأرثوذكسية دين الدّولة التي اتّخذتها الملكة وطناً لها) وذلك نتيجة اطلاعها على الأحاديث العامة التي سبق وألقاها (حضرة) عبد البهاء. إنّ كلّ ما سبق يُظهر بكل تأكيد الموقف الحقيقي الذي يتّخذه الدّين البهائي تجاه مصدره (الدّين الإسلامي) وقد كانت الشهادة الملكية كما يلي: "إن الله هو الكلّ هو كل شيء. فهو القوّة خلف كل بداية وصوته في داخلنا يجعلنا نُميّز بين الخير والشرّ. ولكننا كثيراً ما نتجاهل ونُسيء فهم هذا الصوت ولهذا انتخب المُختارين لينزلوا بيننا على الأرض يوضّحوا كلمته ومعانيه الحقيقية. وبناء عليه كان الأنبياء وبناء عليه كان المسيح ومحمد وبهاء الله، لأنّ الإنسان يحتاج بين كل آونة وأخرى صوتاً على الأرض يقوده إلى الله ويؤكد إدراكنا بوجود الله الحق. وكان لتلك الأصوات التي بعثت الينا ان تصبح جسداً حتى نتمكّن من أن نسمع عن طريق آذاننا الدنيويّة ونفهم."
ويجدر بنا السؤال هنا أي دليل أبلغ يمكن لعلماء الدّين في إيران وتركيا أن يطلبوه برهاناً على اعتراف أتباع (حضرة) بهاء الله للمنزلة الساميّة التي يحتلها النبي محمد(ص) بين مجموعة الرُّسُل الذين بعثهم الله؟ وأي خدمة أكبر من هذه ينتظر هؤلاء العلماء أن نقدمها لأمر الإسلام؟ وأي برهان أعظم يطلبه هؤلاء على الكفاءة التي نتحلّى بها إذ أننا قادرون وفي أماكن أبعد بكثير من أن يصله هؤلاء، قادرون أن نُشعل شرارة الإيمان الصّادق العميق في الحقيقة التي جاء بها رسول الله وأن نستحصل من قلم ملكي هذا الاعتراف العام التاريخي بحقيقة رسالته الإلهية."۳۱
هذا ولم يأل الكتّاب البهائيون جهداً في التأكيد على تلك المنزلة السامية التي أعطيت للقرآن الكريم والنبي محمد(ص) في الآثار المباركة لكل من حضرة الباب وحضرة بهاء الله وحضرة عبد البهاء وحضرة شوقي أفندي. فعبّر هؤلاء عن إيمانهم العميق لمبادىء الدّين الحنيف وهو الذي لقّنهم إياه حضرة بهاء الله مراراً وتكراراً وفيما يلي مقتطفات من بعض ما كُتِبَ بهذا الصدد:
".... فسرّحوا أنظاركم، نوّر الله تعالى بصائركم وأبصاركم، إلى الأمة العربيّة وتصاريف حالاتها قبل ظهور الديانة الإسلامية وبعد ظهورها لعلكم تنتبهون إلى بعض ما أشرنا اليه من الفرق الواضح بين العلوم الإلهية والمعارف الفلسفيّة في إحياء النّفوس البشرية وإزالة الأسقام الروحانيّة. فإن فلاسفة مصر واليونان جيران العرب على غزارة علمهم وسعة معارفهم وتوفّر الأسباب لديهم ومساعدة الدول لهم عجزوا عن نشر المدنيّة بين الأمة العربيّة مع أن جميعهم كانوا أبناء ديانة واحدة صابئيّة وعلى طريقة متحدة وثنية وهي أسهل من إزالة الأسقام الروحانية ومعالجة الأمراض الدّينية. ولكن قيام ذلك الإنسان الأميّ وحده فكّ أغلال الجهل من أعناقهم وحلّ عقائد التقييد والتقليد من أرجلهم وأيقظهم من إغماء السُبات ونفخ فيهم روحاً جديداً من الحياة فنهضوا وطاروا واستناروا فأناروا حتى نشروا أنوار العلم والمدنيّة وبسطوا فضائل الحضارة والإنسانية لا في الممالك العربيّة وحدها بل في جميع الممالك الواسعة الشرقيّة وأزالوا تلك العقائد والعوائد المهلكة المدمرة من الأمم المجوسيّة والوثنيّة.
فإذا عرفتم أيها السادة الأجّلاء هذه النّكتة الظاهرة والحقيقة الباهرة يمكنكم أن تعرفوا أن الله تعالى إنما خصّ تشريع دينه وإنفاذ كلمته بالأميين لا بالفلاسفة والمتخرّجين من المدارس ليكون أدعى إلى قطع الشُبهة وأبعد عن موضوع التُهمة وأدلّ على أن تلك القوّة القدسيّة ليست مرتبطة بالعلوم التحصيليّة ولا حاصلة من المعارف الكسبيّة، وإنما غفل عن هذه النكتة وجعل هذه الحقيقة ذلك الفاضل الشهير مترجم القرآن ومدوّن تاريخ حالات شارع الديانة الإسلامية (جرجيس صال)۳۲ حيث قال في الصفحة (٨٣) من كتاب مقالة في الإسلام: "إن أهل الإسلام يفتخرون بأميّة صاحبهم بدلاً من أن يخجلوا منها واتخذوها برهاناً مبيناً يُثبت أنه رسول الله ولا يستنكفون من أن يدعوه النبيّ الأميّ كما دعاه (القرآن)، فظنّ هذا الفاضل أن كون النبي عليه السلام أمياً هو ممّا يجب أن تستنكف منه وتخجل الأمّة الإسلاميّة وقد جاء في الأصحاح السابع من إنجيل يوحنا القدّيس أن السّيد المسيح له المجد أيضاً كان أميّاً حيث قال: "فتعجّب اليهود قائلين كيف هذا يعرف الكتب وهو لم يتعلّم فأجابهم يسوع وقال: تعليمي ليس لي بل للّذي أرسلني "وهذه العبارة صريحة بأن معارفه عليه السلام كانت روحانيّة وإلهامية لا من التّعليم والتّحصيل.
ولم أدرِ لماذا لا يخجل هذا الفاضل بنفسه وبذاته وهو يرى أنّ المسيح له المجد وضع مقاليد السّموات في يد أُمّي، صيّاد للسّمك وألقى روح الرّسالة والهداية في قلب عاميّ، عشار لليهود. أليس ذلك لإظهار قدرة الله تعالى ليبرهن للناس أجمعين بأنه تعالت قدرته وجلّت عظمته يقهر بعصا راعٍ صفوف الجبابرة ويفلّ بها سيوف الفراعنة، ويجعل صيّاد السّمك صيّاد البشر ويقلب أعراش القياصرة، ويعلم أُميّ من ملكوته الأعلى فلاسفة الفرس وأبناء الأكاسرة ليكون هؤلاء الأميّون آيات قدرته وبراهين عظمته وحجج ظهوره ودلائل مشيّته وإرادته ويكون تجرّدهم عن المعارف والفنون الاكتسابيّة أظهر الدلائل على القوّة الآلهية وأَبيَن البراهين على القدرة الوهبيّة السماويّة، وأقطع لأوهام المتوهمين، وأَشّد دحضاً لشكوك المُشكّكين، وفي ذلك كفاية للمُتبصرين."۳۳
"... نعم كثيراً ما يتّهم الإسلام بأنه قام وانتشر بسيوف أمراء العرب كما أن الفرس واليهود والبوذيّين والهنود يرمون ديانة النصارى بأنها قامت بمساعدة القياصرة وتقوّت وانتشرت بسيوف الجبابرة إلاّ أن هذه شبهة واهية وقضيّة باطلة لأن كلمة الإسلام انتشرت بين العرب قبل الهجرة كما أن الديانة النصرانية نفذت وانتشرت قبل إيمان قسطنطين الكبير وتنصُّر القياصرة على أن تلك العساكر والصفوف والمدافع والسيوف وُجدت وتشكّلت وقامت وترتبت أيضاً بقوة تأثير كلمة الله وشدّة نفوذ إرادة الله إذ لولا الكتب الالهيّة لقامت تلك الجيوش الجرارة لِنُصرة الشرك وسلّت السيوف البتارة لإثبات الوثنية لا لِنُصرة التّوحيد وإثبات الوحدانيّة كما هو ظاهر لمن أوتي بصيرة نورانيّة ودراية وجدانيّة. ولكن الله تعالى لِسِعة رحمته وإحاطة فضله وظهور سلطانه وسطوع برهانه أراد أن يُبطل هذه الشُبهة بتاتاً عن الظهور الأبهى والطلوع الأفخم الأعلى، فنهى نهياً لا يعقبه الزوال ولا يعتريه التغيير والإبدال عن النزاع والجدال والحرب والنزال، بل عن كل ما يكدّر النفوس ويورِث الضغائن في القلوب من قبيل السّبّ واللعن والفخار والشموخ لتتجلّى قوّة الكلمة الالهية وتنقطع رسائل الشُبهات والشكوك من كلّ الأقسام والوجوه في جميع القرون والأجيال."۳٤
وبالّرغم من كلّ هذا يجد البعض الجرأة على اتهام الدّين البهائيّ بأنه جاء ليدحض الإسلام ويكذّبه بينما نجد من كل هذه الأمثلة التي ذكرناها أن العكس هو الصحيح. فإن أتباع الدّين البهائي هم أحرص الناس على الذود عن سمعة الإسلام ورفع شأنه بين العالمين، وقد حقّقوا في هذا السبيل ما لم يتمكّن المسلمون أنفسهم من تحقيقه. والكتب البهائية موجودة وفي متناول اليد وتؤكد ما بذلنا الجهد لإيضاحه، فليذهب إليها أهل الإنصاف ويطّلعوا على ما فيها ويمتحنوا معانيها، وليتصل راغبو الحقيقة بأهل البهاء في مشارق الأرض ومغاربها ويسالوهم السؤال الصريح ليتأكد لديهم كل ما ذكرناه.
الدّين البهائي بعيد عن الإلحاد والإباحية
تهمة الإلحاد باطلة:
يعتقد البهائيون بوحدانية الله ويعترف كلّ بهائيّ بأن الله هو الفرد الواحد الأحد الصمد الذي ليس له شريك ولا نظير ولا سبيل لمعرفة ذاته ولا طريق لعرفانه "لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوْ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ"(سورة الأنعام -١٠٣) ولكن الله سبحانه وتعالى لم يحرم الإنسان من الورود في ساحته ولم يقطع الصّلة به فأرسل أنبيائه ورُسُله مظاهر وحيه ومطالع أنواره، وقدّر في معرفتهم معرفة نفسه وفي الإيمان بهم الإيمان به، وفي الإعراض عنهم الإعراض عنه فقد جاء في قوله تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوقَ أَيدِيهِمْ" (سورة الفتح -١٠)، وقوله "مَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى"(سورة الأنفال-١٧)، وقوله: "مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ"(سورة النساء-٨٠)، وقوله "إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَينَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَينَ ذَلِكَ سَبِيلاً * أُوْلَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً"(سورة النساء ١٥٠-١٥١)، وقوله: "إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً"(سورة الاحزاب-٥٦).
فأي قوم آمنوا في أي عصر من العصور بمظهر من المظاهر آمنوا بالله واعترفوا بوحدانيته في مظهر أمره ومن أعرض عن أيّ رسول أو مظهر أو نبي أتى من عند الله فهو ليس بمؤمن ولو يَدّعي الإيمان في نفسه. فمعرفة الأنبياء والرُسُل في كل عصرٍ هو عين معرفة الله لذلك يؤمن البهائيون بكلّ المظاهر الإلهيّة وبجميع الكتب السماويّة ويؤمنون بأن حضرة بهاء الله هو رسول هذا العصر وهو حامل الرّسالة الإلهيّة ليومنا هذا ويؤكّد حضرة بهاء الله أن رسالته واحدة من سلسلة الرسالات الإلهية التي تأتي للبشر كي تهديهم سواء السبيل، مؤكّدة ما سبق، مُبيّنة طريق اليوم، مُحذّرة من أخطار المستقبل، مُنذرة بأن الإعراض عن رسول العصر فيه ألم وعذاب كبير لبني الإنسان. وهذه سُنّة الله في خلقه "سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحوِيلاً"(سورة الإسراء-٧٧).
ولعل أول مهام الرّسول الجديد أن يعرّف الناس بمن بعث به وهذا ما فعله كل رسول من قبل، واتّفق الكُلّ على أن الله سبحانه وتعالى هو الباعث وهو صاحب الرسالة بالمعنى الحقيقيّ وهكذا أسهب حضرة بهاء الله في آثاره المباركة بالتأكيد على مقام الله سبحانه وتعالى وعلى أن نوره يتجلى في رسالة مظهره في كل عصر وزمان ولم يفرّق بين أحد من الرّسل، فالرّوح التي تجري في كل منهم هي روح واحدة ومُقتبسة من الواحد الأحد الذي لا شريك له. فأي إلحاد هذا الذي يدّعيه المدّعون؟ وأي كفر هذا الذي يشاهدونه؟ ألم يقرأوا كلمات حضرة بهاء الله التي يقول فيها: "شهد الله أنّه لا إله إلاّ هو له الأمر والخلق، قد أظهر مشرق الظهور، ومُكلّم الطور الذي به أنار الأفق الأعلى ونطقت سدرة المنتهى، وارتفع النداء بين الأرض والسماء، قد أتى المالك، الملك والملكوت والعزة والجبروت لله مولى الورى ومالك العرش والثرى."۳٥ " أشهد بوحدانيّتك وفردانيّتك، وبأنك أنت الله لا إله إلاّ أنت، قد أظهرت أمرك، ووفيّت بعهدك، وفتحت باب فضلك على من في السموات والأرضين."۳٦
ولم يترك حضرة عبد البهاء لنا مجالاً لأي شك في أن الله مُنزّه عن الدّخول والخروج والصعود والهبوط والحلول وأمثال ذلك وأشار إلى عدم معرفة العباد كينونته والوصول إلى معرفة ذاته:
هو الله
"سبحانك الّلهم وبحمدك تقدسّت أسماؤك وتنزّهت صفاتك. تعاليت وتجلّلت عن إدراك الروحانيّين من الأصفياء وتعظّمت وتساميت بجلال ألوهيتك عن إدراك النورانيّين من الأولياء، عجزت أبكار الأفكار والعقول عن الحبور في حدائق عرفانك، وكلّت أجنحة طيور الإفهام عن الطيران في أوج عزّك وعلائك. كنت في قدم ذاتك منزّهاً عن مقارنة الحدوث، وأحديّة كينونتك مقدّسة عن وصول إدراكات ذوي العقول، فلمّا انقطع السّبيل وعجز الدليل وضلّ الرائد في هذا الطريق خلقت كينونة نورانيّة وحقيقة رحمانيّة وجعلتها آية الكمال المستجمعة لجميع الصّفات وكلمة الجلال الجامعة للحقائق الثّابتة في أعلى الدرجات، تحكي بتمامها عن هويّة ذاتك، وشؤون كينونتك وجعلتها مركزاً لمحيط الإبداع، ونيّراً أعظما تنبعث منها الأشعة السّاطعة على الأرجاء، وبحراً يتلاطم أمواجه على الآفاق، وربيعاً يفيض سحابه على التّلال والجبال والديار ويمرّ نسيمه على الرّياض والحياض والمروج والبقاع. حتى بآثاره جدّدت هياكل الكائنات وحيّت الأموات في بطون القبور بالنّفحات. وجعلت تلك النقطة الربانيّة مرجعاً للحقائق النورانيّة ومبدأ للحروف الفردانيّة، ومصدراً للكلمات التّامات، ومظهراً للآيات الباهرات، وجعلتها مقام نفسك بين الكائنات فطوبى لمن خضع لسلطانها، وخشع لبرهانها، وطاب قلبه بنفحاتها، وقرّت عينه بمشاهدة آثارها وانشرح صدره بسطوع أنوارها، والويل لمن استكبر وأنكر وأدبر واغبرّ وجهه وأعرض عن جمالها، واقشعرّ جلده من ملاحظة آثارها، وانكسر ظهره من ظهور سلطانها. وإني يا إلهي أعوذ بك من الغفلة عن آياتها والاستكبار والغرور والنّفور والشرور في يومها وأوانها. اسألك السّتر والحفظ والصون من هذه الخطيئة العُظمى والموبقة الكبرى، والعون على اقتباس أنوارها واكتساب آثارها واقتطاف أثمارها وترتيل آياتها، وتكريم شعائرها وتعظيم مظاهرها ومطالعها. إنك أنت القوي الحفيظ المقتدر الواقف العليم الحكيم."۳۷
وهذه الآثار البهائية المباركة جاءت ملهمة لعدد من الرّسائل بقلم كُتّاب بهائيين يؤكدون هذا الفهم الذي شرحناه لمنزلة الخالق سبحانه وتعالى نذكر على سبيل المثال ما جاء في كتاب "الحجج البهية" لأبي الفضائل الجرفادقاني:
"..... وأمّا أهل البهاء وأصحاب السّفينة الحمراء الذين درسوا فنون حقائق التجريد من آثار القلم الأعلى، وتلقّوا دروس التّفريد من حفيف سدرة المنتهى، وتعلّموا مسائل التوحيد في غرف مدارس الفردوس من ألحان ربهم الأبهى يعتقدون أن الله تعالى لمّا كانت ذاته غيباً منيعاً وكنزاً خفياً ومجرداً بحتاً في حقيقتها وكينونتها وهويّتها، فلا يمكن أن توصف بشيء من أوصاف الخروج والدّخول والصعود والنزول والتحيّز والحلول والتستّر والظهور والغياب والحضور والتحرّك والاستقرار والمواجهة والاستدبار وأمثالها من الصفات والنّعوت والخصائص والشؤون لأن تلك الأوصاف كلها من خصائص المادّة والماديّات، وهي مجرّدة عنها مباينة بالذّات لها مقدسة عن الاتصاف بأوصافها، منزّهة عن التعيّن بنعوتها، فلا توصف بوصف، ولا تسمّى بإسم، ولا تشار بإشارة، ولا تتعيّن بإرجاع ضمير، إذ منزع كل الأسماء والأوصاف والخصائص والنعوت، إنّما هو ما يشاهد بالإدراكات الحسيّة ويُدرك بالحواس الخارجية. إذ لا سبيل للعقل في إدراك الكليّات إلاّ استقراء الأفراد، وتتبّع حالات الأشخاص ليتصورها وينتزع منها صوراً كليًة ومفاهيم عقليّة. والمجرد لا يدرك بشيء من الحواس الخارجيّة لينتزع منها تلك الصورة الكليّة فإذا استحال إدراك المجرد بالحواس فيستحيل ويمتنع عن العقل أن يعيّن له رسماً مخصوصاً ويخصص له اسماً أو وصفاً معلوماً، فيرجع كل ما يتخيّل في هذا المقام إلى الأوهام الخيالية لا إلى الحقائق القطعيّة والإدراكات الواقعية. ولذا جاء في كلمات بعض أئمة الإسلام من فروع الدّوحة النبويّة تبكيتاً للذين كانوا يتكلّمون في الذّات الإلهية: "كلما ميّزتموه بأوهامكم في أدقّ معانيه فهو مخلوق مثلكم ومردود اليكم" فإذا ثبت انسداد طريق معرفة الذّات، واستحالة البلوغ إلى إدراك كنهها ، فقد خلق الله تعالى لظهور تلك الذات المقدسة والحقيقة المجردة نفساً كريمة من النفوس البشرية، وخصص لبروز أنوارها وآثارها جواهر نفيسة من الجواهر المقدسة الإنسانية، ليكون عرشاً لسلطان ذاته، وأفقاً لإشراق أنوار تجليّاته، ومظهراً لمكنون حقيقته، ومظهراً لغيب هويّته، ومنزعاً لأسمائه وصفاته ولسانَا لتنزيل وحيه وإلهامه ومصدراً لشرائعه وأحكامه، وصادعاً بآياته وبيّناته، ومُبلّغاً لأوامره ورسالته، وبه يظهر في الرّتبة الأولى والمقام الأول علم الله وحكمته وقوته وقدرته وسلطنته وعظمته ووحدانيّته وفردانيّته وإرادته ومشيئته وجماله وجلاله وفضله وكماله ورحمته وإفضاله فهو المُسمّى بجميع الأسماء العزيزة النّازلة في الكتب الإلهيّة، والمقصود من الأناشيد النبويّة المضبوطة في الصحف السماوية، وهو روح الله النّازلة وكلمته الغالية، ووجه الله النّاظر ويده المبسوطة، ولسان الله النّاطق وعينه النّاظرة، وهو الّلوح المحفوظ والقلم الأعلى والأفق المُبين والمنظر الأبهى، وهو العرش العظيم والكرسيّ الرّفيع، وجنّة المأوى وسدرة المنتهى، وأيّا ما تدعو فله الأسماء الحُسنى.
ولا بُدّ أن يكون هذا الشخص المكرّم والإنسان المفخّم والجوهر المصون والإسم الأعظم، كما أتت به الرسل والأنبياء، موجوداً في كل قرن وزمان، ودور وأوان، ليكون هيكل عبادة الله وواسطة معرفة الله، لئلا تبطل حجج الله وبيّناته وبراهينه وآياته، ولا يخفي سبيل التوحيد والتفريد، ولا ينقطع عُرف الانقطاع والتجريد ولا ينسد باب الإيمان والإيقان، ولا ينتهي عاقبة نوع الإنسان إلى الهمجيّة والخسران. والعقل الصريح يحكم بهذه الحقيقة أيضاً إذ لا يعقل التّعطيل في صدور الأفعال عن المجرّدات ويستحيل صدور الفعل عن المجرد إلاّ بآليّة الأبدان العنصريّة كما هو ظاهر على من له إلمام بالبراهين العقلية وأوتي بصيرة نيّرة في المعارف الإلهية والطبيعيّة.
..... فهذا الإنسان الكريم (صاحب الرّسالة الإلهيّة) الذي وصفناه وذكرناه (وهو أجلّ وأعلى من أن يوصف ويُذكر) تحكي وحدته عن وحدة الله، وإرادته عن إرادة الله ومشيئته عن مشيئة الله، وجميع أسمائه وصفاته عن أسماء الله وصفات الله، وإطاعته إطاعة الله، وإنكاره وتكذيبه هو عين إنكار الله وتكذيب الله، وهذا هو التّوحيد الحقيقي والعرفان والتفريد الواقعي التحقيقيّ."۳٨
تهمة الإباحية باطلة:
ليس بمستغرب أن تقترن تهمة الإلحاد والزندقة بتُهم أخرى هي نتيجة حتميّة لها، ومن هذه التّهم التي يحاول المدّعون لصقها بنا أن هذا الدّين الذي نؤمن به يبيح لنا ما لا تبيحه الأديان السماويّة الأخرى، ولو كلّف هؤلاء أنفسهم الحياة معنا، والعيش بيننا لشهدوا بأنفسهم أن كل ما يمُتُّ إلى الشرف والاستقامة في المعاملة هي من الأسس التي يبني عليه المجتمع البهائي حياته. ويسعى البهائيون في جميع أنحاء العالم في تحقيق أسمى المبادىء الأخلاقية والأنسانية حسب ما ورد في تعاليم حضرة بهاء الله.
ولإثبات تهمة الإباحيّة هذه يذهب بعض الكتاب إلى القول بأن إحدى أولى المؤمنات بحضرة الباب والملقبة بـ "قرّة العين" وبـ "الطاهرة" (واسمها الحقيقي زرّين تاج) أعلنت السّفور وكشفت وجهها مُتحديّة بذلك تقاليد الدّين، ولكن متى كان الحجاب من أصول الدّين في شيء؟ وقد هال هذا الأمر عدداً كبيراً من معاصريها الذين لعِبَ بهم الخيال حتى أنهم أضافوا إلى تلك الحادثة ما جادت لهم القريحة به من قصص ليس لها أساس من الصحّة. بل بالعكس هناك من الدلائل الثابتة أنّ الطّاهرة كانت طاهرة بحق وقد برّأها أعظم علماء عصرها وأتقاهم وهو مفتي مدينة بغداد السيد محمود أفندي شهاب الدّين الألوسي في آخر مؤلفاته باسم "نهج السلامة إلى مباحث الإمامة" فقال:
"...وهي ممّن قلّدت الباب بعد موت الرّشتي ثم خالفته في عدّة أشياء منها التّكاليف فقيل إنها كانت تقول بحلّ الفروج ورفع التكاليف بالكليّة وأنا لم أحس منها بشيء من ذلك مع أنها حُبست في بيتي نحو شهرين وكم من بحث جرى بيني وبينها رفعت فيه التقيّة من البين."۳٩
ويؤكّد عبّود الصالحي على الاحترام الذي كانت تتمتّع به وينكر كل ما نُسِب اليها. وقد نقل الأستاذ علي الوردي مؤلّف كتاب "لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث" ما جاء في مخطوطة عبود الصالحي ما يلي:
"وهي الآن محترمة ومعزّزة في دار السيد المفتي وأنا في هذا اليوم الجمعة الموافق الثامن من شهر ربيع الثاني ذاهب إلى بغداد لأجل العمل الجاد في خلاصها....كما إن حضرات الأعيان وعلماء بغداد قاطبة يحترمونها أي احترام ويكنّون لها كل تقدير وأن ما قالوه وأشاعوا عندكم فهو باطل ومحض اختلاق..."٤۰
ولكي لا نسترسل في موضوع فرعي قد استوفى حقّه من البحث والتمحيص نلفت النّظر إلى دراسة لأحد المؤرّخين المُنصفين – وهو من غير البهائيّين – إذ يقرر في ختام حديثه عن الطّاهرة نتيجة بحث موضوعي مدروس أنها كانت دون شك سيّدة محترمة وامرأة نادرة فيقول:
"...اني أعتقد على أي حال أن قرّة العين إمرأة لا تخلو من عبقريّة، وهي قد ظهرت في غير زمانها أو هي سبقت زمانها بمائة سنة على أقلّ تقدير. فهي لو كانت نشأت في عصرنا هذا وفي مجتمع متقدّم حضارياً لكان لها شأن آخر وربما كانت أعظم امرأة في القرن العشرين...."٤۱
وأما من ناحية مواضيع العفّة والطهارة والتخلّق بالآداب والعمل بموجب أسمى القيّم الإنسانية فإن النّصوص الآتية من الآثار البهائيّة تُبيّن بكل وضوح المستوى الأخلاقي السّامي الذي يحتّمه الدّين البهائيّ على أتباعه:
في الأخلاق والعفّة والطّهارة والنّزاهة
من آثار حضرة بهاء الله:
"هم (أي أهل البهاء) عباد لو يمرّون عليهم ذوات الجمال بأحسن الطراز لن ترتدّ أبصارهم إليهن، ولو يرون وادياً من الذّهب يمرّون عليه كمرّ السّحاب كذلك نزل من مالك الرّقاب".٤۲
"...إن البصر وديعتي عندك فلا تجعل له غشاوة من غبار النّفس والهوى، وإن السّمع لمظهر من مظاهر جودي فلا تُثنيه عن الإصغاء للكلمة الجامعة بسبب أغراض المُشتهيات النفسيّة، وإنّ القلب خزينتي لا تودع لآلئها المكنونة لدى النّفس السارقة والأهواء الخائنة."٤۳
" يا ابن الروح أيقن بأن الذي يأمر النّاس بالعدل ويرتكب الفحشاء في نفسه إنه ليس مني ولو كان على إسمي."٤٤
من آثار حضرة عبد البهاء:
"...على أهل البهاء أن يكونوا مظاهر العصمة الكبرى والعفّة العظمى، فقد ورد في النصوص الإلهية"(هم عباد) لو يمرون عليهم ذوات الجمال بأحسن الطراز لن ترتدّ أبصارهم إليهن" والقصد من هذه الآية أن التّنزيه والتّقديس من أعظم خصائص أهل البهاء. فعلى المؤمنات الموقنات المطمئنّات أن يشتهرن بين أهل الآفاق بكمال التنزيه والتقديس والعفّة والعصمة والستر والحجاب والحياء حتى يشهد لهنّ الكلّ على نقاوتهنّ وطهارتهنّ وكمال عفتهنّ، لأن ذرّة من العفّة أعظم من مائة ألف سنة من العبادة في بحر من المعرفة..."٤٥
البهائية والسياسة
نتناول في هذا القسم موضوع الاتهامات الباطلة التي توجّه إلى الدّين البهائي مدّعية بأنه يخدم أغراضاً سياسيّة، وانّه مرتبط بأجهزة سياسيّة مشبوهة وما إلى ذلك من ادعاءات ولكي نبني بعض الحقائق كاملة نجد من الضروري تقسيم الموضوع إلى ثلاثة أقسام رئيسية:
أ- أصول هذا الاتهام والأدلّة الزّائفة التي يقدّمها المعارضون لهذا الدّين ضدّه.
ب- تحريم الاشتغال بالأمور السياسيّة تحريماً قاطعاً في الدّين البهائي.
ج- الشعور الوطني الصّادق لدى البهائيّين.
أصول هذا الاتّهام:
رزح العالم الشرقي وشعوبه مدة طويلة تحت نيّر الاستعمار الاجنبي وكانت نتيجة هذا الاستعمار والظّلم الذي تحمّلته تلك الشعوب أن كَرِه َ الشرق المستعمرين وقاموا على محاربتهم ومحاربة أتباعهم. وهكذا اغتنم أعداء الأمر البهائي ومناوئيه هذه الفرصة – فرصة كراهية الشرق للمستعمر- فاستغلوا العاطفة المتأجّجة في صدور النّاس ضد الأجنبي والظلم الذي يمثّله حكمه فاخترعوا باطلاً وزوراً علاقة لا أساس لها من الصحّة ولم يتمكّنوا من إثباتها، بين هذا الدّين والمستعمرين.
كان الهدف الأساسي الذي سعى اليه مضطهدو هذا الدّين الزعم بأنه مرتبط بالاستعمار هو زرع الكراهية والبغضاء في نفوس النّاس تجاه الدّين البهائيّ. والمدهش في الأمر أن هذا الزّعم لم يقتصر على ربط هذا الدّين بمستعمر واحد بل تعدّى ذلك إلى عدد من المستعمرين ذوي الاتّجاهات المختلفة ومما يزيد في دهشتنا أنه كلّما ظهر مستعمر جديد لفّق أعداء هذا الدّين تهمة جديدة لربطه بوجه الاستعمار الجديد، وكأنّ الحيَل لا تعيهم في شأوهم هذا. وليس هذا الاتهام بجديد في تاريخ الأديان السماوية، فإن الإسلام دين الله الحنيف اتّهم في بداية أمره بمثل ما يُتهم به الدّين البهائي وزعم أعداء الإسلام كما زعم معارضو الدّين البهائي بأن دين الله مرتبط بالأجنبي الغريب. قال الله تعالى: "وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيهِ قَومٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُو ظُلْماً وَزُوْراً"(سورة الفرقان-٤).
ورداً على هذا الاتهام الذي وجّه للرسول الكريم يقول الله تعالى "وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُم يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيهِ أَعْجَمِيٌ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌ مُبِينٌ"(سورة النحل-١٠٣)
في الماضي كان أعداء الدّين البهائي يتّهمونه بأنه مرتبط بالنفوذ الرّوسي في إيران وتارة بالنّفوذ البريطاني، ونجدهم اليوم وبعد أن انتشر هذا الدّين انتشاراً عظيماً في الولايات المتحدة يتهمونه بأنه مرتبط بعجلة الاستعمار الغربي والاميركي خاصّة، وبالتّالي بالصهيونيّة، وهذا بيت القصيد، إذ أنه لو لم تكن الصهيونية مكروهة لما حاولوا هذا الإدّعاء. أمّا في المناطق التي يوجد فيها كره للشيوعيّة فيتّهم هؤلاء الدّين البهائيّ بأنّه مرتبط بها، وهكذا دواليك إذ لا نهاية للارتباطات التي يخترعها المدّعون.
قد ردّد عدد من أصحاب الكتب المعادية للدّين البهائي الكثير من هذه الاتهامات واعتمد معظمهم على كتاب مختلق لم يتورع أصحاب تلك الكتب من ذكره كمصدر رئيسي يحاولون به إثبات إتهاماتهم ونعني بذلك كتاب ظهر في إيران عام ١٩٤٤ بعنوان "مذكرات كينياز دالكوروكي"، هو الكتاب الذي نشر غفلا من أي توقيع وهو مجهول المؤلف ولا يحمل اسم ناشر ما وطُبِعَ بمطبعة مجهولة. ويكفي أن نذكر هذا ليتأكد لدى الباحث المحقّق أن الكتاب المذكور مبعث للشكّ ومصدر لكثير من القلق لمن يريد استقاء المعلومات منه. ولن نورد هنا الكتب العربيّة العديدة التي اتخذت من هذا الكتاب مصدراً تسعى عن طريقه إثبات التهم لإن القارىء المحترم لا شكّ سيدرك بنفسه حين يمرّ اسم الكتاب أو يذكر في الحواشي كمصدر بأنه وثيقة مختلقة. ولا داعي لنا نحن أن نقرر هذا ففي ما قرره المؤرخون الإيرانيون من غير البهائيين وبعض هؤلاء ممن كتبوا ضد هذا الدّين لدليل قاطع على زيف ما فيه من حقائق. فعلى سبيل المثال يورد المؤرخ الإيراني المعاصر عباس إقبال٤٦ (وهو من غير البهائيين) في مقال له بمجلة "يادﮔار" الإيرانيّة ما يلي:
" أما عن قصّة كينياز دالكوركي فإن حقيقة هذه القصّة أنها اختلقت اختلاقاً وهي من عمل بعض الدجّالين. فمن المدهش أن يخرج هذا الكتاب في مثل هذا الوقت (أي عام ١٩٤٤) دون أن يشير اليه أحد قبل الآن...علاوة على ذلك فإنه يحتوي على مغالطات تاريخية مضحكة فتخلق هذه الأغلاط الشنيعة الشكّ بالنسبة لصحّة محتوياته."٤۷
ويذكر العلاّمة مُجتبي مينوى الاستاذ بكلية العلوم الدّينيّة والمعارف الإسلامية في جامعة طهران في مقال له بمجلة "راهنماى كتاب" ما يلي:
" لقد ثبُت لدي بأن المذكرات الخاصة بدالكوركي هي مذكرات مختلقة."٤٨
ويسترسل في شرح التناقض الموجود بين هذه المذكرات وبين الحقائق التاريخية الثابتة فيذكر بعض هذه التناقضات وكيف أنه يستحيل معها ما جاء في هذه المذكرات من حوادث تاريخية ويختم مقاله بقوله:
"ونظراً لهذه المغالطات التاريخية في هذه المذكرات المنسوبة إلى دالكوركي وهي مغالطات تخالف الواقع، يمكننا الحكم بأنها كلّها مختلقة وإن اختلاقها قد تمّ في إيران."٤٩ ولعلّ أكبر دليل على الافتراءات التي جاءت في "مذكرات كنياز دالكوركي" هو ما أورده السيد احمد كسروى التبريزي المشهور بعدائه للدّين البهائي والذي سبق له وأن ألّف كتاباً مفصلا في تكذيب الدعوة البهائيّة بعنوان "بهائي ﮔرى" المنشور في طهران عام ١٩٤٤:
" انتشر ..... مقال بعنوان "مذكرات كنياز دالكوركي" ظنّه البعض مدعاة للسّرور، فقام
أناس باستنساخه، وأرسلوا نسخاً منه يميناً وشمالاً ... إن ممّا لا شك فيه أن هذا المقال
مُختلق، فقد ثَبُتَ مؤخراً أنه من عمل شخص في طهران يفتقر إلى العلم ويَدّعيه، وقد
حاول لمدة سنوات عدّة أن يشتهر بين النّاس، وهو صاحب هذا الاختلاق، وقد تمكّن من
توزيعه بين الناس بطريقة خفيّة غير معروفة ...."٥۰
ومن جملة الاتهامات التي تُلقى جزافاً إتهام يقول أن الحكومة الروسيّة كانت وراء الدعوة البهائيّة في إيران، ويَدّعي المتّهمون اتهامهم هذا لأنّ السّفير الروسيّ توسّط لدى السلطات الإيرانية للإفراج عن حضرة بهاء الله، وحقيقة الأمر أن حضرة بهاء الله لم يقبل وساطة أحد ورفض بإباء أن يكون مطيّة لأيّ غرض سياسيّ، ولولا أن زوج شقيقته كان موظفاً بالسّفارة الروسيّة وبصورة شخصية توسّل لدى السفير للتدخلّ لصالح شقيق زوجته، لما كان من الممكن أن يحاول السّفير الروسي مساعدة حضرة بهاء الله. فالمسألة كانت على نطاق شخصيّ بحت، ولو أراد حضرة بهاء الله الاستعانة بالتيارات السياسية الإيرانية لكان بإمكانه، بدون شك، أن يذود عن نفسه النفي والسّجن والعذاب والإرهاق، ولكن الهدف الذي كان يسعى اليه كان هدفاً إلهياً قدّم من أجله صاحب الرسالة البهائية أعلى التضحيات دون الاستعانة بأحد من العباد.
وحينما يفشلون أصحاب هذا الاتهام في إثباته يخرجون علينا باتّهام آخر يقول بأن وراء هذا الدّين الحكومة البريطانية،٥۱ فيكتب فريدون آدميت في كتابه "أمير كبير وإيران"٥۲:
"إن الملا حسين بشروئي كان عالماً خارق الذكاء وطليق اللسان، ومنذ عام ١٢٤٥(١٨٣٠) حيث كان يقطن مشهد (خراسان) أصبح من السياسيّين وتقرّب منه بعض الموظّفين البريطانيين حتى أنه في عام ١٨٣٠ اتّصل بضابط بريطاني .... "٥۳
وأعجب ما في الموضوع المغالطة التاريخيّة بالإضافة إلى بطلان الادّعاء القائل بأن الملاّ حسين كان من السياسيّين، فالملاّ حسين لم يكن سياسياً ولم يدخل ميدان السياسة علاوة عن أن عمره عام ١٨٣٠ لم يكن يتعدى السادسة عشرة، وكان ذلك في العام بالذّات بمدينة كربلاء ولم يكن في ايران.
لقد حاول بعض السياسيين البريطانيّين إقناع حضرة بهاء الله وضع نفسه تحت الحماية البريطانيّة٥٤، وكانت بريطانيا آنذاك صاحبة نفوذ عظيم ومن أقوى الدول في ذلك العصر فاتصل بحضرته القنصل البريطاني العام في بغداد السير أرنولد بارووز٥٥ وحاول أن يقنع حضرة بهاء الله بقبول الجنسيّة البريطانيّة وبقبول وضع نفسه تحت الحماية البريطانيّة وعرض عليه الإقامة في الهند محاطاً بكل مظاهر العزّة والرّاحة، ولكن حضرة بهاء الله رفض بإباء هذا العرض واختار حياة النفي والسّجن واستمرّ في تحمّل الشّدائد والبلايا والعذاب طوال مدّة أربعين عاماً من الزمان. ألم يُعْرض على الرّسول صلى الله عليه وسلّم في بدء دعوته المال والجاه لترك دعوته، إلاّ أن موقفه تلخّص في ردّه "والله لو وضعتم الشّمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر لما تركته" وبالفعل عُرضت على حضرة بهاء الله المُغريات من كل نوع إلاّ أنّه وقف موقفاً لا يختلف عن هذا الموقف في شيء.
ولا يكتفي أصحاب الاتّهام بهذا كلّه بل يأخذون على حضرة عبد البهاء أن الحكومة البريطانية منحته عام ١٩١٩، بعد انتهاء الحرب الكونيّة الأولى، وساماً من درجة فارس، وكان الوسام تقديراً من الحكومة البريطانيّة على الأعمال الخيرية الهائلة التي قام بها حضرة عبد البهاء إبّان المجاعة الكبرى في سوريا ولبنان وفلسطين، فأطعم الآلاف من الناس وأنقذ مئات الأطفال من الموت بفضل رعايته لهم وتوفير الغذاء، ولقد سار في موكبه الأخير الآلاف من أبناء الشعب يندبون حضرة عبد البهاء بقولهم "لقد مات أبو الفقراء والمساكين، ليس لنا حياة من بعدك."
والسؤال الذي يطرح هنا هو إذا كانت الحكومة البريطانيّة قدّرت هذه الجهود ومنحت حضرة عبد البهاء ذلك الوسام فأيّ ذنب لحضرة عبد البهاء في ذلك؟ ويجدر بالذكر هنا أن الوسام لم يتقلّده حضرة عبد البهاء أبداً، بل وهبه لأحد أتباعه المتواضعين.
تحريم الاشتغال بالأمور السياسيّة تحريماً قاطعاً في الدّين البهائيّ:
إن التّهمة الباطلة الموجّهة للبهائيين بأن لهم ارتباطات سياسية مشبوهة وخاصة بالمؤسّسات الصهيونيّة العالميّة – وهذا اتّهام باطل من أساسه يُلقى على عواهنه دون أن يكون لدى مُطلقي هذه الاتّهامات حتى شبه دليل- إنّ هذه التّهمة بالذّات لا تأخذ بعين الاعتبار أبداً التّحريم القاطع الذي سنّه حضرة بهاء الله لأتباعه والمُتعلق بالاشتغال بالأمور السياسيّة وعلاوة عما صرّح به حضرة عبد البهاء من أن ميزان معرفة ما إذا كان الشخص بهائياً أم غير بهائي هو أن الذي يتدخّل في الأمور السياسية أو الذي يتخطّى حدود وظيفته الشخصيّة فإنّ عمله هذا يكون برهاناً كافياً على أنه ليس بهائياً ولا حاجة لبرهان آخر ويسترسل حضرة عبد البهاء في تصريحه هذا فيضيف بأنه نظراً لهذا المبدأ الجوهريّ يترتّب على الفرد البهائيّ الذي تُسوّل له نفسه الاشتراك في المسائل السياسية أو فتح شفتيه للخوض في موضوع سياسيّ مهما كان نوعه أكان ذلك في منزله أو في محفل من محافل الأحباء (أي البهائيين) أن يقطع صلته أولاً بهذا الدّين ويعلن انفصاله عنه حتى يعلم الجميع أنه لم يبق له ثمة رابطة أو علاقة به ثم يقول ما يشاء. وخلاف ذلك تكون العاقبة حدوث الضرر للجميع وإفساد المسلك الروحاني للأحباء وانشغالهم بأمور تكون سبباً لتدنّيهم وحرمانهم.
ويؤكد حضرة ولي أمر الله شوقي أفندي في رسالة له بعنوان "العصر الذهبي لدين بهاء الله" على أن الدّين البهائي مجرّد من أية صبغة سياسيّة وبعيد كل البعد عن المؤثرات السلبية وعوامل الانحلال العاملة على هدم صرح الكيان الإنسانيّ:
"أشعر أنه فرض عليّ الآن وقد حان وقته أن أصرّ على إيضاح أهميّة مبدأ هو- في المرحلة الرّاهنة من نشوء عقيدتنا- حريّ بأن يظلّ التأكيد عليه مطرداً لتطبيقه في شرق الأرض وغربها على حدٍّ سواء، وهذا المبدأ ليس إلاّ ذاك الذي يتضمن عدم اشتراك تابعي دين الله بصفتهم الفرديّة أو بصفتهم مجتمعين كهيئات محليّة أو مركزيّة في أي شكل من الفعالية والنشاط يمكن أن يؤول عن طريق مباشر وغير مباشر كتدخلّ في الشؤون السياسيّة لأية حكومة كانت."٥٦
وتنصّ معظم اللوائح الداخليّة ولوائح النظم الخاصّة والعامّة التي بموجبها تدار فروع الجامعة البهائية العالمية بصريح العبارة وبشكل قاطع ما تنص عليه المادة ٢١ من باب "واجبات وحقوق البهائي":
"يجب على البهائيّ أن لا يشترك في مجهود يمكن أن يُعتبر بأنه تدخلّ في الأمور السياسية سواء كان مقصوداً أو غير مقصود في حكومة...وأن يمتنع عن أي عمل أو كلمة يُفهم منها البعد عن الأصول المؤسّسة من حضرة بهاء الله سواء كانت روحيّة أو اجتماعيّة أو إداريّة، ومن باب أولى الإنضمام إلى عضوية أي هيئة أو جمعيّة لا تطابق برامجها التّعاليم الأمريّة"٥۷
إنّ التّعاليم البهائيّة في هذا المجال يطبّقها البهائيون تطبيقاً تاماً، فهي لا تترك مجالاً للشكّ بأنها بريئة وخالصة من كل تهمة من تهم السريّة والباطنيّة أو خدمة مصالح خاصّة مما يحاول البعض لصقها بها. وتاريخ الدّين البهائي الذي يمتد مائة وتسعة وعشرين عاماً من الزمان يُعطينا الدّليل الكامل على أنه لم يرضخ لأية قوّة سياسيّة أو دينيّة أو حزبيّة في أي بلد من بلاد الشرق والغرب. فما أعظم فشل كلّ أولئك الذين أرادوا استغلال هذا الدّين لمصالحهم الخاصة، أكان أولئك من الملوك الجبابرة أو السلاطين العتاة أو من السّاسة الدّهاة في أمم الشرق والمغرب. فقد صمد هذا الدّين نقياً ناصع البياض مستقلاً تاماً بذاته، مترفعاً عن كل طابع سياسيّ أو لون حزبيّ كما برهنت لنا حوادث الاضطهادات القاسية والامتحانات المريرة التي تعرض لها البهائيون في الشرق والغرب والمحاكمات العلنية التي أجرتها بعض الدول والحكومات في كلا النصفين من العالم مؤكّدة في كلّ مرّة أنّ الدّين البهائيّ لا علاقة له بالمرّة بأيّة حركة سياسية مهما كان لونها، وإنّه منزّه من أية مطامع دنيويّة، وإنّه ليس حركة سريّة غامضة، كما أنه ليس مذهباً من المذاهب الدّينية، أو حزباً من الأحزاب اليساريّة أو اليمينيّة، أو منظمّة من المنظّمات السياسية. فالهدف السّامي لهذا الدّين كان، ولا يزال، ضمان الكيان الفردي لكلّ شعب وأمّة في إطار من الوحدة والأخوّة العالميّة لتحقيق مبدأ السلام العالميّ الذي جاء به مؤسّس الدّين البهائي كأساس لرسالته الإلهيّة في هذا العصر. فكيف يُعقل أن ينضم المؤمن بدين يحرّم على أتباعه "الجدال والنزاع" تحريماً قاطعاً إلى أي تنظيم يكون ضد هذا أو ذاك أو يخلق فئة تكون بحكم تنظيمها الحزبيّ قد خلقت التفرقة في المجتمع الإنسانيّ الذي يؤمن البهائيون بأنه وحدة متكاملة لا تتجّزأ. بالإضافة إلى كل هذا فإن الدّين البهائي يُحرّم أتباعه حتى الانضمام إلى الجمعيات غير السياسيّة التي تتخذ طابعاً سريّاً في نشاطاتها، فقد أمر حضرة ولي أمر الله شوقي أفندي البهائيين في الشرق والغرب الابتعاد عن مثل هذه الجمعيات وعدم الانخراط في عضويتها. مجمل القول أن الدّين البهائي بمؤساسته المختلفة وبمجتمعاته العديدة ليس سراً من الأسرار ولا غموض في كيانه الإداري والروحي، أبوابه الواسعة مفتوحة لكل من يريد أن يبحث بنفسه ويمتحن صدق ما نقول.
إن الكتّاب الذين هاجموا هذا الدّين قد وقفوا حيارى وأصابتهم الدّهشة للسّرعة التي انتشر بها في أنحاء العالم وللأثر العظيم الذي تركه في القلوب المُنيرة الصافية، ولكن تعصّبهم أعماهم عن حقيقة أساسيّة وهي أنه من المحتمل أن يكون ما يبشّر به هذا الدّين هو ما يتطلّبه العصر، فتناسوا هذا وسعوا بشتّى الوسائل إلى تحليل هذه الظاهرة التي أدهشتهم فحاولوا تبرير ذلك بشكل يُرضي أغراضهم، فما وجدوا أمامهم من سبيل إلاّ اختلاق فريّة كبرى تفتقت عن خيالهم وأوهامهم المُغرضة فاخترعوا قصة أن وراء هذا الدّين قوى الصهيونية والاستعمار، وقام هذا النفر من الكتّاب يهاجمون هذا الدّين في عدد من الصحف والمجلات وأصدروا النشرات مكررين هذه "الفريّة الكبرى" دون أن يتمكّنوا من إبراز أي دليل أو يستندوا على أي برهان عقلي أو وثيقة تاريخيّة، وهكذا يقع في حبائل هؤلاء بعض الجهلاء من الناس، أما المنصفون والفلاسفة والكتّاب البارزون من الذين يبحثون في جوهر الأشياء فقد أقرّوا واعترفوا بأن مبادىء الدّين البهائي هي مبادىء سامية وإنسانية عُليا، والبعض الذي لم يكن يؤمن بالله لم يذهب بأكثر من هذا القول إلاّ أن فئة من الكتّاب الملهمين المؤمنين اعترفوا لهذا الدّين بالقوّة الكامنة الغيبيّة واعترفوا به ديناً من الأديان السماوية ومن هؤلاء الكاتب الروسي العظيم ليو تولستوي٥٨، ومن الكتّاب العرب جبران خليل جبران٥٩ وأمين الريحاني٦۰ وغيرهما.
وينسى الكتّاب الذين يكيلون مثل هذه الاتهامات ضد الدّين البهائي بأن الدّين الإسلامي الحنيف جَابَه تهماً مشابهة في بدء ظهوره واتّهم الرسول صلى الله عليه وسلّم بأن أعداء قريش وقوم آخرون هم وراء دعوة النبيّ الكريم.
ويجدر بنا هنا أن نكرّر بكل تأكيد أن الدّين البهائي لا علاقة له بالصهيونيّة بأي شكل من الأشكال وإنه براء براءة الذئب من دم يوسف من كلّ علاقة أخرى يَدّعيها أعداؤه، فأتباع الدّين البهائيّ يعترفون بما نصّ عليه القرآن الكريم من أنّ دين موسى عليه السلام من الأديان السماويّة، ولا يخرجون عمّا طلبه الرّسول صلى الله عليه وسلّم من أتباعه في موقفهم من شريعة موسى عليه السلام. أمّا الصهيونية العالميّة فقد وُلِدَت وترعرعت بعد مدة طويلة من ظهور كلّ من حضرة الباب وحضرة بهاء الله، كما أنّ وجود الأماكن المقدسة في فلسطين تمّ قبل أي حركة سياسيّة في تلك البلاد، وتمّ ليس بمحض إرادة مؤسّس الأمر بل رغماً عنه إذ نفته الحكومتان الإيرانيّة والتركيّة آنذاك هو وأتباعه إلى سجن قلعة عكا.
الشعور الوطني الصادق:
لقد ضرب البهائيّون في مُختلف الدّول التي يعيشون فيها أمثلة عدّة على الوطنيّة الصّادقة والإخلاص الذي لا مجال للشكّ فيه. فحضرة بهاء الله كما أسلفنا أمر أتباعه بإطاعة حكومة البلاد والمحافظة على القانون وبالأمانة المطلقة في كلّ ما يقومون به ويذهبون إليه، فتجد مثلاً أنّ الفرد البهائي كلّ في ميدانه مُخلصاً في تأدية واجبه نحو وطنه وبني قومه معتبراً هذا الواجب أقدس ما يمكن أن يقوم به من شعائر دينه، كما أنه رغم الاضطهاد العنيف الذي واجهه هؤلاء في موطن دينهم لم يستجيروا بأيّة سفارة أجنبية أو حكومة أخرى بل بقوا على العهد أوفياء يتحملون العذاب والآلام وهم يباركون وطنهم ويتمنّون له الخير والازدهار ويبذلون كل ما عندهم لِرفعة شأن ذلك الوطن ورفاهيّة أبنائه.
دحض الادّعاء القائل بأن الدّين البهائي يعتنقه السّذج من النّاس
يذهب بعض من يكتبون ضدّ الدّين البهائي إلى القول أن دعوة حضرة الباب وحضرة بهاء الله إنما تستهوي القلّة القليلة من السُذّج الذين لا شأن لهم بين النّاس، وهم في هذا يقصدون الإقلال من شأن الدّعوة البهائية وإظهارها ديناً يعتمد على الدّجل والخداع. والمدهش حقاً إذا كان الأمر كذلك أن تُجّند كل مثل هذه الطّاقات والكفاءات والقوى لمحاربة أتباع هذا الدّين، أليس من المعقول أنه لو كان هؤلاء من الزُمرة التافهة – كما يدّعي البعض – أن يُترَكوا وشأنهم؟ أليس من الواضح أنّ هذا الدّين قد لفت نظر ثاقبي البصر والمثقفين والمُتحرّرين وأصحاب الضمير والإنصاف فانحازوا إلى صفّه إن لم يؤمنوا بتعاليمه مما أقضّ مضاجع أولئك الذين يُناوئونه؟ ولكن فلنأخذ مثلاً من التاريخ الدّينيّ لنبرهن أنّ في بدء دعوة كلّ رسول يكون أول المُقبلين من الذين – يدّعوهم المعارضون- بالسُذّج من النّاس.
إبّان السنوات الأولى من دعوة الرسول صلى الله عليه وسلّم عارضه وعاداه علماء مكة وعُظماؤها كما لم يشذّ عنهم وجهاء المدينة وأبرز رجالات قريش، فآمن بدعوة الرسول الكريم أبسط الناس وأقّلهم شأناً، ولم يكن أحد من المؤمنين الأوائل ينتمي إلى فئة العلماء. فقد كان الإمام علي رضيَ الله عنه عند إيمانه صبياً ولم يكن قد اكتمل نضوجه بعد. ولو استعرضنا أسماء المُقبلين الأوائل لوجدنا بينهم أمثال بلال بن رباح الحبشي، وصهيب ابن سنان الرومي، وتميم الداري وعمار بن ياسر وعدّاس الأشوري وميتم التّمار. ويتفضل حضرة عبد البهاء بهذا الخصوص فيقول:
"عند ظهور الرسول صلى الله عليه وسلّم وفي السّنوات الأولى لدعوته عارضه وعاداه علماء مكة والمدينة، فآمن به من لم يكن ينتمي إلى فئة العلماء! فتأمّلوا كيف أن بلال الحبشي الذي لم يكن عنده شيء من العلوم ارتقى إلى سماء الإيمان والإيقان. بينما قام عبد الله بن أبيّ الذي كان من العلماء على النّفاق ضدّ الإسلام، ففاز راعي الأغنام (أي أبا ذر الغفاري) بمرتبة المحبوب وانتسب إلى مالك الأمم (يعني الرسول صلى الله عليه وسلّم) بينما حُرِمَ من ذلك علماء العصر وحكماؤه. ويشير إلى هذا قوله في الحديث "وحتى يصير أعلاكم أسفلكم وأسفلكم أعلاكم."٦۱
وقد جاء معنى هذا البيان في كلّ الكتب السماويّة وفي بيانات الأنبياء والأصفياء، فنجد في القرآن الكريم قوله تعالى: "وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوَارِثِينَ"(سورة القصص-٥) وأيضاً قوله تعالى: "وَإِذَا قِيْلَ لَهُم آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُم هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ"(سورة البقرة -١٣). هذا ويعود القرآن الكريم فيؤكّد لنا أن من يدعوهم النّاس بالسُذّج في فجر كلّ مظهر إلهيّ وفي بداية كلّ رسالة إلهيّة أو دعوة نبويّة، هؤلاء هم الفائزون حقاً، فيذكر الله في كتابه العزيز: "فَقَالَ المَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرْاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ"(سورة هود-٢٧) وأيضاً قوله تعالى: "قَالَ المَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُم أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ"(سورة الأعراف ٧٥-٧٦)
والقول بأنّ السُّذّج والمستضعفين والمتواضعين من عبيد الله هم الذين آمنوا بدعوة الباب خاصة والدّعوة البهائية عامّة يأتي في معظم الأحيان من قِبَل فئتين من النّاس، فئة غير مُتديّنة وفئة متديّنة. فالفئة الأولى تعتبر الأديان جميعها سواسية في البطلان وتعتبرها مجموعة من الأفكار الساذجة التي لا تستحق الاهتمام. أما بالنسبة للفئة المتدينة التي يكون أفرادها أشّد قسوة في نقدهم وتأكيداً على هذه الناحية فليتذكر هؤلاء فيما جاء في قوله تعالى مراراً أن أوائل المؤمنين بدعوة الرّسول أو النبيّ هم من السُذّج والمُستضعفين المُستذلين من عباده، فإذا ما اتّخذنا هذه حجّة وذريعة لدحض حقيقة الرّسالة البهائيّة نكون بذلك وبالقياس قد أنكرنا كل ما جاءت به الكُتُب السماويّة وكلّ الدعائم التي قامت عليها الرسالات الالهية وخاصة الرّسالة الإسلامية الكريمة، فعلينا ألاّ ننسى أن أول المؤمنين بالرسول كانت إمرأة لا تعرف القراءة والكتابة، وصبياً لم يكن يتعدى سن الحداثة، وعبداً رقيقاً، ألم يكن كلّ هؤلاء وأوائل الصّحابة من الفقراء والبُسطاء أعزّهم الله بالإسلام ورفع مقامهم بأن هداهم إلى نعمة الإيمان بالرّسالة التي جاءت لتجعل منهم سادة على من كان أعلم منهم وأكثر جاهاً وغنىً وأرفع مقاماً ومجداً.
ولكن على الرّغم من هذا كُلّه فإن الكثير من أولي العلم والفضل آمنوا بحضرة الباب أمثال ملاّ محمد علي حجّة زنجاني٦۲ الذي كان من فحول علماء عصره ومن أعظم أساتذة الإسلام في إيران، كما آمن به السيد يحي الدارابي الذي كلّفه الشاه لعلمه الواسع وإطّلاعه المُدهش في الإسلام، كي يُحقِّق في أمر الباب فكانت نتيجة التّحقيق إيمان السيّد يحيى وإعلانه تبعيته لحضرة الباب، وغيرهما كثير من أهمّهم : الملاّ علي البسطاميّ، وملاّ سعيد البارفروشي، وملاّ نعمة الله المازندراني وملاّ يوسف الأردبيلي، وملاّ مهدي الخوي، والسيد حسين الترشيزي، وملاّ مهدي الكندي وأخوه ملاّ باقر وملاّ عبد الخالق اليزدي، وملاّ علي البرقاني. ويذكر حضرة بهاء الله هذه الحقيقة في كتاب "الإيقان" ويسترسل بقوله :
"وأمثالهم ممن يبلغ عددهم تقريباً من أربعمائة نفس، أما أسماؤهم جميعاً مثبوتة في اللوح المحفوظ الإلهي. وهؤلاء كلهم قد اهتدوا بشمس الظهور وأقرّوا وأذعنوا لها على شأنٍ انقطع أكثرهم عن أموالهم وأهليهم، وأقبلوا إلى رضى ذي الجلال، وقاموا بتضحية الأرواح في سبيل المحبوب. وأنفقوا جميع ما رُزِقوا به على شأنٍ كانت صدورهم هدفاً لسهام المخالفين ورؤوسهم زينة لسنان المُشركين. ولم تبق أرض إلاّ وقد شربت من دم هذه الأرواح المجرّدة، ولم يبق سيف إلاّ وقد مرّ على رقابهم. دليل صدق قولهم فعلهم. فهل شهادة هذه النفوس القُدسيّة الذين أنفقوا أرواحهم في سبيل المحبوب على هذه الكيفيّة، والذين تحيّر العالم كافة من بذلهم أرواحهم ونفوسهم، هل شهادتهم لا تكفي لهؤلاء العباد من أهل هذا العصر؟ وأمّا إنكار بعض العباد الذين يبيعون دينهم بدرهم، ويبدّلون البقاء بالفناء ويستبدلون كوثر القُرب بالعيون المالحة، وليس لهم مراد إلاّ أخذ أموال الناس كما تشاهد أن كل واحد منهم مشغول بزخارف الدنيا وبعيد عن الرّب الأعلى."٦۳
أمّا العلماء الذين آمنوا بحضرة بهاء الله فمنهم الملاّ محمد قائني، والميرزا أبو الفضل الجرفادقاني وكلاهما من أعلم علماء العالم الإسلامي وأشهر مُجتهديه. وما يقال عن الملاّ محمد قائني بأنه أكثر أهل عصره صلاحاً وتقوى، وقد أجّله الشيخ مرتضى الأنصاري أحد كبار علماء الشيعة إجلالاً كبيراً، والشيخ الأنصاري لا يزال اجتهاده مرجعاً غنياً للعلماء والفقهاء وكان يُعرف بـ "علم الهدى" وله كتاب معروف بعنوان "المكاسب في فقه المذهب الجعفري". والمعروف أنّ "علم الهدى" لم يأذن للاجتهاد الدّينيّ إلاّ لثلاثة أشخاص إبّان زعامته الدّينية في النّجف الأشرف وهم المُلاّ محمد قائني وسيد حسين ترك الذي مات في طريق سفره إلى مكة المكرّمة، وثالثهم الحاج ميرزا حسن الشيرازي الذي أصبح فيما بعد زعيماً ومرجعاً دينياً للطّائفة الشيعية واحتلّ مكان أستاذه "علم الهدى" لفترة من الزمان. ويتضح من هذا أن الزّعامة الإسلامية بعد "علم الهدى" كانت محصورة في شخصين أحدهما المُلاّ محمد قائني الذي لولا إيمانه بحضرة بهاء الله لاحتلّ في العالم الإسلامي مركزاً كمركز صاحبه وصنوه في الفقه.٦٤
بالإضافة إلى من آمن بدين حضرة بهاء الله هناك المعجبون الكثيرون من أهل العلم والفضل ممّن شهدوا لهذا الدّين ولتعاليمه السامية ومجّدوا حضرة عبد البهاء لكونه مثلاً للحياة البهائية ومبادئها وسُننها فنجد أمير البيان المجاهد الكبير الأمير شكيب أرسلان يصفه في كتابه المعروف "حاضر العالم الإسلامي" :
"وكان (حضرة عبد البهاء ) آية من آيات الله بما جمع الله فيه من معاني النّبالة ومنازع الأصالة والمناقب العديدة، التي قلّ أن ينال منها أحد مناله، أو يبلغ فيها كماله، من كرم عريض وخلق سجيع، وشغف بالخير وولع بإسداء المعروف، وإغاثة الملهوف، وتعاهد المساكين بالرّفد بدون ملل، وقضاء حاجات القاصدين بدون برم، هذا مع علو النفس، وشغوف الطبع، ومضاء الهمة، ونفاذ العزيمة، وسرعة الخاطر وسداد المنطق وسعة العلم ووفور الحكمة، وبلاغة العبارة.... وبلغ من قوّة الحجّة وأصالة الرأي وبُعد النظر الغاية التي تفنى دونها المُنى، حتى لو قال الإنسان إنه كان أعجوبة عصره ونادرة دهره، لما كان مُبالغاً، ولو حكم بأنه من الأفذاذ الذين قلّما يلدهم الدهر إلاّ في الحقب الطوال...."٦٥
مجمل القول أن المنصفين لا يخفون الحقيقة الواضحة في أن أتباع حضرة بهاء الله في مشارق الأرض ومغاربها ينتمون إلى أهل الخير من بني البشر وهم من ذوي الفكر، كما هو الحال مع أتباع هذا الدّين في موطنه الأصلي رغم انكار المناؤين وإثباتاً لهذا القول نورد ما جاء في بحث علميّ مستفيض عن الأدب الفارسي بقلم عالم لا يرقى اليه شك هو الدكتور أمين عبد المجيد بدوي:
"في القرن التاسع عشر ظهرت البابيّة ثم البهائيّة ولها في إيران أتباع متحمّسون بين الطبقة المثقّفة حتى لتُعدّ إيران أهم مراكز هذه الدعوة في وقتنا الحاضر" ٦٦
التشكيك في المصادر التي تموّل البهائيّة
يسرع البعض كلّما سنحت له الفرص إلى اتهام البهائيين بأنهم فئة مأجورة يموّلها الاستعمار والصهيونيّة، ولكنهم رغم اتّهاماتهم المتكررة مدّة طويلة من الزّمن، ورغم المحاكمات المتكرّرة التي قدّم لها البهائيون في بعض البلاد، لم يتمكّن أحد من إبراز وثيقة واحدة تدلّ على أن الدّين البهائي تصله أموال من أي جهة كانت سوى البهائيين أنفسهم. ولقد برّأت المحاكم المغربية والمصرية مراراً البهائيين من هذه التّهمة، فكيف يعقل أن يقبل البهائيون أموالاً من غير البهائيين إذا كانت التبرعات لا تقبل إلا من البهائيين إلاّ عندما يكون التبرّع بقصد الصرف على الفقراء والمنكوبين من كل جنس ودين. أي أن التبرّعات التي يصرف منها على النشاط البهائي هي إعانات يتبرع بها البهائيون فقط دون غيرهم، فالدّين الإلهي ليس سلعة تُباع وتشترى، قد يكون أفقر الفقراء أعلى مرتبة بالإيمان من أغنى غنيّ، ولا فضل لأحد على أحد إلاّ بمدى إيمانه وتواضعه لله مالك كل شيء. وكلّ فرد بهائي مسؤول عن نفسه لا يكلّف الدّين شيئاً، ومن أشهر القصص التي تروى عن ميرزا أبو الفضل الكاتب البهائي المشهور أنه كان يرفض أن يخدمه أحد رغم ما عُرِضَ عليه من خدم. ويُحكى عنه أيضاً أن قسّيساً بروتستنياً رآه في مدينة تبريز وهو قائم بتبليغ الأمر البهائي، فاقترح عليه أن يقبل السفر إلى أميركا على نفقته ليتعلم الإنجليزية ووعده بتأمين كل وسائل الراحة وبذل المال له ليتمكن من اقتناء الخدم والحشم والبيت المنيف والمكان المريح وليخلص من السجن والإهانة والموت الذي يهدده كل لحظة، إلاّ أنّ أبا الفضل أبى ذلك وفضّل الخطر المُحيق به على الأمان والاطمئنان الذي يشترى بالمال. ولم يكن أبو الفضل وحده في هذا، فقد عاش دعاة هذا الدّين في تقشّف لم يسبق له مثيل وعلى من أراد أن يتحقق من ذلك فليقرأ التاريخ البهائي المليء بالأمثلة والأدّلة القاطعة التي لا مجال لدحضها، فيعلم عندئذٍ أن البهائيين في جميع أقطار العالم وبدون أي استثناء لا يعتمدون على أحد سوى الله سبحانه وتعالى، وليس لهم من مُعين إلاّ ايمانهم الصادق بالمبادىء السامية التي جاء بها حضرة بهاء الله، والتي تؤكد نقاوة الضمير والترفُّع عن كل ما يخضع مقرارات الضّمير للمادّية البشعة وهي المبادىء التي تؤكد أيضاً أن الدّين البهائي دين مستقّل تمام الاستقلال عن كل ما سواه، ولا يدين بالولاء لأي هيئة أو جهة سياسية أو اجتماعية أو مذهبية أو فكرية.
this is test element with id='test'
التوبة المزعومة لحضرة الباب
ولا يسعنا ونحن في معرض تفنيد الاتّهامات الباطلة التي توجّه إلى أتباع الدّين البهائي وإلى أسسه أن نتغاضى عن الوثيقة التي يروّجها بعض مناوئي الدّين البهائي منذ حين وهي الوثيقة المنسوبة إلى حضرة الباب والتي يدّعي هؤلاء بأنها تتضمن "توبة الباب" ورجعته عن دعوته.
والوثيقة المذكورة منشورة في كتاب إدوارد براون٦۷ نقلها عنه عدد كبير من الذين كتبوا ضد هذا الدّين فمنهم من نقل الوثيقة دون أي تعليق، ونفر آخر بنى عليها مزاعم عديدة ملفّقة لا أساس لها من الصّحة ولا يسندها أي بند من بنود هذه الوثيقة.
هناك نقاط عدّة ينبغي أن نلفت اليها نظر القارىء الكريم:
أولاً: أن الوثيقة المزيّفة كما هي مثبتة في كتاب براون وكما يقرّر صاحب الكتاب نفسه، غُفل من الإمضاء ولا تحمل تاريخاً معيناً أو ختماً، وكانت عادة الباب أن يمهر كل رسائله بختمه.
ثانياً: ليس هناك ما يدلّ على الجهة المرسل إليها الوثيقة، ورغم دقّة الخط المكتوبة به فإنه غير واضح وغير مقروء. وهذا ما ذكره براون أيضاً.٦٨
ثالثاً: لقد تجاهل هذه الوثيقة المؤرخون الإيرانيون الذين رغم مناوئتهم للأمر الكريم يحاولون مهاجمة الدّين البهائي بشكل غير غوغائي، فقد تغاضى عن هذه الوثيقة محمد كريم خان كرماني زعيم الشيخية بعد السيد كاظم الرشتي وهو الذي كتب عدّة رسائل عن الدّين البابي وضد معاصره حضرة الباب، كما أن مؤلف كتاب "شيخيكري وبابيكري" وهو مؤلف غير بهائي مهتم بدراسة الشيخية والبابية نفى نفياً باتاً موضوع توبة الباب وأثبت بطلان هذا الزعم بشكل قاطع.
رابعاً: إذا كانت هناك توبة بالفعل، فالتّوبة عادة علنيّة ويعرفها الجميع، وكان بالأحرى أن تستغلّها السلطات الدّينية آنذاك وتنشرها على الناس هي التي طالما كانت تُخيّر الناس بين الإنكار والاستشهاد. وكيف فات المجتهدين آنذاك إعلان هذه التوبة بشكل فاضح ليقضوا على البابية قضاء مبرماً. وكفانا دليلاً على أن حكاية توبة الباب مُختلقة من الأساس تأكيد ميرزا مهدي خان زعيم الدولة الذي هاجم الباب في كتابه المعروف "مفتاح باب الأبواب" ناقلاً الكلام عن أبيه أنه كلّما حاول العلماء إقناع الباب بالتوبة قابلهم بالرفض المُطلق.
وفي رسالة أُكتشفت أخيراً يشرح فيها ناصر الدّين شاه لأحد وزرائه بعد مرور مدة من الزمن وقائع اجتماع تمّ بينه وبين حضرة الباب بحضور عدد من العلماء فيؤكد فيها أن حضرة الباب أكّد أنه الموعود المنتظر وصاحب الدعوة الإلهيّة ولم يُشِر ناصر الدّين شاه في هذه الرّسالة إلى أي إنكار من قِبَل حضرة الباب وأوردنا في الصفحة المقابلة صورة طبق الأصل لرسالته.
خاتمة
ختاماً لكلّ ما سبق من المناسب أن نورد هنا مُلخّصاً للمبادىء التي يقوم على أساسها الدّين البهائي كما فسرها حضرة عبد البهاء وكل ما نهدف إليه هو أن نضع أمام القارىء صورة واضحة جليّة المعالم لا لُبس فيها ولا غموض لجوهر الدّين الذي جاء به حضرة بهاء الله لسعادة العالم الانساني ورفاهيّته:
الأساس الأول : هو تحرّي الحقيقة : فلقد تشبّثت جميع الأقوام بتقاليد العوام: ولذلك اختلف بعضهم عن بعض اختلافاً شديداً وما زالوا في نزاعٍ وجدال. غير أن ظهور الحقيقة يكشف هذه الظلمات ويؤسّس وحدة الاعتقاد. ذلك لأن الحقيقة واحدة لا تقبل التعدّد.
والأساس الثاني : هو وحدة العالم الانساني : فجميع البشر مشمولون بألطاف الرّبّ الجليل الأكبر، وهم عباد الله الواحد وناشئة الربوبيّة الواحدة هي التي شملتهم جميعاً بالرّحمة. وأن التاج الإنساني لزينة لرأس كلّ من عبيد الله. لهذا يجب أن ترى جميع الطوائف والمِلل أن بعضها أخوة لبعض، وأنهم أغصان وأوراق وأزهار وأثمار لشجرة واحدة. ذلك لأن الجميع أبناء لأب واحد هو آدم ولئالىء مكنونة في صدف واحد. وكل ما في الأمر أنهم بحاجة إلى التربية: بعضهم غافلون جاهلون وهؤلاء تجب هدايتهم، وبعضهم مرضى وينبغي علاجهم وبعضهم أطفال وتجب تنشئتهم بين أحضان العطف وأكفاف الحنان حتى يبلغوا أشُّدهم، ولا بُدّ من صقل قلوبهم حتى تشرق هذه القلوب وتنير.
والأساس الثالث : هو أن الدّين أساس الألفة والمحبة وبنيان الارتباط والوحدة. فلو كان الدّين سبب العداوة لما وهب للنّاس الألفة بل لورّثهم الكلفة، ولكان عدمه أفضل من وجوده ولرجّحت كفّة التجرّد منه على التشبّث به.
والأساس الرّابع : هو أن الدّين والعلم تؤامان لا انفكاك لإحدهما عن الآخر. فهما للإنسان بمثابة الجناحين للطّائر يطير بهما. ومن الواضح أن جناحاً واحداً لا يكفي للطّيران. وكلّ دين يتجرّد من العلم فهو تقليد لا اعتقاد ومجاز لا حقيقة. ولذلك كان التّعليم فريضة من فرائض الدّين.
والخامس : هو أن التعصّب الدّينيّ والتعصّب العنصري والتعصّب الوطني والتعصّب السياسيّ هادمة للبنيان الإنساني. وحقيقة الأديان الإلهيّة واحدة لا تقبل التعدّد وجميع الأنبياء في غاية الائتلاف والاتّحاد. فحكم النبوّة كحكم الشمس: تطلع في كلّ فصل من مطلع. ولهذا السّبب بشّر كلّ سلف بخلفه وصدّق كل خلف سلفه: "لا نفرّق بين أحد من رسله."
والسادس : هو المساواة والأخوّة التامة بين البشر: وإن العدل ليقتضي أن تحفظ جميع حقوق النوع الإنساني وتصان، وأن تتعادل الحقوق التامّة. وهذه القاعدة من الّلوازم الذاتيّة للهيئة الاجتماعية.
والسابع : تعديل معيشة الجنس البشري حتى ينجو الجميع من العوز والاحتياج، وليستقر حال كل فرد بقدر الامكان وبقدر إقتضاء رتبته ومكانته. فكما يتدلّل الأمير في بحبوحة النّعمة يجب كذلك أن يجد الفقير قوت يومه، ويتحرّرمن الذّلة الكبرى ولا يحرم الجوع من نعمة الحياة.
والثامن : هو الصّلح الأكبر فجميع الملل والدول يجب أن يجدوا الراحة والطمأنينة في ظلال سرادق الصلح الأكبر. وهذا يستلزم أن تقوم جميع الدول والملل بتأسيس محكمة كبرى عن طريق الانتخاب العام لتفصل في نزاع الدول وخلاف الملل حتى لا تنتهي هذه الخلافات بالحروب.
والأساس التاسع : هو أن الدّين منفصل عن السياسة لا صلة له بها ولا مدخل له فيها. بل أن الدّين مختص بعالم الأخلاق، وهو أمر روحاني ووجداني متعلّق بالقلوب لا الأجسام ويجب على رجال الدّين أن ينصرفوا إلى تربية النّاس وتعليمهم وترويج الأخلاق الحميدة، وألاّ يتدخلوا في الأمور السياسيّة
والأساس العاشر : هو تربية النساء وتعليمهنّ والرقي بهنّ ورعاية حرمتهنّ لأنهن قسيمات الرّجال وسهيماتهم في الحياة، وهنّ من حيث الانسانيّة متساويات معهم.
والأساس الحادي عشر : هو الاستفاضة من فيوضات روح القدس حتى تتأسّس المدنيّة الروحانيّة. لأن المدنيّة الماديّة وحدها لا تكفي ولا تكفل سعادة الإنسان وإذا كانت المدنية بمثابة الجسم فالمدنيّة الروحانيّة بمثابة الرّوح. والجسم لا يمكن أن يحيا بلا روح.
هذه نبذة عن تعاليم حضرة بهاء الله وفي سبيل تأسيسها وترويجها تحمّل كل مشقة وبلاء فقد كان مسجوناً دائماً ومعذّباً أبداً وكان في غاية التّعب والإرهاق إلاّ أنّه في السّجن رفع قواعد هذا الإيوان الرّفيع وفي ظلمات الحبس ألقى على الآفاق بهذا النّور السّاطع الّلميع وإنّ أقصى آمال البهائيين هو تنفيذ هذه التعاليم وإجراؤها وإنهم ليبذلون جهدهم البليغ لكي يصبحوا بذواتهم فداء لهذا المقصد حتى تضيء الآفاق الانسانية بالأنوار السماوية."٦٩
كتيب: الموجز في دحض التّهم الموجّهة للدّين البهائي (١٩٧٤) |
المصادر:
[۱] راجع قوله تعالى في القرآن الكريم "أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى (طه-٥٧) وأيضاً "أن هذان الساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى." ( طه -٦٣)
[۲] راجع قوله تعالى في القرآن الكريم رداً على الذين أنكروه واضطهدوه "وقالت اليهود يد الله مغلولة غلّت أيديهم ولعنوا بما قالوا، بل يداه مبسوطتان."( المائدة-٦٤)
[۳] Aurther Christensen (١٨٧٥-١٩٤٥).
[٤] Golfrziner (١٨٥٠ - ١٩٢١) يعدّ من أعظم المتشرقين وهو مجري درس في برلين وبودابست والأزهر الشريف وهو من المتخصّصين في الفرق الإسلاميّة وله عدّة كتب في الإسلام (راجع المنجد للأعلام ص ٣٧٤).
[٥] Edward Granville Brown (١٨٦٢-١٩٢٦) المستشرق البريطاني من جامعة كمبريدج وصاحب مؤلفات عدة في الأدب الفارسي (راجع المنجد للأعلام ص ٦٩).
[٦] Leo Tolestoi (١٨٢٨- ١٩١٠) وهو القصصيّ الرّوسي المشهور الذي كان داعية للإصلاح الاجتماعي في روسيا في نهاية القرن الماضي (راجع المنجد للأعلام ص ١١٦).
[۷] الأمير شكيب أرسلان (١٨٦٩- ١٩٤٦) أديب ومؤرخ، عضو المجمع العلمي في دمشق له عدّة مؤلفات (راجع المنجد للأعلام ص ١٤).
[٨] صحيح مسلم، علم ٠٦ أيضاً رواه أحمد بن حنبل.
[٩] أن هذه الاتّهامات جميعها مُلخصة في جملة الكتب التي قام أصحابها منذ زمن غير بعيد بالكتابة ضدّ الدّين البهائي وتمّ نشرها حديثاً.
[۱۰] راجع في ذلك خُطب عبد البهاء في أوروبا وأمريكا طبع بيروت – ١٩٧٢.
[۱۱] مقتطفة من كتاب علي أكبر فروتن "إسلام وديانت بهائى" طهران ١٣٢٩ هجرية (شمسية) ص٤ ( مترجم عن الفارسية).
[۱۲] المصدر السّابق نفسه ص ٤.
[۱۳] المصدر السّابق نفسه ص٤ (مترجم عن الفارسيّة).
[۱٤] المصدر السّابق نفسه ص٥ (مترجم عن الفارسيّة).
[۱٥] المصدر السّابق نفسه ص٥ (مترجم عن الفارسيّة).
[۱٦] "مكاتيب عبد البهاء" الجزء الأول- القاهرة ١٩١٠، ص ١١٣.
[۱۷] "مجموعة الألواح المباركة" القاهرة – ١٩٢٠، ص ٤٠٥-٤٠٦
[۱٨] المصدر السّابق نفسه ص٣.
[۱٩] المصدر السّابق نفسه ص٤٠٦.
[۲۰] المصدر السّابق نفسه ص٤٠٧.
[۲۱] مقتطفة من كتاب علي أكبر فروتن "إسلام وديانت بهائي".
[۲۲] "كتاب الإيقان" القاهرة- ١٩٣٤، ص٨٢.
[۲۳] مقتطف من خطاب لحضرة عبد البهاء ألقي في سان فرانسيسكو بتاريخ ١٢ أكتوبر ١٩١٢.
[۲٤] "مكاتيب عبد البهاء" الجزء الأول- القاهرة ١٩١٠، ص١٥١.
[۲٥] "مكاتيب عبد البهاء" الجزء الأول- القاهرة ١٩١٠، ص٧.
[۲٦] المصدر السابق نفسه ص ٧٦.
[۲۷] "خطب عبد البهاء في أوروبا وأمريكا" – بيروت ١٩٧٢، ص ٤٦.
[۲٨] راجع: Guidance For Today and Tomorrow لشوقي أفندي، لندن- ١٩٥٣، ص ٢٢٦.
[۲٩] "النبيل الزرندي" هو مؤلف كتاب "مطالع الأنوار" الذي ترجم بواسطة عبد الجليل بك سعد، القاهرة ١٩٤٠.
[۳۰] بهذه العبارة يصف حضرة بهاء الله "الإمام الحسين" في كتاب "الإيقان".
[۳۱] Guidance For Today and Tomorrow لشوقي أفندي، لندن- ١٩٣٥، ص ١١٢-١١٣.
[۳۲] George Sale (١٦٩٧-١٧٣٦) الذي نشر أول ترجمة باللغة الإتجليزية للقرآن الكريم في عام ١٧٣٤.
[۳۳] كتاب "الحجج البهيّة" لأبي الفضائل الحرفادقاني – بيروت ١٩٦٧(الطبعة الثانية) ص ٤٨-٥٠.
[۳٤] المصدر السابق نفسه ص ٥٣.
[۳٥] لوح الصلاة "أدعية حضرة محبوب" القاهرة ١٣٣٩ هجرية ص ٨١-٨٢.
[۳٦] المصدر السابق نفسه ص ٨٣.
[۳۷] مقتطف من "البهائية، تاريخها وحقيّتها" القاهرة ١٩٣١، ص ٤٤-٤٥.
[۳٨] "الحجج البهيّة" لأبي الفضائل – بيروت ١٩٦٧ (طبعة ثانية) ص ٢٦، ٢٩، ٣٥.
[۳٩] "نهج السلامة إلى مباحث الإمامة" لمحمود شهاب الدّين الألّوسي مفتي بغداد وصاحب تفسير "روح المعاني" المتوفى في ١٢٧٠ هجريّة.
[٤۰] "لمحات اجتماعيّة من تاريخ العراق الحديث" للدكتور علي الوردي الجزء الثاني، بغداد ١٩٧١ ص ١٧٢.
[٤۱] المصدر السابق نفسه ص ١٩٠.
[٤۲] مقتطف من لوح مخطوط لحضرة بهاء الله.
[٤۳] "مجموعة ألواح حضرة بهاء الله" القاهرة ١٩٢٠ هجرية، ص ٣١٧ (معرّب عن الفارسيّة).
[٤٤] المصدر السابق نفسه ص ٢٣.
[٤٥] "مكاتيب عبد البهاء" الجزء الأول – القاهرة ١٣٢٧ هجرية ص ٤٥٠ (معرّب عن الفارسيّة).
[٤٦] عبّاس إقبال اشتياني محقّق ومؤرخ إيراني (١٨٩٧-١٩٥٦) متخرّج من جامعة السوربون وله مؤلفات مختلفة في التاريخ نهج في جميعها المنهج العلمي.
[٤۷] "مجلّة يادﮔار" السنة الخامسة- العدد ١٨ (آذار- نيسان) ١٩٥٠.
[٤٨] "مجلّة راهنماي كتاب" السنة السادسة العدد ١-٢ (آذار- نيسان) ١٩٦٤ ص ٢٢.
[٤٩] المصدر السابق نفسه.
[٥۰] "بهائيﮔيري" لأحمد كسروي تبريزي- طهران، الطبعة الرابعة ١٩٥٦، ص ٨٨-٨٩.
[٥۱] راجع كتاب "بحثي در ياد داشتهاي مجهول منتسب بكيناز دالكوروكي" طهران ١٩٧٠، ص ١١٩-١٢٠.
[٥۲] نشر في طهران عام ١٩٤٥.
[٥۳] "أمير كبير وإيران" لفريدون آدميت، طهران ١٩٤٥، ص ٢١٧.
[٥٤] راجع كتاب ج. براون Material for the Study of the Baha’i Religion - كمبريدج ١٩٦١، ص ١١.
[٥٥] عيّن بارووز قنصلاً عاماً لبريطانيا في بغداد عام ١٨٥٩ حسب بعض المصادر.
[٥٦] مقتبس من كتاب "المبادئ البهائيّة" بيروت ١٩٦٨، ص ٧٨.
[٥۷] المصدر السابق نفسه.
[٥٨] وجّه تولستوي رسالة إلى أحد أفراد العائلة المالكة الإيرانيّة المقيم في باريس وذلك ردّاً على استفساره عن مشروع السلام الذي يقترحه تولستوي. ويقول تولستوي في ردّه أن مشروع السلام ظهر بواسطة حضرة بهاء الله في إيران. ورسالة تولستوي موجودة الآن في منزل ذلك الشخص في باريس، والذي أصبح متحفاً بعد وفاته.
[٥٩] اجتمع جبران بحضرة عبد البهاء عام ١٩١٢، ورسم له صورة شخصيّة. ووصف جبران حضرة عبد البهاء في رسالة موجّهة إلى ماري هسكل "إنّه أكمل إنسان عرفته".
[٦۰] يذكر أمين الريحاني حضرة بهاء الله في وصيّته التي هي الآن في حيّز النشر.
[٦۱] من لوح لحضرة عبد البهاء (مخطوط) معرب عن الفارسيّة.
[٦۲] كان في مدينة زنجان فقيه مشهور اسمه ملاّ محمد علي الزنجاني، أحد تلاميذ شريف العلماء المجتهد المازندراني. امتاز بين أقرانه بجودة الذهن وحدّة الفكر، وأجيز له بالفقاهة والإمامة بالجماعة. وحضر إلى بلده واكتسب مقاماً عالياً بين الفقهاء، وكان يخالفهم كثيراً بالفتاوى "مفتاح باب الأبواب" القاهرة ١٣٢١ هجرية، ص ٢١٨.
[٦۳] كتاب "الإيقان" القاهرة ١٩٣٤، ص ١٧٨-١٧٩.
[٦٤] راجع كتاب "مصابيح هدايت" تأليف عزيز الله سليماني- المجلّد الأول، طهران ١٩٤٧، ص ٢٧٦.
[٦٥] مقتبسة من حاشية للأمير شكيب أرسلان في كتاب "حاضر العالم الإسلامي" تأليف لوترب ستودارد، نقله إلى العربيّة عجاج نويهض وفيه فصول وتعليقات و حواشي مستفيضة عن دقائق أحوال الأمم الإسلاميّة وتطوّرها الحديث. بقلم أمير البيان والمجاهد الكبير "الأمير شكيب أرسلان" القاهرة، مكتبة ومطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه ١٣٥٢ هجريّة، ص ٣٥٨-٣٥٩.
[٦٦] "القصّة في الأدب الفارسي" لأمين عبد المجيد- القاهرة، دار المعارف ١٩٦٤ ص٢٢.
[٦۷] طبع جامعة كميريدج ١٩٦١، ص ٢٥٦-٢٥٨.
[٦٨] المصدر السابق نفسه ص٢٥٦.
[٦٩] خطب عبد البهاء في أوروبا وأمريكا- طبع بيروت ١٩٧٢، ص٧٠-٧٢.