الدين البهائي
"لتكن رؤيتكم عالمية ..." -- حضرة بهاء الله
"لو رزقت قليلًا من زلال المعرفة الإلهيّة لعرفت بأنَّ الحياة الحقيقيّة هي حياة القلب لا حياةُ الجسد ..." -- حضرة بهاء الله
"إن دين الله ومذهب الله يهدف إلى حفظ واتحاد واتفاق العالم والمحبة والألفة بين اهل العالم." -- حضرة بهاء الله

من آثار حضرة بهاء الله الكتابية


مقدمة عن الكلمات المكنونة - المصدر: ظهور حضرة بهاء الله - المجلد الاول الفصل السادس ص ٧٣



قيد الإنشاء

"الكلمات المكنونة"

تطل علينا "الكلمات المكنونة" من بين أثار حضرة بهاءالله في تلك الفترة، وكأنها دستور عظيم لخلاص النفس البشرية ومنارة الهدى للضالين الهائمين في بيداء الظلام والمادية، فتمنحهم النور ليجدوا طريقهم إلى ربهم، وتحذرهم أيضا من المهالك والمخاطر العديدة التي ستعترضهم وتمدهم بالمساعدة عند كل منعطف في رحلتهم.

نزلت "الكلمات المكنونة" على ضفاف نهر دجلة من يراع حضرة بهاءالله عام ١٨٥٨م تقريبا. وفي أحد ألواحه المباركة بين أن بعض فقراتها نزلت في مناسبة واحدة ودونت في لوح واحد، أما باقي الفقرات فقد نزلت في أوقات مختلفة ثم أضيفت بعدها إلى المجموعة الأولى التي عرفت في مطلع الظهور باسم "الصحيفة المخزونة الفاطمية".

وفاطمة هي ابنة الرسول وهي أشرف وأبرز امرأة في الدورة الإسلامية. تزوجت في سن مبكرة من الإمام علي بن أبي طالب وأنجبت له عدة أولاد من بينهم الحسن والحسين، الإمامان الثاني والثالث للشيعة. كانت مؤمنة صادقة مخلصة لوالدها الرسول الكريم، وبعد صعوده إلى الرفيق الأعلى غرقت في حزن وألم شديدين. وكما يعتقد أهل الشيعة فإن الروح القدس قد تجلى لفاطمة بواسطة جبريل وخاطب زوجها الإمام علي بكلمات جلبت لها العزاء في مصابها الأليم، ولم يمض وقت طويل حتى لحقت بالرسول الكريم.

لقد ماثل حضرة بهاءالله "الكلمات المكنونة" بما نزل لفاطمة. ويميزها في مطلعها بقوله الأحلى "هذا ما نزل من جبروت العزة بلسان القدرة والقوة على النبيين من قبل..."(1)

ويمكن اعتبار هذا السفر الرائع من النصائح والتحذيرات الإلهية دليلا شاملا للإنسان في رحلته إلى عوالم الله الروحانية. فروح الإنسان لا تخضع لقوانين الطبيعة العاملة في الوجود المادي، بل أنها تحيى وتتحرك خاضعة لقوة الميثاق الأعظم الخالد المبرم بين الله والإنسان، ولا تقف "الكلمات المكنونة" عند شروط هذا العهد الأبدي الذي يربط الإنسان بخالقه، ولكنها ترسم له نهجا يقوده إلى الاستقامة والإخلاص لذلك العهد.

وحتى نفهم "الكلمات المكنونة" علينا أن ندرك طبيعة الإنسان المزدوجة المكونة من قوتين متضادتين: الروحية والمادية أي الروح والجسد.

تنتمي الروح في جوهرها إلى عوالم الله الروحانية، وهي سامية المقام تعلو فوق عالمي المادة والطبيعة. وولادة فرد من الأفراد تحدث عندما ترتبط هذه الروح النابعة من عوالمها الروحانية تلك بالجنين لتهبه الحياة قبل الولادة. إلا أن هذا الاتحاد منزه عن العلاقات المادية وصفاتها كالصعود والنزول والدخول والخروج، لأن الروح ليست من عالم المادة. ويمكن تشبيه العلاقة بين الروح والجسد كعلاقة الضوء بالمرآة. فالضوء ليس له وجود بداخلها، بل انعكاس الأشعة الآتي من خارجها. وبالمثل فليس للروح وجود داخل الجسم بل لها علاقة خاصة به وكلاهما يشكلان الوجود الإنساني، وتبقى العلاقة قائمة طالما بقي الإنسان حيا. وبعد مفارقة الحياة للجسد يرجع الجسد إلى التراب وتعود الروح إلى عوالم الله الروحانية. وبهبوط الروح من عوالمها الروحانية تكتسب وجودا إنسانيا مخلوقا على أحسن صورة وقدرة على التحلي بالصفات والكمالات الربانية. وحين تفارق هذه الروح الجسد لا يتوقف ترقيها بفضل ما اكتسبته بل يستمر ذلك إلى أبد الآبدين.

ولكن حالة الروح بعد الوفاة تعتمد على ما اكتسبته من فضائل إلهية خلال وجودها الإنساني، فلو ولد الطفل دون أحد أطراف جسمه، لا يمكنه تعويضه بعد الولادة وسيبقى محروما منه فترة حياته. وبالمثل، فالروح التي لم تتوجه إلى الله في هذه الحياة لتستنير من هداه ستبقى نسبيا محرومة قابعة في الظلام رغم استمرارها في الترقي.

فالروح لا تحمل معها السيئات للعالم الآخر بل الحسنات، لأن الشر هو انعدام الخير كما أن الفقر غياب الغنى، والشرير هو شخص يفتقر إلى الفضائل الملكوتية لا يحمل معه سوى كمية ضئيلة، ولكن الإنسان الذي أمضى حياته الدنيوية متحليا بالفضائل والكمالات فسيحمل معه زادا أوفر. ومع ذلك سيشمل الفضل الإلهي كلا الشخصين لتستمر كل روح منهما بالترقي، حسب مقامها.

ففي العالم الآخر، طبقا لتعاليم حضرة بهاءالله، مقامات ودرجات كما هي الحال في هذا العالم. فالروح في المقامات الدنيا لا تستطيع أن تدرك صفات الأرواح وكمالاتها التي تعلوها مرتبة.

إن أعلى مقام قدر للإنسان أن يصله هو الاستنارة "بروح الإيمان" عن طريق معرفة المظهر الإلهي للعصر الذي يعيش فيه والعمل على إطاعة أوامره وأحكامه. فالوصول إلى هذا المقام هو الغاية التي من أجلها خلق الله الإنسان.

فرؤية الإنسان في هذا العالم الفاني محدودة جدا مثل السجين الذي لا يستطيع رؤية اتساع الكون الذي يحيط به أو يشاهد جماله ونظامه، وكذا الأمر بالنسبة لرؤيته لعوالم الله الروحانية. فمهما كان الإنسان واسع العلم والمعرفة ومهما كانت مواهبه العقلية فذة، فإنه لن يتمكن من إدراك الحقائق الروحانية إلا بالإذعان لحضرة بهاءالله والتوجه إليه كما تتوجه النبتة لضوء الشمس، وعندها يستضيء فؤاده بأنوار الفضائل الربانية لأنه مكان إشراق هذه المواهب، وعندها يستطيع الإنسان أن يدرك ما بطن في كلمات حضرته من معان سامية وبذلك تتنور الروح وتنجذب إلى الله.

إن التوجه لحضرة بهاءالله هو مفتاح النمو الروحاني، وفي علاقته معه يمثل المؤمن دور الأرض الخصبة، ويفني إرادته في إرادة المظهر الإلهي بالكلية ويفتح قلبه لتأثيراتها، ونتيجة لهذا البذر الروحاني تنتج روح الإنسان نبتا جديدا هو "روح الإيمان". و"روح الإيمان" هذه هي الثمرة النفيسة التي تثمرها روح الإنسان نتيجة تأثيرات حضرة بهاءالله في قلب المؤمن، فهو الذي يسبغ على روح المؤمن قسطا من قوته وجماله ونوره.

وإذا ما ولدت "روح الإيمان" في روح الإنسان فإنها تحتاج إلى غذاء لتنمو وتنضج، ومرة أخرى يزود فيض حضرة بهاءالله وكلمته ذلك الغذاء. فبتلاوة آياته والتأمل فيها والانغماس في بحرها يستطيع الإنسان أن ينمي في نفسه الصفات الرحمانية لتزداد بصيرته الروحانية عمقا ويتنور عقله، وحتى لو كان ضحل الثقافة أو أميا سيتمكن من إدراك جوهر الرسالة الإلهية التي جاء بها حضرة بهاءالله واكتشاف الأسرار المودعة فيها.

وعندما يفوز الإنسان "بروح الإيمان" يغدو متواضعا، فالتواضع ونكران الذات من علامات النمو الروحاني، بينما افتخار الإنسان بنفسه ومنجزاته عدو قاتل له.

فالروح الإنسانية لا تستنير دائما "بروح الإيمان" لأنها مثقلة بالقيود الدنيوية، وفي أحد ألواحه المباركة مخاطبا أحباءه شبّه حضرة بهاءالله روح الإنسان بطائر، فتفضل قائلا:

"مثلكم مثل طير يطير بجناحي القوة بكمال الروح والريحان في لطيف هواء السبحان في غاية الاطمئنان. ولدى تفكيره في الحَب يتجه إلى ماء الأرض وطينها، ويمرغ نفسه في الماء والتراب بغاية الحرص. فإذا ما أراد الصعود يجد نفسه عاجزا مغلوبا على أمره لأن الأجنحة الملوثة بالماء والطين لم ولن تكون قادرة على الطيران. عندها يجد ذلك الطائر في السماء العالية نفسه ساكنا في الأرض الفانية."(2)

ولحضرة بهاءالله في "الكلمات المكنونة" هدف رئيس هو تنزيه الإنسان عن العالم الفاني وحماية روحه من ألد أعدائها، النفس البشرية. وكما ورد في البيان المبارك فإن "الكلمات المكنونة" تضمن للإنسان سبلا تمكن طائر الفؤاد من أن ينفض عن جناحيه ما علق بهما من زفر الدنيا ليعاود طيرانه في العوالم الإلهية.

يمكننا تعريف التعلق بهذا العالم على أنه كل ما يحول دون الروح وتقربها إلى الله. وقد بيّن لنا حضرة بهاءالله في آثاره بأن العالم وما فيه خلق لمنفعة الإنسان، ويحق له امتلاك كل ما يمكنه من الخيرات والاستمتاع بمباهج الحياة المشروعة شريطة عدم التعلق بها في حال من الأحوال. ويحث حضرة بهاءالله الإنسان في تعاليمه أن يبذل الاهتمام الكبير في حياته فيعمل على إصلاح العالم وبناء نظام جديد للإنسانية.

ويتفضل في أحد ألواحه:

"إن الذي لن يمنعه شيء عن الله لا بأس عليه لو يزين نفسه بحلل الأرض وزينتها وما خلق فيها، لأن الله خلق كل ما في السموات والأرض لعباده الموحدين. كلوا يا قوم ما أحل الله عليكم ولا تحرموا أنفسكم عن بدايع نعمائه ثم اشكروه وكونوا من الشاكرين."(3)

إلا أن حضرته حذر الأغنياء بقوله:

"أيها المغرورون بالأموال الفانية اعلموا أن الغنى سد محكم بين الطالب والمطلوب والعاشق والمعشوق، هيهات أن يرد مقر القرب من الأغنياء أو يدخل مدينة الرضا والتسليم منهم إلا القليل. نعمت حال غني لا يمنعه غناه عن الملكوت الخالد، ولا يحرمه من الدولة الأبدية. قسما بالاسم الأعظم إن نور ذلك الغني ليفيض على أهل السماء كما يفيض نور الشمس على أهل الأرض."(4)

وكما أن الغنى قد يصبح حائلا عظيما بين الإنسان وخالقه، والأغنياء هم غالبا في خطر عظيم من التعلق بالشؤون الدنيوية فإن من يملكون القليل من متاعها هم في خطر التعلق بها أيضا. وقصة "الملك والدرويش" التالية، وهي قصة فارسية، توضح ذلك: كان في غابر الزمان ملك عرف بصفاته الروحانية إلى جانب العدل والمحبة والشفقة، وكثيرا ما كان يحسد الدرويش الذي نبذ الدنيا وتحرر من قيودها، يجوب البلاد وينام في أي مكان تحت الظلام ويتغنى نهارا بمديح ربه. يعيش حياة الفقر، ولكنه يملك الدنيا وما فيها حسب اعتقاده. له من الدنيا ثياب تستره وسلة يضع فيها صدقات أهل الإحسان. حقا لقد افتتن الملك بنمط الحياة هذا.

وذات يوم دعا الملك درويشا معروفا إلى قصره ثم جلس عند قدميه راجيا إعطاءه دروسا في الزهد والانقطاع. سرّ الدرويش لهذه الدعوة ومكث في القصر عدة أيام كان يعظ فيها الملك بفضائل حياة الدروشة في ساعات فراغه، وأخيرا اقتنع الملك وأحب أن يدخل هذه الحياة عمليا، فترك القصر ذات يوم بلباس رجل فقير وبصحبة الدرويش، وما أن قطعا مسافة قصيرة حتى انتبه الدرويش إلى أنه نسي سلته في القصر، فانزعج لذلك كثيرا وأخبر الملك أنه لا يستطيع أن يمضي دون السلة وطلب الإذن بالرجوع، ولكن الملك وبخه كيف أنه ترك وراءه قصوره وثروته وسلطانه في حين أن الدرويش الذي أمضى حياته في الوعظ بفضائل الانقطاع وقع تحت الامتحان وأثبت تعلقه بالدنيا بسلته الصغيرة.

كثيرا ما يقودنا سوء الفهم إلى الاعتقاد بأن امتلاكنا لمتاع الدنيا هو المظهر الوحيد لتعلقنا بها، إلا أن الأمر ليس كذلك. فافتخار الإنسان بإنجازاته وعلمه ومكانته ومقامه بين أفراد مجتمعه، وفي المرتبة الأولى أنانيته وحبه لنفسه، هي بعض الحجبات التي تمنع الإنسان عن ربه، والتخلص من التعلق بشؤون الدنيا ليس سهلا بل إنه عمل شاق قد يتحول إلى صراع حقيقي يشغل الروح طوال عمر الإنسان.

ويمكن "للكلمات المكنونة" أن تعمل بفعالية على تحرير الإنسان من أغلال المادية لينتصر على نفسه. وفي لوح مبارك موجه إلى المُبلّغ ميرزا عباس المعروف بـ"قابيل" من أهالي آبادة،(1) يحثه حضرة عبدالبهاء على التمعن في "الكلمات ___________________________________________________________________ (1) برزت بلدة آبادة في التاريخ حيث دفن فيها أكثر من مائتين من رؤوس شهداء الأمر وقد جلبت تلك الرؤوس عبر شيراز مرفوعة على الحراب= المكنونة" ليل نهار والتضرع إلى الله أن يمكّنه من اتّباع نصائح الجمال المبارك، ويوضح في اللوح نفسه أن حضرة بهاءالله لم ينزلها فقط ليقرءها الناس، بل أنزلها للمؤمنين لكي يساعدهم على تنفيذ أوامره وأحكامه.

إن حياة قابيل في الخدمة والتضحية لهي، إلى حد بعيد، إنعكاس لذلك التأثير الفاعل على روحه من تلاوة "الكلمات المكنونة" كل يوم.

كان غيورا مقداما وشاعرا موهوبا ومبلغا ذائع الصيت، وفوق هذا كله، كان مخلصا لحضرة بهاءالله. تحمل الكثير من الاضطهاد وعاش معظم عمره الطويل مشغولا بالسفر والتبليغ حيث كان يمكث مع عائلته بضعة أشهر من السنة ويقضي بقيتها متنقلا على دابته بين القرى والمدن. فمحبته العميقة لحضرة بهاءالله وروحه الوثابة كانت ترفع من معنويات من كان يقابله من الأحباء ويدخل البهجة والسرور إلى قلوبهم، لذلك كانوا يهرعون للقائه، وكثيرا ما كان يرجوهم تلاوة بعض ألواح حضرة بهاءالله وأشعاره كلما سنحت الفرصة، فيسترسلون بذلك بصوت جماعي، كما كان يعلمهم بعض أشعاره الجميلة التي ألّفها في مدح وتمجيد حضرة بهاءالله أو حضرة عبدالبهاء أو حضرة شوقي أفندي(1) فيغرقون في نشوة روحية عارمة.

وفي ذلك الوقت كان استعمال الآلات الموسيقية يعتبر عملا غير مقبول بالنسبة إلى رجال الدين المسلمين، فكان البهائيون ___________________________________________________________________ =يواكبها جمهرة من النساء المنتمين إلى أصحاب تلك الرؤوس بصلة القرابة وقد أجبرن على المشي جزءا من الطريق من نيريز التي تبعد حوالي 200 ميلا. (1) أكبر أحفاد حضرة عبدالبهاء، والذي عيّنه خليفة له و"وليا لأمر الله".

حريصين على عدم إثارة حفيظة المتعصبين من مواطنيهم بالعزف عليها. أما قابيل فكان موهوبا بنوع خاص من التصفيق بيديه ليخلق توقيعا يصاحب به ترانيم العشق والتسبيح التي كان ينشدها الأحباء، وإذ كان يجد متسعا من الحرية، يبدأ في النقر على طبل من صنع يدوي ليصاحبه في تغنيه بمحبوبه، ومع أن الأحباء غالبا ما كان يحيط بهم الكبت والاضطهاد، إلا أنهم كانوا يرحبون بالأيام التي يقضونها مع قابيل لأنه كان يخلق لهم جوا من السرور والحماس أينما حلّ.

أشار حضرة بهاءالله إلى نزول "الكلمات المكنونة" بما يلي:

"إن عروس المعاني البديعة التي كانت وراء أستار البيان مخبأة مستورة ظهرت بالعناية الإلهية وتجلت بالألطاف الربانية كشعاع جمال المحبوب المنير. إني أشهد يا أيها الأحباء أن النعمة قد تمت والحجة قد كملت، والبرهان قد ظهر، والدليل قد قام. فلننظر الآن ماذا تبديه همتكم من مراتب الانقطاع، كذلك تمت النعمة عليكم وعلى من في السموات والأرضين، والحمد لله رب العالمين."(5)

في هذا الكتاب بصفحاته القليلة المعدودة، وصف حضرة بهاءالله للإنسانية علاجا تصون به وجودها وسعادتها. وخاطب الإنسان بصوت الحق أن يملك "قلبا جيدا حسنا منيرا" وأكد على أهمية تطهيره من كل دنس لأنه محط إشراق الظهور الإلهي، داعيا إياه أن يطرد "الغريب حتى يدخل الحبيب منزله"، وينصحه بعدم مرافقة الأشرار لأن "مجالسة الأشرار تبدل نور الروح بنار الحسبان"، ويؤكد على خلود الروح وأن الله وضع فيها "جوهر نوره" الذي "لا يطفى"، ويجزم بثقة بأن الله "جعل الموت بشارة" للإنسان، ويؤسس ميثاقا معه لمحبته، ويفرض عليه التمسك بالإنصاف والصبر والمحبة، ويذكّره بأن "طبيب" كل علله "ذكر الله"، ويصف طيب التوجه إلى الله بالدعاء في الأسحار، وينصح الإنسان بالانقطاع عن هذا العالم وأن لا يترك هذه "الدولة الباقية الأبدية" إلى "الدولة الفانية الزائلة"، ويوبخه على غفلته وانغماسه في أهوائه وشهواته النفسية، ويوجهه لاجتناب الغيرة والحسد والتكبر والغرور، ويعلن أن اللسان قد خلق لذكر الله فلا ينبغي أن يدنس بالغيبة والحطّ من شأن الآخرين، ويذكر أن "خير الناس الذين يحصلون على أرزاقهم بالعمل، وينفقون منه على أنفسهم وعلى ذوي قرباهم حبا لله رب العالمين"، ويشجب "النفوس المعطلة المهملة" الذين "يظهرون في الأرض بلا ثمر" ويصفهم بأنهم "شر الناس"، ويتحدث عن عظمة ظهوره ويبدي حزنه لأن نفوسا قليلة استمعت نداءه "وحتى من هذا القليل" لم يجد "ذا القلب الطاهر والنفس المقدسة إلا أقل القليل"، ويحذر الإنسان بأن "يكف" يده عن "الظلم" ويأخذ على نفسه عهدا ويقسم "ألا يتجاوز عن ظلم أحد" في هذا اليوم. ويرى "بلاء مباغتا وعقابا عظيما" يتعقب البشر بسبب ما ارتكبوه، ويهيب بالأغنياء "إنفاق مالهم على الفقراء"، وينص على أن "الغنى سدّ محكم بين الطالب والمطلوب والعاشق والمعشوق"، ويرفع من شأن الغني الذي "لا يمنعه غناه عن الملكوت الخالد" بحيث "إن نور ذلك الغني ليفيض على أهل السماء كما يفيض نور الشمس على أهل الأرض"، ويحث كل إنسان على القيام "بالأفعال الطاهرة المقدسة".(6) ويصف القوى المخزونة في الإنسان بكلماته التالية:

"يا ابن الروح خلقتك غنيا كيف تفتقر، وصنعتك عزيزا بم تستذل ومن جوهر العلم أظهرتك لم تستعلم عن دوني، ومن طين الحب عجنتك كيف تشتغل بغيري. فارجع البصر إليك لتجدني فيك قائما قادرا مقتدرا قيوما."(7)

تشير بعض فقرات "الكلمات المكنونة" ضمنا إلى ميثاق حضرة بهاءالله الذي أضحى صريحا بإعلان وصيته في "كتاب عهدي". وقد فسر حضرة عبدالبهاء، مركز ذلك الميثاق ومبين كلمات الله، معنى بعض هذه الفقرات، وإحداها "الكلمة المكنونة" التالية على سبيل المثال:

"يا أحبائي أنسيتم ذلك الصبح الصادق المنير الذي اجتمعتم فيه جميعا بين يدي في ذلك الفضاء المقدس المبارك في ظل شجرة أنيسا التي غرست في الفردوس الأعظم، وقلت لكم ثلاث كلمات طيبات، فاستمعتم جميعا لتلك الكلمات واندهشتم وكانت تلك الكلمات هي: "يا أيها الأحباء لا تختاروا رضاكم على رضاي ولا تريدوا ما لا أريده لكم أبدا، ولا تأتوني بقلوب ميتة تلوثت بالأماني والآمال. فلو قدستم صدوركم لتذكرتم الآن تلك الصحراء وذلك الفضاء ولاتّضح بياني لكم جميعا."(8)

وتفضل حضرة عبدالبهاء بأن "الصبح الصادق المنير" يشير إلى ظهور حضرة الباب "وشجرة أنيسا" أي شجرة الحياة تشير إلى حضرة بهاءالله، و"الصحراء" و"الفضاء" إشارة إلى قلب الإنسان. وبين أن الاجتماع الذي أشير إليه في هذه "الكلمة المكنونة" ليس ماديا بل روحيا. فالنداء الإلهي ارتفع في حرم قلوبهم، إلا أنهم صدوا عنه فذهلوا وامتلأت نفوسهم رهبة.

وفي ألواح أخرى يوضح حضرة عبدالبهاء معنى الاجتماع تحت ظل شجرة الحياة أي شجرة أنيسا بأنه تأسيس ميثاق حضرة بهاءالله حيث تفضل: "إن الرب المجيد أبرم تحت شجرة أنيسا -شجرة الحياة- عهدا جديدا وأخذ ميثاقا عظيما..."(9) وإن تأسيس هذا العهد في مرحلة مبكرة من ولايته هو أحد أسرار الظهور الإلهي. وفي الحقيقة فإن حضرة عبدالبهاء قد ذكر في أحد ألواحه أنه بإشراق نجم ظهور حضرة بهاءالله فإن أول شعاع ألقى ضوءه على أولئك الذين تجمعوا في ظل شجرة أنيسا كان عهده.

وهناك فقرة أخرى في "الكلمات المكنونة" تشير إلى هذا العهد:

"يا أحبائي اذكروا العهد الذي عاهدتموني عليه في جبل فاران الواقع في بقعة الزمان المباركة والذي أشهدت عليه الملأ الأعلى(1) وأصحاب مدينة البقاء. فإني الآن لا أرى من أحد أقام عليه وما أشك في أن الغرور والعصيان قد محواه من القلوب محوا لم يبق له على أثر، علمت بذلك وصبرت عليه ولم أظهر أمره."(10)

ويتفضل حضرة عبدالبهاء أن العهد على جبل فاران إشارة إلى عهد حضرة بهاءالله الذي نزل من قلمه الأعلى في الأراضي المقدسة وأعلن بعد صعوده من تلك البقعة المباركة.

وأخيرا فقد فسر حضرة عبدالبهاء "الأجنحة" و"المشط" المذكورين في "الكلمة المكنونة" التالية بأنهما عهد حضرة بهاءالله:

____________________________________________________________________ (1) اجتماع الأرواح المقدسة في العالم الآخر. "يا ابن الهوى إلى متى تطير في الهواء النفساني. وهبت لك جناحا لتطير به في هواء قدس المعاني لا في فضاء الوهم الشيطاني، أنعمت عليك بالمشط لترجل به غدائري المسكية لا لتخدش به جيدي."(11)

وذكر حضرة بهاءالله في "الكلمات المكنونة" بعض الألواح مثل "اللوح الخامس من ألواح الفردوس" و"اللوح الياقوتي" مع بعض الأسطر منهما،(12) وبيّن حضرة عبدالبهاء بوضوح بأن أيّا من هذه الألواح لم تنزل في هذا العالم بل حفظت في عوالم الملكوت الإلهية.

وهناك "كلمة مكنونة" أخرى على غاية من الأهمية لما تبينه من طبيعة ظهور حضرة بهاءالله وقوته ورفعة مقامه وهي:

"يا ابن الإنصاف في الليل عاد جمال هيكل البقاء من عقبة الوفاء الزمردية إلى سدرة المنتهى، وبكى بكاء بكى لأنينه الكروبيون وجميع الملأ العالين، ثم سئل عن سبب نواحه وندبه، فذكر أن قد انتظرت على عقبة الوفاء كما أمرت ولم أتنسم من أهل الأرض رائحة وفاء فعدت أدراجي، ولاحظت أن الحمامات القدسية وقعت بين براثن كلاب الأرض. عندئذ أسرعت الحورية الإلهية من القصر الروحاني بلا ستر وحجاب وسألت عن أسمائها فذكرت جميع الأسماء إلا اسما واحدا، فلما اشتد الإصرار جرى على اللسان الحرف الأول من ذلك الاسم فأهرع أهل الغرفات من مكامن عزهم فما قيل الحرف الثاني حتى خروا على التراب جميعا. عند ذاك صدر النداء من مكمن القرب، لا يجوز أن يذكر أكثر من هذا (إنا كنا شهداء على ما فعلوا وحينئذ كانوا يفعلون)."(13)

أما سدرة المنتهى، المذكورة في الفقرة السابقة، فإن أصل هذه التسمية جاء من عادة العرب أن يزرعوا أشجارا على جانب بعض الطرق، وآخر شجرة تشير إلى نهاية الطريق حيث لا يستطيع الإنسان أن يواصل سيره بعدها، ومن هنا جاءت تسمية هذه الشجرة بـ"سدرة المنتهى". وهو معناها الحرفي للفقرة الواردة في "الكلمة المكنونة" وأحد معانيها في كثير من آثار حضرة بهاءالله هو رمز لمقام المظهر الإلهي الذي يفوق إدراك البشر، أما الحورية فهي في آثاره صيغة رمزية لمعان مختلفة (1).

والحرفان المذكوران في "الكلمة المكنونة"، كما فسرها حضرة عبدالبهاء هما "باء" و"هاء" من كلمة "بهاء"،(14) وهذا يعني أن الأهمية والقدرة الكاملة لظهور حضرة بهاءالله التي كنزت رمزيا ضمن هذه الأحرف الثلاثة(2) من اسمه لم تكشف للإنسانية، وأن مقدارا محدودا من ضيائه وبهائه قد أشرق على البشرية في هذا العصر.

وأشار حضرة بهاءالله إلى ذلك في أحد ألواحه حيث يتفضل:

"ثم اعلم يا كمال بأنا ما كشفنا الغطاء حق الكشف. أظهرنا أنفسنا على مقدار طاقة الناس، وإلا لو يظهر جمال القدم بجماله لن يقدر أن يشهده أحد عما خلق بين السموات والأرض."(15) ___________________________________________________________________

(1) انظر صفحة 257. (2) كلمة بهاء مؤلفة من ثلاثة أحرف، ويجب ألا يخلط بين هذا النص والحديث الإسلامي المعروف "العلم 27 حرفا فجميع ما جاءت به الرسل حرفان، ولم يعرف الناس حتى اليوم غير الحرفين. فإذا قام قائمنا أخرج الخمسة والعشرين حرفا". انظر صفحة 230.


%
تقدم القراءة
- / -