ثالثاً: وحدة الأديان
من عناصر الفكر البهائي القبول بمبدأ وحدة الأديان على أساس أن مصدر الأديان جميعها جهة واحدة وهناك دين واحد، وهو دين الله، ولكن هذا الدين ظهر إلى البشرية منذ أن أرسل الله سبحانه وتعالى الأنبياء والرسل ومظاهر الظهور وسمّوا بأسماء مختلفة، ولكنهم جميعاً حملوا رسالة واحدة إلى البشرية. نعتقد بأن الرسالة التي حملها هؤلاء الأنبياء والرسل هي واحدة ومتفقة في مضمونها وأصلها وتعاليمها الأساسية ولا يمكن للغيب المنيع وخالق الكون أن تتضارب تعاليمه وأحكامه أو أن تسيء للبشرية في أي مرحلة من مراحل تطورها ونموّها لأنه تعالى خلق البشر في الأصل من طينة واحدة نتيجة لمحبته اللامتناهية وجعل الإنسان أشرف المخلوقات وأكثرها تمييزاً وأن الظهورات الإلهية بأسماء الأنبياء والرسل ومظاهر الظهور ما هي إلاّ مشاهد للملحمة العظيمة للتاريخ الديني للجنس البشري تنفيذاً للعهد والميثاق وهو الوعد الإلهي القديم الذي قطعه خالق الوجود كله وأكدّ فيه بأن الهداية الإلهية ضرورية لنمو البشرية الروحي والأخلاقي وأنها لا تتوقف، ودعا الناس إلى الإيمان بمظهر أمرالله حين ظهوره، وأن يأخذ كل نصيبه من المبادئ والقيم العليا التي أتى بها هؤلاء المبعوثون من جانب الحق الذين يكمّلون بعضهم بعضا، حيث ذكر حضرة بهاءالله :
{إياكم يا ملأ التوحيد لا تفرقوا في مظاهر أمرالله ولا في ما نزل عليهم من الآيات وهذا حق التوحيد إن أنتم لمن الموقنين. وكذلك في أفعالهم وأعمالهم وكلما ظهر من عندهم ويظهر من لدنهم كل من عند الله وكل بأمره عاملين.}[۱]
الآية السابقة تؤكد مفهوم وحدة الأديان الذي له علاقة بمبدأي التوحيد ووحدة الجنس البشري اللذين تحدثنا عنهما في الفصلين السابقين. وقد ذكرنا بأن البشرية تمرّ في عملية نمو جماعية شبيهة بعملية النمو لدى الأفراد، وفي كلتا الحالتين يصلان إلى مرحلة البلوغ وهي آخر وأسمى مرحلة من مراحل نمو الإنسان أو الجنس البشري. إن الدين له دور أساسي وفعّال في دفع مسيرة نمّو الجنس البشري وتطوره وتقدمه. وقد سجّل لنا التاريخ الدور الهام الذي لعبته الأديان في بناء الإنسان والحضارات والثقافات ولا يمكن استبعاده في أية عملية حقيقية لنمو وتقدم المجتمع الإنساني. ولنذكر ظهور حضارات عظيمة في كل من الصين واليابان والشرق الأوسط وأوروبا، فإن هذه الحضارات برزت بعد ظهور الأنبياء والرسل ومظاهر الظهور في تلك المناطق من العالم. إن الروح التي أطلقها هؤلاء الانبياء والرسل ونفوذ كلمتهم وتعاليمهم ونظامهم الاجتماعي الذي بني على الأحكام والمبادئ أدت بالجنس البشري إلى الرقي والتقدم، ولهذا نعتقد بأن الأنبياء والرسل هم المربّون والمعلّمون الحقيقيون للبشرية. ولا يمكن لأحد أن ينكر مثلاً أن النهضة الأوربية كان أساسها العلماء المسلمين الذين ظهروا في العصرين الأموي والعباسي ووضعوا أسساً لعلوم كثيرة منها الطب والكيمياء والرياضيات. وبهذا الخصوص تفضل حضرة بهاءالله :
{ إن مما لا شك فيه أن جميع الأديان متوجّهة إلى الأفق الأعلى وتأتمر بأوامر الحق. أما ما اختلف من أوامرها وأحكامها فقد كان بحسب مقتضيات العصور والأزمان، فالكل من عند الله ونزل بمشيئة الله ما عدا بعضها التي كانت نتيجة ضلال البشر وعنادهم. أن انهضوا يعضدكم الإيمان وحطموا أصنام الأوهام وتمسّكوا بالاتحاد والاتفاق }[۲].
يلاحظ من المقتطف السابق أن حضرة بهاءالله يشير إلى ظهور أديان غير سماوية نتيجة ”ضلال البشر وعنادهم“ ولهذا شهد التاريخ بعض المدّعين للنبوّة ولكن هؤلاء النفوس وأتباعهم وديانتهم قد اندثرت عبر الزمن ولم يبق منهم أثر. وما تبقى اليوم من أديان هي التي وجدت منذ آلاف السنين وأكد حضرة بهاءالله وحضرة عبدالبهاء على سماوية وأحقية شرائعهم. أما بالنسبة للأنظمة الدينية التي أتى بها هؤلاء الانبياء والرسل فيصفها بهاءالله بأنها:
{ هذه الأصول والقوانين والسبل المحكمة المتينة قد ظهرت من مطلع واحد وأشرقت عن مشرق واحد، وهذه الاختلافات جاءت نظراً لمقتضيات الوقت والزمان والقرون والأعصار }[٣].
وبناء عليه فإن الإقرار بالمقام العالي للأنبياء والرسل مثل بوذا وكونفوشيوس وزرادشت وموسى وعيسى ومحمد يبقى ناقصاً اذا اعتبرت رسالة كل واحد منهم رسالة قائمة بذاتها جاءت بدين جديد منفصل ومتميّز عن الآخر. بل علينا أن نفي هؤلاء حقهم من الإعزاز والتقدير ونقرّ بأنهم المربّون الحقيقيون في التاريخ الإنساني وأن كل واحد منهم قد أضاف وكمّل الآخر حسب تسلسلهم التاريخي وأنهم كانوا السبب في تطوّر ونمّو الإنسان وبناء الحضارات والدول التي ازدهرت فيها الإنسانية في شتى مناحيها وأن التعاليم التي أتو بها كانت مناسبة لزمن ومكان ظهورهم. يشرح حضرة عبدالبهاء هذه الحقيقة بقوله:
{ وقد أعلن حضرة بهاءالله وحدة العالم الإنساني وكذلك وحدة الأديان، لأن جميع الأديان الإلهية أساسها الحقيقة، والحقيقة لا تقبل التعدّد، والحقيقة واحدة وأساس جميع أنبياء الله واحد وهو الحقيقة، ولو لم يكن الحقيقة لكان باطلاً. وحيث أن الأساس هو الحقيقة، لهذا فإن بناء الأديان الإلهية واحد، وغاية ما في الأمر أن التقاليد حلّت في وسطها وظهرت آداب وتقاليد زائدة، وهذه التقاليد ليست من الأنبياء إنما هي حادثة وبدعة … أما إذا نبذنا هذه التقاليد وتحرّينا حقيقة أساس الأديان الإلهية فلا شك أننا نتّحد }[٤].
وعلى ذلك فإن مبدأ وحدة الأديان يعني بأن الأنبياء والرسل ومظاهر الظهور الذين أسسوا الأديان المتعددة في العالم، طالما أتوا من مصدر واحد وهو الله سبحانه وتعالى فإن جوهر تعاليمهم ومبادئهم واحدة. وقد وصف حضرة بهاءالله هذه الديمومة حين أعلن قائلاً: ”هذا دين الله من قبل ومن بعد.“[٥] فوظيفة الدين هي تمهيد السبيل أمام الروح الانسانية لترتقي وترتبط بخالقها في علاقة تتزايد حباً وعشقاً وأن يسبغ على تلك الروح القوة والقدرة للسيطرة على الدوافع الحيوانية الكامنة في الطبيعة الإنسانية. وفي هذا الخصوص ليس هناك تناقض بين التعاليم الأساسية التي تنادي بها الأديان قاطبة، بل جميعها أتت من أجل تهذيب النفس وتنمية مكارم الأخلاق بهدف دعم تقدم مسيرة البشر في بناء الحضارة الإنسانية. يقول حضرة بهاءالله:
{ إن من المعلوم والمحقق … أن جميع الأنبياء هم هياكل أمرالله الذين ظهروا في أقمصة مختلفة وإذا ما نظرت إليهم بنظر لطيف لتراهم جميعاً ساكنين في رضوان واحد وطائرين في هواء واحد وجالسين على بساط واحد وناطقين بكلام واحد وآمرين بأمر واحد }[٦].
كما أشار القرآن الكريم أيضاً إلى هذا المفهوم بقوله تعالى: { قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون }[٧].
أما الاختلافات الظاهرية في بعض التعاليم والأحكام والشعائر والعبادات وتفاوتها فقد برزت نظراً لمقتضيات المكان والزمان والبيئة الاجتماعية التي ظهرت منها ولم يكن من الممكن أن يكون الأمر على عكس ذلك نظراً لأنه خلال آلاف السنين شهد العالم دورات متتابعة من نزول الوحي والإلهام الإلهي والأنبياء والرسل الذين جاءوا لتلبية الحاجات المتغيرة لحضارة انسانية دائمة التطور والنمو. وفي الحقيقة يبدو أن إحدى الخصائص الرئيسية للكتب السماوية المقدسة الإشارة بشكل ما بأن الدين في طبيعته خاضع للنمو والتطور، ولا يمكن التعلّل بالدين بأنه سبب إيجاد التعصبات والنزاعات وبث مشاعر الفرقة والنفور بين الناس. إن الدين – وكما يؤكد بهاءالله – جاء للوحدة والاتحاد والمحبة والألفة وليس للنزاع والفرقة. ونعيد ونؤكد بأن جوهر تعاليم جميع الأديان واحد فيما يتعلق بالأخلاقيات والسلوك الحسن والقيم والمثل العليا. ومثال على ذلك، إن مبادئ مثل الأمانة والصدق والوفاء وحسن الأخلاق هي من المبادئ التي روّجتها جميع الكتب المقدسة السماوية، ولكن يلاحظ مدى اختصار هذه المبادئ في البوذية أو الهندوسية أو اليهودية أو المسيحية ولكنها اتّسعت وأعطيت لها أبعاد مختلفة ومفاهيم جديدة في الظهور المحمدي والبهائي. أي أن كل نظام ديني يعتبر مرحلة متطورة ومجددّه لما سبقه من أنظمة دينية، والدين البهائي يمثل اليوم المرحلة المعاصرة من مراحل تطور دين الله. وبالتالي فإن من عناصر الفكر البهائي أيضا استمرارية الوحي الإلهي أو ”تعاقب الظهورات“ وإن هذه الأديان هي القوة الدافعة والمحرّكة لتقدم البشرية وإن بهاءالله هو المظهر الإلهي الأحدث في سلسلة تعاقب ظهور الأنبياء والرسل وسنتحدث عن هذا الموضوع بالتفصيل في الفصل القادم. يتفضل حضرة عبدالبهاء:
{ كل دين من الأديان الإلهية المقدسة التي نزلت حتى اليوم منقسم إلى قسمين: أحدهما الروحانيات وهي معرفة الله وموهبة الله وفضائل العالم الإنساني والكمالات السماوية، وهذا القسم يتعلق بعالم الأخلاق وهو الحقيقة والأصل … والقسم الثاني من الدين متعلق بالجسمانيات وهو فرعي وليس أساسياً ويحدث فيه التغيير والتبديل بحسب مقتضيات الزمان. فالطلاق مثلاً جائز في شريعة التوراة وليس جائزاً في شريعة السيد المسيح، وفي شريعة موسى كان السبت وفي شريعة المسيح نسخ ذلك الأمر }[٨].
من عناصر الفكر البهائي أيضاً بأن هذه الآثار الكتابية المقدسة لمظاهر الظهور تأتي عن طريق الوحي الإلهي. هذا المفهوم يتفق مع ما يعتقده المسلمون تحديداً حول نزول القرآن الكريم على سيدنا محمد (ص) بواسطة الوحيّ الذي سمّي بجبريل. وفي الحقيقة فإن جميع آثار الأنبياء والرسل وأقوالهم هي في الواقع وحيٌ من عند الله عزّ وجلّ ولا يمكن قياسها بالآثار الكتابية لعامة الناس.
هناك فئة من الناس لا تؤمن بوجود أنبياء ورسل بل وتنكر وجود الله ذاته وتعتقد أن الأديان الموجودة حالياً في العالم ما هي إلا نتاج أفكار واجتهادات علماء ومفكرين كبار ولا يوجد ما يسمّى برسالة سماوية، هذه الفئة تسمّى بالملحدين. هذه الفئة من الناس تستبعد فكرة وحدة أساس الأديان لأنها تعتقد أن الأنظمة الدينية المختلفة تعبّر عن وجهات نظر متفاوتة واعتقادات جاءت أصلاً من الإنسان وهو المعرّض للخطأ وغير المقدس ولكن ذلك يتعارض مع سماوية الأنبياء والرسل واختصاصهم بالوحي الإلهي وقدسيتهم الذي يمثل الحقيقة والعصمة وعدم الخطأ وبالتالي فإن الإيمان بفكرة وحدة الأديان يجب أن يقترن بسماوية وقدسية جميع الأنبياء والرسل وأنهم قد أتوا من مصدر واحد.
ولكن هذا الموضوع الأخير قد يواجه بأفكار أتباع أديان مختلفة تؤمن بأنها سماوية فقط وتطعن بسماوية الأديان الأخرى وهو موضوع أثار جدلاً واسعاً في الأوساط الدينية. ولست بصدد الحكم على الآخرين، ولكن ما تؤكده الكتابات البهائية أن جميع الأديان الكبرى الموجودة في العالم قد أتت من جانب الحق تبارك وتعالى وأن أصولها إلهية، ولهذا كان لها أتباع واعتقادات لا تتناقض مع غيرها بشكل جوهري. وأتباع كل دين يعتقدون أن دينهم سماوي ويؤمنون بحقانية ما قبله بينما يرفضون ما بعده. ونود أن نشير في هذا الصدد بأن القران الكريم ذكر عن مجيء أنبياء ورسل كثيرين ولكن لم يذكر إلاّ أسماء بعضهم، واليوم نشاهد أن من تبقى من أتباع الديانات المذكورة في القرآن هم اليهود والمسيحيون فقط أما البوذيون والهندوس الذين يشكلون حوالي ربع سكان العالم فلا يعتقد المسلمون بسماوية أديانهم لأنها لم تذكر في القرآن، وبناء عليه يعتقد المسلمون بسماوية ثلاثة أديان فقط هي اليهودية والمسيحية والإسلام وترفض فئة منهم التعامل بشكل إيجابي مع باقي الأديان الأخرى بينما يذهب الفريق المتطرف منهم إلى تكفيرهم. يعتقد البهائيون أن عدم ذكر أسماء أنبياء ورسل آخرين في القرآن لا يعني عدم مجيئهم من عند الله أو عدم سماوية أديانهم، حيث ذكر الله تعالى في محكم كتابه: {منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك.}[٩] أي أن هناك أنبياء جاءوا ولكنهم لم يذكروا في القرآن الكريم. كما أن هناك حديثاً شريفاً يشير فيه الرسول محمد (ص) إلى مجئ ١٢٤٠٠٠ نبي، فهل من المعقول أن لا يكون بوذا أو كريشنا أو كونفوشيوس مثلاً واحداً منهم ؟ وهم الذين لهم أتباع اليوم بمئات الملايين.
إن أية محاولة لتفوّق دين على آخر والطعن بعقائد الآخرين والتكفير يعتبر أمراً مرفوضاً ويتعارض مع مبادئ جميع الأديان وحرية العقيدة بل يجب احترام الأديان والعقائد وعدم إلغائها والتعامل معها بشكل إيجابي من منطلق الأخوة الإنسانية ومن زاوية احترام العهود والمواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان. وفي النهاية فإن الله سبحانه وتعالى هو الذي سيحاسب الانسان على عقيدته وعمله. كما أن جميع الأنبياء والرسل ومظاهر الظهور هم في مصاف واحد وفي مرتبة واحدة، وقد لخّص حضرة شوقي أفندي هذا المفهوم بهذه الكلمات:
{ إن المبدأ الهام والأساسي الذي شرحه لنا حضرة بهاءالله ويؤمن به أتباعه بشكل جازم هو أن الحقيقة الدينية ليست مطلقة وإنما نسبية وأن الرسالة السماوية هي عملية مستمرة وفي تقدم وأن جميع الأديان العظيمة في العالم سماوية في الأصل وأن مبادئها الأساسية متماثلة ومتطابقة تماماً، وأن أهدافها ومقاصدها متشابهة كما أن تعاليمها تعكس لنا حقيقة واحدة وأن وظائف هذه الأديان مكمّلة لبعضها البعض وأن اختلافها الوحيد يكمن في الأحكام والحدود الفرعية وأن مهامها هي التكامل الروحي للمجتمع الإنساني خلال مراحل متعاقبة ومستمرة }[١٠].
ومع دخولنا القرن الواحد والعشرين نلاحظ أن البشرية قد شهدت خلال القرن المنصرم شتى أنواع المتغيرات السلبية والإيجابية ونهضة عمرانية وتكنولوجية كبيرة. ونتيجة لذلك هناك اليوم أعداد متزايدة من الناس وصلت إلى قناعة بأن الحقيقة الكامنة في الأديان السماوية كلها حقيقة واحدة في جوهرها، وما كان لمثل هذه القناعة أن تصدر نتيجة مناقشات عبثية بل عن وعي راسخ نتيجة تراكم خبرات واسعة وتجارب متعددة كانت بعضها مريرة وعنيفة وبعضها إيجابية وجيدة. وقد خرج بعض أتباع الأديان والمذاهب باستنتاج أنه لا يمكن إلغاء الآخر بل يجب احترامه والتعايش معه في ظل قوانين تحترم الجميع وتؤمن بالمواطنة الحقيقية وبوحدة العائلة الإنسانية. وحول أهمية الحياة الروحية للفرد ودورها في بناء السلام شرح بيت العدل الاعظم الوضع الحالي في العالم بما يلي :
{ فمن مزيج معتقدات وطقوس دينية وأحكام شرعية تم توارثها من عوالم عفا عليها الزمن بدأ يبرز هناك شعور بأن الحياة الروحية مثلها مثل الوحدة التي تجمع مختلف القوميات والأعراق والثقافات تشكّل في حدّ ذاتها حقيقة واحدة مطلقة ميسور لكل إنسان سبيل الوصول إليها. ولكي يتأصل هذا الشعور الذي بدأ يعم الناس ولكنه لا يزال في بداية أمره وليتمكن من الإسهام إسهاماً فاعلاً في بناء عالم يسوده السلام ينبغي عليه أن يحظى بالتأييد القلبي الكامل من قبل أولئك الذين تتوجه إليهم جماهير الناس في كل انحاء العالم طلبا للهداية والرشاد حتى في هذه اللحظة المتأخرة }[١١].
ونظراً للعناصر الإيجابية المتعدّدة التي ثبت وجودها في جميع الأديان الكبرى في العصر الحاضر وعلى الأخص في الأخلاقيات والقيم العليا والأخوة الانسانية والعدالة والرغبة الملحّة للتعايش السلمي ووضع نهاية للحروب والنزاعات والصراعات الدينية والإثنية، فقد نما خلال العقدين الأخيرين الإحساس بضرورة الحوار بين هذه الأديان والعقائد والمذاهب بهدف التقريب فيما بين أتباعها إلى المستوى الذي معه يمكن أن يقوموا على خدمة الانسانية معاً بدلاً من الخصام والتناحر. وحول هذا الموضوع ذكر بيت العدل الاعظم :
{ يرى البهائيون أن كفاح الأديان المختلفة في سبيل تحقيق التقارب بينهما إنما هو بمثابة الاستجابة للمشيئة الإلهية التي أرادت ذلك للجنس البشري الداخل في طور نضجه الجماعي. ولا يألو أعضاء جامعتنا البهائية جهدا في مواصلة دعمهم لهذا المجهود بكل وسيلة ممكنة. ومهما يكن من أمر فإننا مدينون لشركائنا في هذا المجهود المشترك إذ نعلن عن ايماننا الصادق بأنه إذا ما كان لما يجري من حوار بين الأديان أن يسهم إسهاماً ذا دلالة ومعنى في شفاء العلل والأمراض التي تشكو منها إنسانية ألّم بها اليأس وفقدان الأمل، لا بد لهذا الحوار أن يشرع في الحديث بصدق وأمانة وبدون أي مواربة إزاء ما تمليه علينا تلك الحقيقة العليا التي بعثت “حركة حوار الأديان“ إلى الوجود، ألا وهي الحقيقة القائلة بأن الله هو الواحد الأحد، وبأن الأديان كلها في جوهرها دين واحد رغم تعدّد معالم الثقافة فيها واختلاف تفسيرات البشر لتعاليمها }[١٢].