الدين البهائي
"لتكن رؤيتكم عالمية ..." -- حضرة بهاء الله
"لو رزقت قليلًا من زلال المعرفة الإلهيّة لعرفت بأنَّ الحياة الحقيقيّة هي حياة القلب لا حياةُ الجسد ..." -- حضرة بهاء الله
"إن دين الله ومذهب الله يهدف إلى حفظ واتحاد واتفاق العالم والمحبة والألفة بين اهل العالم." -- حضرة بهاء الله

ثانياً: وحدة الجنس البشري

من المبادئ الهامة التي دعا اليها حضرة بهاءالله وحدة الجنس البشري، وهو محور تدور حوله التعاليم البهائية الأخرى. ركّز حضرته على هذا المبدأ واعتبره العنصر الأساسي في تشييد صرح السلام العالمي والعدالة، والوسيلة الفاعلة في بناء المدنية الإلهية التي تحدّث عنها الأنبياء والرسل ومظاهر الظهور، وتغنى بها ذوو البصيرة والشعراء في رؤاهم جيلاً بعد جيل. ومن خلال تطبيق هذا المبدأ يمكن حلّ العديد من المشاكل والقضايا التي تعاني منها البشرية مما يسرّعنا في تحقق الوعود والنبوات الإلهية المذكورة في متون الكتب المقدسة.


إن مفهوم وحدة الجنس البشري يعني بأن كافة أفراد البشر هم من أصل شريف واحد، وهي حقيقة أكدتها العلوم الحديثة مثل علم الطب وعلم وظائف الأعضاء وعلم الاجتماع رغم الاختلاف في لون وشكل الإنسان، ولا يمكن تمييز إنسان على آخر بسبب لونه أو جنسه أو عرقه أو أصله، والجميع متساوون في الكرامة الإنسانية. وقد ثبت حقاً أن الإنسان هو أشرف المخلوقات وأكثرها سموّا بما حباه الله من نعمة العقل والروح وميّزه على كافة المخلوقات، وهو الوحيد القادر على معرفة الله سبحانه وتعالى وعبادته ومحبته، وقد أكدّ لنا القرآن الكريم هذه الحقيقة في قوله تعالى: {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم}[۱] وأيضاً {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبثّ منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به…}[٢] أما التفرقة التي نراها اليوم بين البشر في بقاع العالم المختلفة فهي نتيجة تراكم أوهام وتعصبات زائفة ليس لها حقيقة، وإن النظريات الموروثة التي تمّيز مجموعة عرقية أو إثنية من البشر فتعطيهم منزلة أسمى من غيرهم نظريات باطلة لا أساس لها من الصحة، وإنما هي حصيلة غرور الانسان من أجل تفضيل نفسه على الآخرين تأكيداً لأنانيته باسم الدين أو الأصل أو العرق. إن الاختلافات الجسمانية مثل لون الإنسان أو أصله هي أمور ثانوية ليس لها أية علاقة بامتياز أو أفضلية أية مجموعة عرقية أو دينية على الأخرى، بل هو دليل على عظمة الخالق سبحانه وتعالى. والتعاليم البهائية ترفض جميع النظريات التي تقول بوجود أفضلية عرقية لأنه لم يثبت ذلك علمياً وإنه تصوّر خاطئ واذا تخلّفت أية مجموعة عرقية أو إثنية عن التقدم عبر التاريخ فمرّده إلى الظروف السياسية والاجتماعية التي حرمتها من الإنجازات الثقافية والعلمية، وكان ذلك نتيجة الظلم الذي حاق بها عبر السنين. لقد أكدّ حضرة بهاءالله هذه النظرية بقوله : {يا أبناء الإنسان هل عرفتم لم خلقناكم من تراب واحد، لئلا يفتخر أحد على أحد، وتفكروا في كل حين في خلق أنفسكم اذاً ينبغي كما خلقناكم من شئ واحد أن تكونوا كنفس واحدة بحيث تمشون على رجل واحدة وتأكلون من فم واحد وتسكنون في أرض واحدة حتى تظهر من كينوناتكم وأعمالكم وأفعالكم آيات التوحيد وجواهر التجريد هذا نصحي عليكم يا ملأ الأنوار، فانتصحوا منه لتجدوا ثمرات القدس من شجر عزّ منيع.}[٣]


ولكي ندرك حقيقة وحدة الجنس البشري ونصل إليها في المرحلة الأولى كما جاء في الكتابات البهائية علينا أن نتخلى عن كافة أنواع التعصبات العرقية والطبقية والدينية والوطنية، أو أي فكر يؤدي إلى تفضيل إنسان على آخر بسبب لونه أو جنسه أو أصله أو مركزه المادي أو الطبقي. هذه الخطوة هي أولى الخطوات للتخلص من جميع أنواع الكراهية والبغضاء المنتشرة في عالمنا اليوم. وبالتدريج ومع مرور الزمن وعندما يشعر الإنسان إنه يعيش في أسرة واحدة أساسها التآخي والمودة ولا مكان لأي من التعصبات، سنرى أن أخطار نشوب الحروب أو الصراعات تبدأ بالتلاشي تدريجياً لأن الدافع لها يكون قد انتهى. وبالتالي فإن القبول بهذا المبدأ يستدعي نشره وترويجه إبتداء من المدارس والجامعات في كل بلد إلى المنظمات الدولية ومنظمات المجتمع المدني في كافة الأقطار تمهيداً لإحداث تحوّل جوهري في أساس المجتمع. وأيضا معاقبة كل من يروّج للطائفية أو القبلية أو نشر أفكار تدعو إلى تفوق عرق أو جماعة أو لون أو أصل أو مذهب أو جنس وتعتبر هذه المرحلة هي المرحلة التالية والمتقدمة من هذا التحوّل الجذري في المجتمع،وقد أشار حضرة عبدالبهاء إلى هذا المبدأ الهام بهذا البيان:


{والأساس الإلهيّ الثّاني هو الوحدة الإنسانيّة، بمعنى أنّ جميع البشر هم عباد الله الأكبر، وأنّ الله خالق الكلّ ورازق الكلّ ومحيي الكلّ، كما أنّه رؤوف بالكلّ. وجميع النّاس يكوّنون الجنس البشريّ. فالتّاج الإنسانيّ زينة لكلّ رأس وخلعة الموهبة الإلهيّة جمال لكلّ هندام والكلّ عباد الله. وهو بهم جميعًا رؤوف رحيم، وعنايته تشمل الكلّ. لا يفرّق بين مؤمن وكافر، بل يرحم الكلّ ويرزقهم. هذه هي الصّفة الرّحمانيّة الإلهيّة. لهذا لا يمكننا أن نفضّل إنسانًا على آخر لأنّ الخاتمة مجهولة…. دقّقوا النّظر في عالم الوجود تجدوا أنّ الألفة هي سبب الوجود وأنّ المحبّة هي سبب الحياة، وأنّ الانفصال سبب الممات. دقّقوا النّظر في جميع الكائنات، فهذا الخشب مثلاً أو هذا الحجر تركّبا من العناصر، أيّ أنّ الذّرّات تآلفت وامتزجت حتّى برز هذا الخشب وهذا الحجر إلى حيّز الوجود، ولو لم تتحقّق هذه الألفة لكانا في العدم. فالعناصر أو الأجزاء الفرديّة تتم بينها الألفة وتتركّب وبذلك توجد الكائنات، فإذا اضطرب أمر هذه الألفة تحلّل التّركيب وتلاشى. وكذلك تآلفت الذّرّات وامتزجت، وارتبطت واجتمعت لتحقّق ظهور الإنسان، وعندما يتطرّق إلى هذه العناصر التّحليل والتّفريق يتلاشى جسد الإنسان.من هذا يتّضح أنّ الألفة والمحبّة سبب الحياة، وأنّ النّفور والاختلاف والفرقة سبب الممات. هذه هي الحال في جميع الكائنات. فالجنس البشريّ إذن عباد الله، ويجب أن تتحقّق بينهم الألفة والمحبّة، وأن ينفروا من البغض والعداوة. ولو لاحظتم الحيوانات الأليفة لوجدتم أنّها في غاية الألفة. أمّا الحيوانات الكاسرة كالذّئب والضبع والنّمر فتعيش منفردة منعزلة وفي غاية التّوحّش، وهكذا لا يعيش ذئبان ذكران في غار واحد، في حين يجتمع ألف رأس من الغنم في مكان واحد، ولا ينزل صقران في عشّ واحد، في حين تأوي ألف حمامة إلى وكر واحد.}[٤]


إن وحدة الجنس البشري هي ليست فكرة مثالية غير واقعية أو تعبيراً مبهماً أو غير عقلاني، بل إنها من سمات عصر النضج والبلوغ الذي بدأت تقترب منه الإنسانية اليوم وهي المرحلة القادمة والمنيرة من التاريخ البشري. وقد أدركت هيئة الأمم المتحدة هذه الحقيقة عندما أصدرت في عام ١٩٤٨ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان حيث أشارت في المادة الأولى منه: ”يولد جميع الناس أحراراً متساوين في الكرامة والحقوق وقد وهبوا عقلاً وضميراً وعليهم أن يعامل بعضهم بعضاً بروح الاخاء.“ وفي المادة الثانية: ”لكل إنسان حق التمتع بكافة الحقوق والحريات الواردة في هذا الإعلان دون أي تمييز، كالتمييز بسبب العنصر أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الرأي السياسي أو أي رأي آخر، أو الأصل الوطني أو الاجتماعي أو الثروة أو الميلاد أو أي وضع آخر دون أية تفرقة بين الرجال والنساء.“ وعلى الرغم من تبنّي غالبية دول العالم هذا الإعلان والإشارة إلى مضامينه ومفاهيمه في دساتيرها ولكننا مازلنا نشهد حروباً طاحنة ومنازعات عرقية واثنية ومذهبية باتت تنذر بالخطر وتهدد نسيج المجتمع.


إن مبدأ وحدة الجنس البشري عندما يُقبل ويتسع ويعممّ ويروّج له في جميع دول العالم سيكون له نتائج عظيمة على مستوى الأمم والشعوب، وبالتالي سيعقبه اتحاد وتقارب كبير بين دول العالم وشعوبها باعتبارهم أعضاء في عائلة إنسانية واحدة. والاعتراف بمبدأ وحدة العالم الانساني يستلزم، من وجهة النظر البهائية، ”أقل ما يمكن إعادة بناء العالم المتمدّن بأسره ونزع سلاحه، ليصبح عالماً متحداً اتحاداً عضوياً في كل نواحي حياته الأساسية، فيتوحّد جهازه السياسي، وتتوحد مطامحه الروحية، وتتوّحد فيه عوالم التجارة والمال، ويتوحّد في اللغة والخط، على أن يبقى في ذات الوقت عالماً لا حدود فيه لتنوع الخصائص الوطنية والقومية التي يمثلها أعضاء هذا الاتحاد.“[٥] إنها دعوة لبناء عالم جديد يمثل قمة التطور الإنساني الذي يبدأ بداياته الأولى بوحدة العائلة ثم وحدة القبيلة أو العشيرة ثم الأمة. لقد أكدّ حضرة بهاءالله بأن مبدأ وحدة الجنس البشري يقوم على أن الوصول إلى هذه المرحلة النهائية من هذا التطور العظيم ليس ضرورياً فحسب بل حتمي الوقوع، وإن ميقات تحقيقه أخذ يقترب بسرعة ولا يمكن تحققه بغير قوة إلهية المصدر. كما أشار بأن البشرية تمرّ في عملية نمو جماعية شبيهة بعملية النمو لدى الأفراد، حيث بدأت بمرحلتها الأولى قبل آلاف السنين والآن دخلت مرحلة النضج والبلوغ وهي المرحلة الأخيرة من تطوّرها وفيها ستشهد اتحاد الجنس البشري.


{لقد أَسْهَب حضرة شوقي أفندي، وليُّ أمر الدّين البهائي، في شرح الآثار المترتِّبة على تنفيذ هذا المبدأ الأساسيّ، عندما عَلَّق على هذا الموضوع عام ١٩٣١ بقوله: ”بعيداً عن أيّة محاولة لتقويض الأُسُس الرّاهنة التي يقوم عليها المجتمع الإنسانيّ، يسعى مبدأ الوحدة هذا إلى توسيع قواعد ذلك المجتمع، وإعادة صياغة شكل مؤسّساته على نحوٍ يَتَناسَق مع احتياجات عالمٍ دائمِ التّطوّر. ولن يتعارض هذا المبدأ مع أي ولاءٍ من الولاءات المشروعة، كما أنه لن ينتقص من حقِّ أي ولاءٍ ضروريِّ الوجود. فهو لا يستهدف إطفاءَ شُعْلَة المحبّة المتَّزنة للوطن في قلوب بني البشر، ولا يسعى إلى إزالة الحكم الذّاتيّ الوطنيّ، الذي هو ضرورةٌ ملحَّة إِذا ما أُرِيدَ تجنُّب الشّرور والمَخاطر النّاجمة عن الحكم المركزيّ المُبالَغ فيه. ولن يتجاهل هذا المبدأ أو يسعى إلى طَمْس تلك الميّزات المتَّصلة بالعِرق، والمناخ، والتّاريخ، واللّغة والتّقاليد، أو المتعلّقة بالفكر والعادات، فهذه الفوارق تُميِّز شعوب العالم ودُوَلَه بعضها عن بعض. إِنَّه يدعو إلى إقامة ولاءٍ أَوسع، واعتناق مطامح أسمى، تَفُوق كلّ ما سَبَقَ وحَرَّك مشاعر الجنس البشريّ في الماضي. ويؤكِّد هذا المبدأ إِخضاعَ المشاعر والمصالح الوطنيّة للمتطلَّبات الملحَّة في عالم مُوحَّد، رافضاً المركزيّة الزائدة عن الحدّ من جهة، ومُستنكِراً من جهة أخرى أيّة محاولة من شأنها القضاء على التّنوّع والتّعدّد. فالشِّعار الذي يَرْفعه هو: الوحدة والاتحاد في التنوّع والتعدّد.“}[٦]


وعلى ذلك فإن شعار ”الوحدة والاتحاد في التنوّع والتعّدد“ له مغزى عميق يتجاوز معناه الظاهري بل يدعو إلى تأسيس مدنية شبيهة بالمدينة الفاضلة التي دعا إليها أفلاطون قبل آلاف السنين. ولكن هذه المدنية جوهرها الروحانية الخالصة وأساسها المحبة والمودة وعمادها الوفاء والإخلاص وقاعدتها البشرية الواحدة و{لا فرق بين عربي أو أعجمي إلا بالتقوى}[٧] وهدفها تأسيس الحضارة العالمية الإلهية الموعودة في الكتب المقدسة. إن الوصول إلى الوحدة والاتحاد لا يأتي عن طريق إزالة الفروقات فحسب وإنما عن طريق الإدراك المتزايد والاحترام للقيمة الجوهرية للحضارات ولثقافة كل فرد، وإن النزاع والصراع الذي نراه اليوم في عالمنا ليس سببه في الأصل الاختلاف والتنوع وإنما نظرتنا غير الناضجة نحوه وعدم تسامحنا وتعصباتنا التي تدفعنا إلى الصراع ومحاولة إلغاء الآخر. هناك تشبيه جميل من حضرة عبدالبهاء لتنوع العالم الانساني يقول فيه:

{ لاحظوا أزهار الحدائق على الرغم من اختلاف أنواعها وتفاوت ألوانها واختلاف صورها وأشكالها ولكن لأنها تسقى من ماء واحد وتنتعش من هواء واحد وتترعرع من حرارة وضياء شمس واحدة فإن هذا التنوع والاختلاف سبب لازدياد بهاء وجمال أزهار الحدائق … أما اذا كانت أزهار ورياحين الحديقة ونوّارها وأثمارها وأوراقها وأغصانها وأشجارها من نوع واحد ولون واحد ومن تركيب واحد وترتيب واحد فلا لطافة ولا حلاوة لها على الإطلاق، أما إذا اختلفت من حيث اللون والورق والزهر والثمر فإن كلا منها يكون سبب زينة وبهاء سائر الأنواع الأخرى وتصبح الحديقة أنيقة وتظهر في غاية اللطافة والطراوة والجمال والحلاوة. وكذلك الأمر بالنسبة لتفاوت وتنوع أفكار وأشكال وآراء وطبائع وأخلاق العالم الانساني فإن كانت في ظل قوة واحدة ونفوذ كلمة الوحدانية فإنها ستبدو في غاية العظمة والجمال والسموّ والكمال. واليوم لا شئ يستطيع أن يجمع عقول وأفكار وقلوب وأرواح العالم الانساني تحت ظل شجرة واحدة سوى القوة الكلية لكلمة الله المحيطة بحقائق الأشياء. }[٨]


إن اعتراف الشعوب والحكومات بمبدأ وحدة الجنس البشري ليس كافياً بل عليهم أن يعملوا جاهدين لبناء نظام اجتماعي عالمي موحّد مبني على المبادئ الروحانية التي نادى بها حضرة بهاءالله قبل أكثر من مائة وخمسين سنة. إن تحقيق مثل هذا النظام يمثل الهدف الإلهي المقدّر للبشرية لرقي حياتهم الاجتماعية وتطوّرها. وبهذا الصدد يقول حضرة شوقي أفندي:

{إن هدف الحياة للفرد البهائي هو ترويج وحدة الجنس البشري، وإن جميع بواعث حياتنا مرتبطة بحياة جميع الكائنات البشرية. فما ندعو إليه ليس خلاصاً فردياً بل خلاص العالم بأكمله … وما نصبو إليه إنما هو حضارة عالمية ستؤثر بدورها على سلوك الفرد.}[٩]


إن رؤيتنا لمستقبل الجنس البشري كبهائيين هي رؤية تفاؤلية مبنية على وعد الله لعباده بمجئ ملكوت الله على الأرض ويوم تتحقق فيه العدالة الإلهية وتنتهي الحروب إلى الأبد ويسود السلام الأعظم ويبلغ الإنسان مستوى عالياً من النضج والبلوغ والكمال وخلق مدنية دائمة النمو والتطور. لقد حدثنا الإنجيل عن مجيء ”ابن الانسان آتياً على سحاب السماء بقوة ومجد كثير“[١٠] والإسلام تنبأ باليوم الذي ”يملأ الأرض قسطاً وعدلاً“[١١] بعد أن تكون قد ”ملئت جوراً وظلماً“[١٢] وأشار القرآن الكريم إلى ”يوم تبدّل الأرض غير الأرض“[١٣]. فهذه كلها علامات وبشارات بمجئ يوم عظيم في تاريخ البشرية وسنتحدث بالتفصيل عنه في الفصل الخامس من الكتاب.


إن مبدأ وحدة الجنس البشري يعتبر الأساس والمحور الذي تقوم عليه الحضارة الإلهية المستقبلية كما صوّره لنا حضرة بهاءالله في آثاره، وتأسيس الوحدة العالمية المبنية على ”الوحدة والإتحاد في التنوع والتعدّد“ يمثل قمة التطور الانساني، وهو دليل على دخول البشرية ”العصرالموعود“ المقدّر له، وهو عصر بلوغ الجنس البشري. شرح حضرة شوقي أفندي هذه الفكرة بهذه العبارات:

{إنّ رسالة حضرة بهاء الله، والتي غرضها الأسمى ليس سوى تحقيق هذا الاتحاد العضوي والروحي الشامل لكيان جميع الأمم، يجب أن يُنظَر إليها، إن كنّا مخلصين في تطبيق مضامينها، على أنها تشير بمجيئها إلى بلوغ الإنسانية جمعاء طور نضجها وبلوغها. فلا ينبغي النظر إليها على أنها مجرد بعث روحي آخر في مقدّرات الإنسانية دائمة التغيّر، ولا على أنها مجرّد حلقة أخرى في سلسلة الرسالات السماوية المتتابعة، ولا حتى كذروة كور من سلسلة أكوار رسولية متتالية، بل يجب اعتبارها بالأحرى دلالة على بلوغ آخر وأعلى مرحلة من مراحل التطور المذهل لحياة البشر الجماعية على هذا الكوكب. إنّ ظهور مجتمع عالمي، وبروز الإحساس بالمواطنة العالمية، وتأسيس حضارة وثقافة عالميتين … يجب اعتبارها، بحكم طبيعتها وفي حدود ما يتعلق بالحياة على هذا الكوكب، على أنها أقصى ما يمكن أن يصل إليه تنظيم المجتمع البشري، رغم أن الإنسان كفرد سيستمر، لا بل يجب أن يستمر في التقدم والتطور إلى ما لانهاية، كنتيجة لهذه المنزلة الكمالية التي وصلها.}[١٤]


يمرّ الجنس البشري بمراحل مختلفة من تطوره فقد بدأ بمرحلة الطفولة قبل آلاف السنين وتجاوز مراحل الصبا والحداثة وهو الآن في مرحلة المراهقة الصعبة والمتعبة قبل دخوله مرحلة البلوغ وفي خضم تحوّل وانقلاب لم يسبق له مثيل. كما أن العادات والتقاليد والعقائد التي كانت مرعية ومقبولة على نطاق واسع منذ مئات السنين قد أخذت بالاضمحلال والزوال والتغيير واحدة تلو الأخرى. وقبل أكثر من نصف قرن ذكر حضرة شوقي أفندي :

{ إنَّ العصور المديدة للطفولة والصبا التي كان على الإنسانية اجتيازها قد ولّت. وتعاني البشرية الآن الاضطرابات الملازمة بثبات لأعنف مراحل تطورها، ألا وهي مرحلة المراهقة حيث يبلغ تهور الشباب وعنفه ذروتهما، ليخلفهما حتما وبالتدريج الهدوء والنضج والحكمة التي تتميز بها مرحلة الرجولة. عندئذ يبلغ الجنس البشري ذلك المستوى من النضج الذي يمكنه من اكتساب جميع القوى والقدرات التي سيتوقف عليها تطوره النهائي }.[١٥]


نرى أن المجتمع العالمي الموحّد الذي صوّره بهاءالله يبدأ بقبول البشرية لمبدأ وحدة الجنس البشري ولزومية تطبيقه على مستوى القاعدة ثم توسيعه ونشره إلى مستويات أعلى من الوحدة مثل القبيلة ثم المدينة ثم الأمة وهي مراحل حتمية من تطور الإنسانية ودلالة على وصولها لمرحلة النضج والبلوغ. إن مهمة حكومات وشعوب العالم هي إيجاد زخم ودفع للمرحلة التالية من هذا التكامل الاجتماعي، وبالأحرى تنظيم المجتمع الإنساني باعتباره حضارة تخصّ كوكب الأرض. يمكن الوصول لهذا الأمر من خلال تطوير بُنية اجتماعية جديدة تعمل على التخفيض والحدّ من صراع المصالح والطبقات وخلق مستوى جديد من الضمير الإنساني يؤمن إيمانًا قويًا بوحدة الجنس البشري. إن ما شاهدناه حتى الآن هو تاريخ طفولة الإنسانية ثمَّ مرحلة الصبا ومن ثمَّ المراهقة ولم نشاهد بعد ذلك التاريخ المشعشع المنير الذهبي من تاريخ بلوغ الانسانية الذي سيتجلى فيه الملكوت الإلهي بأبهى صوره. لقد أكَّد حضرة بهاءالله بأنَّنا أحيانًا قد نستهين بالقدرات الحقيقية الكامنة بالجنس البشري ولكن هذه القدرات الدفينة بالإنسان ستبرز وتتجلى عندما تصل البشرية إلى مرحلة عالية من النضج والبلوغ حيث تفضل حضرته :

{قد انتهت الظهورات إلى هذا الظهور الأعظم كذلك ينصحكم ربكم العليم الحكيم والحمد لله رب العالمين.}[١٦] {مقام كل إنسان ورتبته وشأنه لابد أن يظهر في هذا اليوم الموعود.}[١٧]


كما وصف حضرة شوقي أفندي الوضع الحالي والمستقبلي للمجتمع الإنساني بما يلي:

{إِن اتحاد الجنس البشريّ كلّه يُمثِّل الإشارة المُميِّزة للمرحلة التي يقترب منها المجتمع الإنسانيّ الآن. فاتِّحاد العائلة، واتِّحاد القبيلة، واتِّحاد ”المدينة – الدّولة“، ثم قيام ”الأُمَّة – الدّولة“ كانت مُحاولات تَتابَعَت وكُتِب لها كاملُ النّجاح. أَمَّا اتِّحاد العالم بدوله وشعوبه فهو الهدف الذي تسعى إلى تحقيقه بشريّة مُعذَّبة. لقد انقضى عهد بناء الأُمَم وتشييدِ الدّول. والفَوْضَى الكامنة في النّظريّة القائلة بسيادة الدّولة تتَّجه الآن إلى ذِرْوتها، فعالمٌ يَنْمُو نحو النّضوج، عليه أن يتخلَّى عن التّشبُّث بهذا الزَّيْف، ويعترف بوحدة العلاقات الإنسانيّة وشُمولِها، ويؤسِّس نهائيّاً الجهاز الذي يمكن أن يُجسِّد على خير وجه هذا المبدأ الأساسي في حياته.}[١٨]


ويمكن النظر إلى المجتمع البهائي اليوم بأنه نموذج مستقبلي للحضارة والوحدة العالمية، إنه مجتمع متواجد تقريباً في كل دولة وقرية، ومكوّن من أفراد ينتمون لثقافات وطبقات وأصول وأديان مختلفة يسهمون في إصلاح وبناء مجتمعاتهم عن طريق نشاطات متنوعة تساعد في سدّ الاحتياجات الروحية والاجتماعية والاقتصادية لأبناء جلدتهم. إنهم يمثلون نموذجاً لتنوع العائلة الإنسانية التي تكافح من أجل إيجاد عالم جديد، وتعتز بالفيض العظيم من الهداية الإلهية الذي يشملهم دون تمييز، ويعملون على ترويج برامج التنمية الروحية والأخلاقية للأطفال والشباب الناشئ والشباب لما لهذه البرامج من أثر بليغ في إصلاح المجتمع وتنميته. ونختم هذا الفصل بهذه العبارات المؤثرة الصادرة عن بيت العدل الأعظم وهو المؤسسة العليا والمرجع المقدس لكافة البهائيين في العالم حول المقام الحقيقي للإنسان:

{ نحن نؤمن إِيماناً راسخاً بأنَّ البشر جميعاً خُلِقوا لكي ”يَحْمِلوا حضارةً دائمةَ التّقدُّم“ وبأَنَّه ”ليس من شِيَم الإنسان أن يسلك مسلك وحوش الغاب“، وبأنَّ الفضائل التّي تَليق بكرامة الإنسان هي الأَمَانةُ، والتَّسامُحُ، والرَّحْمَةُ، والرَّأْفَةُ، والأُلْفَةُ مع البشر أَجمعين. ونَعُود فنؤكِّد إيماننا بأن ”القُدُرات الكامنة في مقام الإنسان، وسموّ ما قُدِّر له على هذه الأرض، وما فُطِرَ عليه من نفيس الجَوْهَر، لسوف تَظْهَر جميعها في هذا اليوم الذي وَعَدَ به الرَّحْمن“. وهذه الاعتبارات هي التي تُحرِّك فينا مشاعر إيمانٍ ثابتٍ لا يتزعزع بأنَّ الاتِّحاد والسّلام هُمَا الهَدَفُ الذي يمكن تحقيقه ويسعى نحوه بَنو البشر.}[١٩]




%
تقدم القراءة
- / -