الدين البهائي
"لتكن رؤيتكم عالمية ..." -- حضرة بهاء الله
"لو رزقت قليلًا من زلال المعرفة الإلهيّة لعرفت بأنَّ الحياة الحقيقيّة هي حياة القلب لا حياةُ الجسد ..." -- حضرة بهاء الله
"إن دين الله ومذهب الله يهدف إلى حفظ واتحاد واتفاق العالم والمحبة والألفة بين اهل العالم." -- حضرة بهاء الله

حقوق الإنسان والفقر المدقع

بيان موجّه إلى المفوضية الفرعيّة التابعة للأمم المتحدة لمنع التمييز العنصري وحماية الأقليّات


جنيف – سويسرا

آب/ أغسطس ۱۹۹٤


 


إنّ الفجوة الآخذة في الاتساع بين الغنى والفقر تمثل عاملاً رئيسيًّا لزعزعة الاستقرار في العالم. فهي تفرز أو تفاقم الصراعات الإقليميّة والقوميّة والتدهور البيئيّ والجريمة والعنف وتعاطي العقاقير المحظورة. وعواقب الفقر المدقع هذه تسترعي انتباهنا قسرًا على نحوٍ متزايد. وكما ذكر السّكرتير العام للأمم المتحده في برنامجه للتنمية "آثار الحرمان والمرض والنزاع في أيّ جزء من العالم ملموسة في كلّ مكان". كوننا أعضاء في أسرة إنسانيّة واحدة فإن وعينا يزداد باطراد بأننا نتأثر بشكل أو بآخر بمعاناة كلّ كائن بشري. وما لم يتمّ تخفيف هذه المعاناة فلا يمكن لأيّ فرد من هذه الأسرة أن يشعر بسعادة أو راحة كاملة. لقد برهن المقرر الخاص السيد/ لياندرو ديسپوي Leandro Despouy وبشكل مقنع في تقريره (E/CN.4/Sub.2/1994/19) أنّ "محاربة الفقر في هذا المنعطف هو أمر يهمّ البشريّة جمعاء".

 


وتعتمد المقاربة البهائيّة لمشكلة الفقر المدقع على تطبيق المبادئ الروحانيّة، فالعلاقات الاقتصادية للمجتمع تعكس قِيَم أفراده. لذلك فإنّ تغيير هذه العلاقات يستوجب تغيير خصال وأخلاق الإنسان. وإلى أن تتفوّق قيم العدل على الجشع فإنّ الفجوة بين الغني والفقير ستستمرّ في الاتساع، والحلم بالنمو الاقتصاديّ المستدام والسّلام والرخاء والازدهار سيبقى بعيد المنال. إنّنا واثقون بأن العمل على توعية البشرية بما للقيم الروحانيّة من دور حيوي في حلّ المشاكل الاقتصاديّة سيخلق زخمًا جديدًا للتغيير.

 


يدعو السيد بطرس غالي في أجندته للتنمية، إلى تنمية ذات وجه إنسانيّ، وأشار بأن "التنمية يجب توجيهها إلى كلّ شخص في العالم" وأن تعترف ﺑ "جامعة إنسانيّة". وفي الحقيقة، فلا يمكن تأسيس نظام اقتصادي إلا برؤية لجامعة تحتضن العالم كله، وقناعة ويقين لا يتزعزع بوحدة الجنس البشري. فعندما تُبنى المشاورات الهادفة إلى حلّ المشكلات المتعلقة بالفقر المدقع على أساس المنطق القائل بأنّنا أسرة بشرية واحدة، فإنّها ستمتد بسرعة إلى ما هو أبعد من النظم الاقتصاديّة السائدة، وتتطلّب سياقًا أرحب، سياقًا يتطلع إلى بزوغ نظام عالميّ من العلاقات يعتمد على مبادئ العدل والمساواة.

 


يصرّح "الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان" بأنّ لكلّ شخص الحق في مستوى من المعيشة يفي بالمحافظة على الصحّة الجيدة والرفاهية له ولأسرته، . ويؤمن البهائيون أنّ إعادة تنظيم العلاقات الاقتصاديّة من شأنها أن تعمل على تحقيق بلوغ مستوى معيشيّ لائق على صعيد عالمي. وعلى الرغم من إن النظام الاقتصاديّ الذي تتوقعه الكتابات البهائية، سيشبه بلا شك النظام الحاليّ في كثير من الوجوه، إلا أنه سيختلف معه في نقاط تمييز ذات أهمية.

 


فلنأخذ مثلاً النظرة البهائيّة بخصوص توزيع الدخل، والتي تسمح بوجود التفاوت والاختلاف ولكنها تمحي كلًا من الغنى الفاحش والفقر المدقع. فتراكم ثروات طائلة لدى عدد قليل من الأفراد بينما تعاني الغالبيّة العظمى من حالة من العوز، ما هو إلا ظلمٌ لا يحتمل حسب التعاليم البهائية. لذلك، يجب تحقيق الاعتدال عن طريق قوانين وأنظمة تعمل على الحدّ من الثروة الشخصيّة وتوفير فرصة الحصول على وسائل العيش الكريم لكل شخص.

 


تتوقّع الكتابات البهائيّة أن تتطور الجامعات بحيث يكون رخاء كلّ فرد فيها هو الشغل الشاغل للجامعة ككل. وسيشمل مركز مثل هذه الجامعة على مؤسسات للخدمة الاجتماعيّة يكون في مقدورها تقديم النجدة لتوفير الراحة للمصابين، والعون للمعوزين، والمأوى للمشردين، والغوث للملهوفين، والتعليم لغير المتعلّمين. يؤكد السيد "ديسپوي"، مشيداً بفلسفة "مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية" (UNCTAD) "للمفوضية الدائمة لتخفيف الفقر" ، في تقريره ، أن "محاربة الفقر هو في مصلحة الجميع... الفقراء والأثرياء، المانحين والمستفيدين على الصعيد الوطني أو العالميّ ".

 


إنّ الواجب والحق في العمل أمران مقدّسان. فلا مكان للكسل والتسوّل في مجتمع نشط فعال، كما أنّ العمل الذي يؤدى بروح من الخدمة يرتقي إلى مرتبة العبادة. وقد ذكر "المقرر الخاص" أن "الفقراء بشكل عام لا يستطيعون، بصفتهم مواطنين، المشاركة في عملية صنع القرار ولا يُسمح لهم بالاضطلاع بمسئولياتهم ضمن المجتمع". وهذا الوضع غير مقبول من منطلق أنّ الهدف الأساسي من الحياة هو المساهمة في تقدّم المدنيّة. وبالتالي، فإنّ الحقّ في العمل يأخذ بعدًا روحانيًا، ومسؤولية أن يكون الإنسان منتجًا تقع على عاتق كلّ فرد.

 


إنّ الاعتقاد بقداسة العمل والخدمة يؤثر تأثيرا عميقًا في المقاربة البهائيّة للتنمية الاجتماعيّة والاقتصاديّة. نشجّع الجامعات على تحديد احتياجاتها الذاتية وإقامة مشاريعها الخاصة. هذه المشاريع التي تقوم بمبادرات محلية، والتي يركّز أغلبها على تخفيف وطأة الفقر تستند على قيم أخلاقية وتشجّع على تقديم الخدمة للجامعة ككل.

 


في الهند، وعلى سبيل المثال، يقدّم "المعهد المهني للنساء الريفيّات فى إندور" الذي أسّسه البهائيون في ولاية "مادهيا برادش" وبدعم من الجامعة البهائيّة في ذلك القُطر، خدمات مجانيّة لمحو الأميّة والتدريب المهنيّ للشّابات الأقلّ حظًا في المنطقة. ووصولًا إلى قرى فقيرة في منطقة واسعة، يركّز المعهد على التدريب على المهارات المفيدة والتي يمكن تسويقها محليًا. ولقد لوحظ أنه عندما تعود النّساء الشّابات إلى قراهنّ فإنهنّ يؤثّرن في جامعاتهن بأكملها، وفي معظم الأحيان، نتيجة للتربية الأخلاقية التي تلقيْنها في المعهد، فإن اكتسابهنّ الفضائل لا يساعدهنّ على التأثير الإيجابيّ على أسرهنّ وأصدقائهنّ فقط، بل يرفع من قدرتهنّ على إدارة الأعمال. مثل هذه المبادئ الأخلاقيّة من قبيل الأمانة والجدارة بالثقة هي مبادئ عملية تمامًا من حيث أنها ضرورية وأساسية لنجاح المشاريع التعاونيّة.

 


في "بوليفيا" هناك مشروع في منطقة "تشاكو Chaco" يسعى جاهدًا لتمكين السكّان من المزارعين الفقراء الذين طال تجاهلهم، والنهوض بهم من خلال برنامج متكامل من التدريب الفني وتنظيم المجتمع والأفكار الروحانيّة. والهدف هو غرس الاكتفاء الذاتي من خلال الوعي المجتمعي بغرض تقليل الاعتماد على المساعدات والاستشارات الخارجية. تؤمن الجامعة البهائية العالمية أن رعاية ودعم المبادرات النابعة من القاعدة هو أمر ضروري لمحو الفقر. إن مفهوم النهوض بالأفراد والمجتمعات وتمكينها ينطوي على مضامين أخلاقيّة وتعليميّة تتطلّب دراسات عميقة.

 


تودّ الجامعة البهائيّة العالميّة أن تنتهز هذه الفرصة لتقديم الشكر للمقرِّر الخاص السيد لياندرو ديسپوي لتقريره حول حقوق الإنسان والفقر المدقع، ونأمل أن نساهم في دراساته المستقبليّة.


النص الإنجليزي:

Human Rights and Extreme Poverty
BIC Document #94-0817
Category: Human Rights - Social Development


%
تقدم القراءة
- / -