الدين البهائي
"لتكن رؤيتكم عالمية ..." -- حضرة بهاء الله
"لو رزقت قليلًا من زلال المعرفة الإلهيّة لعرفت بأنَّ الحياة الحقيقيّة هي حياة القلب لا حياةُ الجسد ..." -- حضرة بهاء الله
"إن دين الله ومذهب الله يهدف إلى حفظ واتحاد واتفاق العالم والمحبة والألفة بين اهل العالم." -- حضرة بهاء الله

حضرة بهاءالله


أمّا حضرة بهاء الله فقد ظهر حينما كانت مملكة إيران غارقة في بحار الظّلمة والجهل تائهة في بيداء التّعصّب الأعمى، ولا بدّ أنّك قرأت في أسفار التّاريخ الأوروبّي تفصيلاً عن أفكار الإيرانيّين وأخلاقهم في القرون الأخيرة فلا حاجة للتّكرار.


وبالاختصار فإنّ إيران كانت قد وصلت إلى درجة من الانحطاط أسف لها جميع السّائحين الأجانب، لأنّ هذه المملكة كانت في القرون الأولى في أوج العظمة والمدنيّة والآن وقعت في وهدة السّقوط والاضمحلال وانهدم بنيانها، ووصل أهلها إلى أحطّ دركات الهمجيّة، ففي هذا الوقت ظهر حضرة بهاء الله وكان والده من الوزراء لا من العلماء، ومن المسلّم به لدى جميع أهالي إيران أنّه لم يتلقَّ العلم في مدرسة ما ولم يعاشر العلماء والفضلاء، وقضى أيّام حياته الأولى في بحبوحة الرّفاهية والنّعيم، وكان مؤانسوه ومجالسوه من أبناء أعاظم إيران لا من أهل المعارف، وبمجرّد أن أظهر الباب أمره قال حضرة بهاء الله أنّ هذا الشّخص الجليل سيّد الأبرار يجب على الجميع أن يتّبعوه ويؤمنوا به، وقام على نصرته يقيم الأدلّة والبراهين القاطعة على أحقّيّته، ومع أنّ علماء الملّة أجبروا الدّولة العليّة الإيرانيّة على معارضته وصدّه، وأفتى جميع العلماء بالقتل والنّهب والإيذاء والقمع والاضطهاد له ولتابعيه، وقاموا في جميع أنحاء المملكة بالقتل والإحراق والنّهب وحتّى إيذاء النّساء والأطفال، ومع هذا فإنّ حضرة بهاء الله قام بكلّ استقامة وثبات على إعلاء كلمة حضرة الباب ولم يتوارَ ساعة واحدة بل ظلّ ظاهراً مشهوداً ومشهوراً بين الأعداء مشتغلاً بإقامة الأدلّة والبراهين معروفاً بإعلاء كلمة الله متحمّلاً الصّدمات الشّديدة المتوالية عرضة للاستشهاد في كلّ لحظة، ثمّ وقع تحت السّلاسل وزجّ في أعماق السّجن ونهبت وسلبت أمواله الوفيرة الموروثة، ونفي من مملكة إلى أخرى مرّات أربع، وأخيراً استقرّ في السّجن الأعظم ، ورغم كلّ هذا ظلّ النّداء مرتفعاً وصيت أمر الله مشتهراً، وظهر بفضل وعلم وكمالات حيّرت أهل إيران بحيث أنّ كلّ من تشرّف بالمثول بين يديه من أهل العلم والعرفان محبّاً كان أو مبغضاً في طهران أو بغداد أو القسطنطينيّة أو الرّوملِّي (أدرنة) أو عكّا وسأل سؤالاً سمع جواباً شافياً كافياً، وأقرّ الكلّ واعترفوا بأنّ هذا الشّخص فريد في الكمالات وحيد في الآفاق، وكثيراً ما حضر إلى مجلسه المبارك ببغداد علماء الإسلام واليهود والنّصارى وأهل العلم والمعرفة من الأوروبيّين ومع اختلاف مشاربهم كان كلّ يسأل سؤالا فيسمع جواباً كافياً مقنعاً، حتّى أنّ علماء إيران الّذين بمدينة كربلاء ونجف انتخبوا شخصاً عالماً أنابوه عنهم، وكان ذلك الشّخص يسمّى ملاّ حسن عمو تشرّف باللّقاء المبارك وسأل بعض الأسئلة من قبل العلماء وسمع الجواب، ثمّ قال إنّ العلماء مقرّون ومعترفون بعلمكم وفضلكم ومسلّم لدى الجميع بأنّه ليس لكم مثيل ولا نظير في العلم والعرفان، ومن الثّابت أنّكم لم تدرسوا ولم تتعلّموا ولكنّ العلماء يقولون نحن لا نقتنع بذلك ولا نعترف بصحّة دعواه بسبب علمه وفضله لهذا نرجو أن يظهر لنا معجزة واحدة لإقناعنا واطمئنان قلوبنا، فقال حضرة بهاء الله ولو أنّهم ليسوا بمحقّين في ذلك، إذ للحقّ أن يمتحن الخلق ولا لهؤلاء أن يمتحنوا الحقّ، مع ذلك فإنّ الطّلب مقبول، أمّا أمر الله فليس مسرحاً للشّعوذة والألاعيب يمثّل عليه كلّ ساعة دور ويطلب كلّ يوم مطلب، لأنّ بهذا يصبح أمر الله ملعبة صبيانيّة، ولكن للعلماء أن يجتمعوا ويتّفقوا على طلب معجزة واحدة، ثمّ يكتبوا أنّ بظهور هذه المعجزة لا يبقى لدينا شكّ أو شبهة، وكلّنا نقرّ ونعترف بأحقّيّة هذا الأمر، ويختمون تلك الورقة وائتِ بها وليكن هذا ميزاناً حتّى إذا ظهرت المعجزة لا يبقى لهم شبهة وإن عجزنا ثبت بطلاننا، فقام ذلك الشّخص العالم وقبّل ركبتيّ حضرة بهاء الله مع أنّه لم يكن مؤمناً، ثمّ ذهب وجمع حضرات العلماء وبلّغهم الرّسالة فتشاوروا ثمّ قالوا إنّ هذا لساحر وربّما أتى بسحر فلا يبقى لنا ما نقول، وبذا لم يجرءوا أن يتقدّموا بمطلب جديد. ولكنّ ذلك الرّسول أذاع الخبر في كثير من المحافل والمجالس وسافر من كربلاء إلى كرمنشاه وطهران ناشراً تفاصيل الحادثة بين الجميع مبيّناً خوف العلماء وعدم إقدامهم.


والمقصود من هذا البيان هو أنّ جميع المعترضين في الشّرق إنّما كانوا معترفين بعظمة حضرة بهاء الله وجلاله وعلمه وفضله، ومع عداوتهم لحضرته كانوا يصفونه ببهاء الله الشّهير.


والخلاصة أنّ هذا النيّر الأعظم أشرق بغتة من أفق إيران حينما كان أهل تلك البلاد سواء في ذلك العلماء والوزراء والشّعب قائمين جميعاً على مقاومته بأشدّ العداء معلنين أنّه يريد أن يمحو الدّين والشّريعة ويهدم الملّة والسّلطنة، كما قيل في حقّ المسيح، ولكنّ بهاء الله قاوم الكلّ فريداً وحيداً ولم يعتره أي فتور مطلقاً، وقالوا في النّهاية إنّ إيران لن تذوق طعم الرّاحة والهناء ما دام هذا الشّخص فيها، فيجب إخراجه حتّى تهدأ البلاد، ثمّ ضايقوه ليطلب الإذن بالخروج ظانّين أنّ بهذه الوسيلة ينطفئ سراج أمره المبارك ولكنّ النّتيجة كانت عكسيّة، إذ ارتفع الأمر وازداد اشتعالاً، فبعد أن كان قاصراً على إيران انتشر بهذه الوسيلة بسائر البلدان، ثمّ قالوا إنّ العراق العربيّ قريب من إيران فيجب إرساله إلى بلاد بعيدة، لهذا سعت الحكومة الإيرانيّة حتّى أرسل حضرته من العراق إلى القسطنطينيّة، غير أنّهم لاحظوا بعدئذٍ أيضاً أنّه لم يحصل فتور قطّ، فقالوا إنّ القسطنطينيّة نقطة يمرّ بها أقوام وملل مختلفة وبها كثير من الإيرانيّين، ولذلك سعوا حتّى نفي حضرة بهاء الله إلى الرّوملِّي (أدرنة) إلاّ أنّ أمره ارتفع أكثر من قبل وزاد انتشاراً واشتعالاً، وفي النّهاية قال الإيرانيّون إنّ هذه البلدان كلّها لم تكن تؤدّي إلى إهانته، فيجب أن يرسل إلى مكان مهين يلحقه فيه الأذى والتّعب ويبتلى أهله ومريدوه بأشدّ البلاء، فاختاروا سجن عكّا منفى القتلة والعصاة والسّارقين وقطّاع الطّريق وحشروهم فعلاً في زمرة هذه النّفوس. ولكنّ القدرة الإلهيّة ظهرت والكلمة علت وعظمة بهاء الله تجلّت، ففي سجن كهذا وذلّة كهذه نقل حضرته إيران من حالة إلى حالة وقهر جميع الأعداء وأثبت للكلّ عدم قدرتهم على مقاومة هذا الأمر وسرت تعاليمه المقدّسة في جميع الآفاق وثبت أمره، وعلى الإجمال فقد قام الأعداء بنهاية البغضاء في جميع الولايات الإيرانيّة، فأوثقوا وضربوا وقتلوا وأحرقوا، وهدموا بنيان ألف عائلة وتشبّثوا بكلّ وسيلة في القلع والقمع ليطفئوا نور أمره، ومع هذا فقد علا أمره وهو في سجن القتلة وقطّاع الطّريق والسّارقين، ونشر تعاليمه ونبّه كثيراً من النّفوس الّتي كانت في أشدّ البغضاء فآمنوا وأصبحوا موقنين، وقام بعمل استيقظت له نفس حكومة إيران وندمت على ما وقع منها بواسطة علماء السّوء. ولمّا وصل الجمال المبارك (حضرة بهاء الله) إلى هذا السّجن في الأرض المقدّسة، تنبّه العقلاء إلى البشارات الّتي أخبر الله بها على لسان الأنبياء من قبل منذ ألفيّ سنة أو ثلاثة آلاف سنة، وثبت ظهورها، ووفى الله بوعده لأنّه أوحى إلى بعض الأنبياء وبشّر الأرض المقدٍّسة بأنّ ربّ الجنود سيظهر فيك، ووفيت جميع هذه الوعود، ولولا تعرّض الأعداء ووقوع هذا النّفي والإبعاد لما تصوّر العقل بأنّ الجمال المبارك يهاجر من إيران ويرفع الخيام في هذه الأرض المقدّسة، وكان مقصد الأعداء من ذلك أن يكون هذا السّجن سبب محو الأمر المبارك وإفنائه بالكلّيّة، والحال أنّ السّجن المبارك صار سبباً لأعظم تأييد وعلّة للنّشر والتّرويج وواسطة وصول النّداء الإلهيّ إلى الشّرق والغرب، وسطوع أشعّة شمس الحقيقة في جميع الآفاق. سبحان الله مع أنّه كان مسجوناً لكنّ سرادقه كان مرتفعاً على جبل الكرمل، ويحفّ حركاته كلّ عظمة وجلال حتّى أنّ كلّ من تشرّف بحضرته غريباً كان أم من المعارف كان يقول إن هذا أمير وليس بأسير.


وبمجرّد وروده السّجن حرّر خطاباً لنابليون وأرسل بواسطة سفير فرنسا، ومضمونه أن تسأل عن جرمنا الّذي صار سبباً لهذا الحبس والسّجن، فلم يجب نابليون، وبعده صدر توقيع ثانٍ وذلك التّوقيع مندرج في سورة الهيكل، ومختصر الخطاب هو: يا نابليون حيث أنّك لم تجب ولم تصغِ للنّداء فعمّا قريب تذهب سلطنتك أدراج الرّياح ويحلّ بك الخراب، وأرسل ذلك التّوقيع بالبريد بواسطة قيصر كتفاكو ، وباطّلاع جميع المهاجرين أرسلت صورة هذا الخطاب إلى جميع أطراف إيران لأنّ كتاب الهيكل كان قد نشر في جميع أنحاء إيران في تلك الأيّام، وهذا الخطاب من جملة ما درج في كتاب الهيكل، وكان ذلك سنة 1869 ميلاديّة، ولمّا انتشرت سورة الهيكل في جميع جهات إيران والهند وقع في أيدي جميع الأحباب، والكلّ كان ينتظر نتائج هذا الخطاب ولم يمضِ زمن قليل حتّى جاءت سنة 1870 ميلاديّة، واشتعلت نار الحرب بين ألمانيا وفرنسا ومع أنّه لم تخطر ببال أحد غلبة الألمان أبداً فقد غلب نابليون وهزم شرّ هزيمة ووقع أسيراً في يد الأعداء، وتبدّلت عزّته بالذّلّة الكبرى.


وكذلك أرسلت الألواح إلى سائر الملوك، ومن جملتها أرسل توقيع لجلالة ناصر الدّين شاه، وفي هذا التّوقيع يتفضّل حضرته بقوله أحضرني وأحضر جميع العلماء واطلب الحجّة والبرهان حتّى يتبيّن الحقّ من الباطل، فأرسل جلالة ناصر الدّين شاه التّوقيع المبارك إلى العلماء وكلّفهم أن يبدوا رأيهم فيما عرض عليهم، غير أنّهم لم يجرءوا على ذلك فطلب من سبعة أشخاص من مشاهير العلماء أن يجيبوا على هذا التّوقيع، ولكن بعد مدّة أعادوا التّوقيع المبارك قائلين إنّ هذا الشّخص معارض للدّين وعدوّ للشّاه، فغضب جلالته من ردّهم وقال إنّ هذه المسألة مسألة الحجّة والبرهان وقضيّة الحقّ والباطل، فما علاقتها بالعداء للحكومة؟ فيا للأسف كم نحن راعينا هؤلاء العلماء واحترمناهم وهم عاجزون عن جواب هذا الخطاب، وقصارى القول إنّ ما رقم في ألواح الملوك قد تحقّق جميعه، وإنّ تتتبّع الوقائع التّاريخيّة من سنة 1870 ميلاديّة تجد أنّها منطبقة ومحقّقة لما جاء في ألواح الملوك ولم يبقَ منها إلاّ القليل ولا بدّ من أن يتحقّق فيما بعد.


وكذلك كانت الطّوائف الخارجة والملل غير المؤمنة تنسب إلى الجمال المبارك أموراً عظيمة وبعضهم كان يعتقد بولاية حضرته، حتّى أنّ بعضاً منهم كتبوا رسائل، ومن جملتهم كتب السّيّد الدّاودي من علماء أهل السّنّة ببغداد رسالة مختصرة ضمّنها خوارق العادات الصّادرة من الجمال المبارك في أحوال متعدّدة، ويوجد إلى الآن في جميع جهات الشّرق أشخاص غير مؤمنين بمظهريّة الجمال المبارك ولكنّهم يعتقدون بولايته ويروون عنه المعجزات.


وخلاصة القول فإنّه ما تشرّفت نفس بساحته المقدّسة سواء أكانت موافقة أم مخالفة إلاّ وأقرّت واعترفت بعظمة حضرته، وغاية ما هنالك أنّ (المخالف) وإن لم يؤمن إلاّ أنّه شهد بعظمته.


وبمجرّد التّشرّف بساحة الأقدس كانت ملاقاة الجمال المبارك تؤثّر فيهم تأثيراً بدرجة أنّ كثيراً منهم ما كان يقدر أن ينبس ببنت شفة، وكثيراً ما وقع أنّ شخصاً ممّن كانوا في أشدّ العداء والبغضاء أقرّ في نفسه بأنّني إذا ضمّني مجلس الحضور أقول كذا وأجادل وأحاجج بكذا ولكنّه عندما كان يصل إلى ساحة الأقدس تتملّكه الدّهشة والحيرة ولا تجد لنفسه بدّاً من الصّمت والسّكوت.


ما درس الجمال المبارك لسان العرب، ولم يكن له معلّم ولا مدرّس ولم يدخل مكتباً ولكن بلاغة بيانه المبارك وفصاحته باللّسان العربيّ في الألواح العربيّة حيّرت عقول فصحاء العرب وبلغائهم والكلّ مقرّ ومعترف بأنّه لا مثيل له ولا نظير، ولو نمعن النّظر في نصوص التّوراة لا نجد أيّ مظهر من المظاهر الإلهيّة خيَّر الأقوام المنكرة في طلب أيّة معجزة ووافقهم على أيّ ميزان يقرّونه، وفي توقيع جلالة الشّاه قال بوضوح اجمع العلماء واطلبني لتثبت الحجّة والبرهان.


إنّ الجمال المبارك وقف كالجبل مقابل الأعداء مدّة خمسين سنة وكلّهم يطلبون إفناءه ومحوه ويهاجمونه جميعاً قاصدين ألف مرّة صلبه وإعدامه وكان في نهاية الخطر طول هذه المدّة.


وإن جميع العقلاء من الدّاخل والخارج المطّلعين على حقائق الأحوال متّفقون على أنّ إيران الّتي وصلت إلى هذه الدّرجة من الهمجيّة والخراب إلى الآن يتوقّف رقيّها وتمدّنها وعمرانها على ترويج مبادئ هذا الشّخص العظيم وتعميم تعاليمه.


إنّ حضرة المسيح في زمانه المبارك ربَّى في الحقيقة أحد عشر نفراً وكان بطرس أعظم هؤلاء الأشخاص ولمّا وقع الامتحان أنكر المسيح ثلاث مرّات ومع هذا فانظر كيف نفذ أمر حضرة المسيح بعدئذٍ في أركان العالم، وقد ربَّى حضرة الجمال المبارك إلى الآن آلافاً من النّفوس أوصلوا تحت السّيوف نداء يا بهاء الأبهى إلى الأوج الأعلى ولمعت وجوههم لمعان الذّهب بنار الامتحان، فلاحظوا كيف يكون أمره فيما بعد.


إذن يجب الإنصاف بأنّ هذا الشّخص الجليل كيف كان مربّياً للعالم الإنسانيّ وكم ظهرت منه آثار باهرة وأيّة قدرة وقوّة تحقّقت به في عالم الوجود.



%
تقدم القراءة
- / -