الدين البهائي
"لتكن رؤيتكم عالمية ..." -- حضرة بهاء الله
"لو رزقت قليلًا من زلال المعرفة الإلهيّة لعرفت بأنَّ الحياة الحقيقيّة هي حياة القلب لا حياةُ الجسد ..." -- حضرة بهاء الله
"إن دين الله ومذهب الله يهدف إلى حفظ واتحاد واتفاق العالم والمحبة والألفة بين اهل العالم." -- حضرة بهاء الله

لا تعرف الألوهيّة إلاّ بواسطة المظاهر الإلهيّة


السّؤال: ما حقيقة الألوهيّة وما علاقتها بالمطالع الرّبّانيّة والمشارق الرّحمانيّة؟


الجواب: اعلم أنّ الألوهيّة وكنه ذات الأحديّة تنزيه صرف وتقديس بحت، يعني منزّه ومبرّأ عن كلّ نعت، وأنّ جميع الأوصاف العالية في مراتب الوجود أوهام لدى ذلك المقام، غيب منيع لا يدرك وذات بحت لا يوصف، لأن الذّات الإلهيّة محيطة وجميع الكائنات محاط ولا شكّ أنّ المحيط أعظم من المحاط لهذا لا يمكن أن يكتنه المحاط من أحاط به ويدرك حقيقته، فمهما ترقّت العقول ووصلت إلى منتهى درجة من الإدراك، فغاية إدراكها مشاهدة آثاره وصفاته في عالم الخلق لا في عالم الحقّ، لأنّ ذات حضرة الأحديّة وصفاتها في علوّ التّقديس فليس للعقول والإدراكات سبيل إلى ذلك المقام "السّبيل مسدود والطّلب مردود" ومن الواضح أنّ قوّة الإدراك الإنساني فرع لوجود الإنسان والإنسان آية الرّحمن فكيف يحيط فرع الآية بموجد تلك الآية، يعني أنّ الإدراك الذي هو فرع وجود الإنسان يعجز عن أن يدرك حقيقة الألوهيّة، لهذا فتلك الحقيقة الإلهيّة مخفيّة عن جميع الإدراكات ومستورة عن عقول جميع البشر والصّعود إلى ذلك المقام ممتنع محال.


ونحن نرى أن كل دانٍ عاجز عن إدراك حقيقة ما فوقه، مثلاً إنّ الحجر والمدر والشّجر مهما ترقّى لا يقدر على إدراك حقيقة الإنسان ولا يتصوّر البصر والسّمع وسائر الحواس، مع أنّ جميعها مخلوق، فكيف إذاً يهتدي الإنسان المخلق إلى إدراك حقيقة ذات الخالق المقدّس، فليس للإدراك في هذا المقام سبيل ولا للبيان طريق ولا للإشارة مجال.


وأنَّى للذّرّة التّرابيّة أن تبلغ إلى عالم التّنزيه وما النّسبة بين العقل المحدود والعالم اللاّمحدود؟ (عجزت العقول عن إدراكه وحارت النّفوس في بيانه)* "لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللّطيف الخبير" فكلّ ذكر وبيان في هذا المقام قاصر وكلّ تعريف وتوصيف غير لائق وكلّ تصوّر ساقط وكلّ تعمّق باطل، ولكنّ لجوهر الجواهر وحقيقة الحقائق وسرّ الأسرار هذا تجلّيات وإشراقات وظهور وجلوة في عالم الوجود، ومطالع ذلك الإشراق ومجالي ذلك التّجلّي ومظاهر ذلك الظّهور هم المطالع المقدّسة والحقائق الكلّيّة والكينونات الرّحمانيّة الّذين هم المرايا الحقيقيّة للذّات المقدّسة الإلهيّة، وجميع الكمالات والفيوضات والتّجلّيات لذات الحقّ ظاهرة باهرة في حقيقة المظاهر القدسيّة كالشّمس السّاطعة في المرآة الصّافية اللّطيفة بجميع كمالاتها وفيوضاتها.


ولو قيل أنّ المرايا هي مظاهر الشّمس ومطالع نيّر الإشراق، فليس المقصود من ذلك أنّ الشّمس تنزّلت من علوّ تقديسها وتجسّمت في هذه المرآة أو أنّ تلك الحقيقة غير المحدودة تحدّدت في هذا المكان المشهود، أستغفر الله عن ذلك، فهذا اعتقاد الطّائفة المجسّمة، ولكنّ جميع الأوصاف والمحامد والنّعوت راجع إلى هذه المظاهر المقدّسة، يعني أنّ كلّ ما نذكرها من الأوصاف والنّعوت والأسماء والصّفات كلّها ترجع إلى تلك المظاهر الإلهيّة، أمّا حقيقة الذّات الإلهيّة فلم يكتنهها أحد حتّى يشير إليه بإشارة أو بيان أو يذكرها بالمحامد والنّعوت، إذاً فكلّ ما تعلمه الحقيقة الإنسانيّة أو تجده من الأسماء أو تدركه من الصّفات والكمالات راجع إلى تلك المظاهر المقدّسة، وليس لها سبيل إلى أيّة جهة أخرى "السّبيل مقطوع والطّلب مردود" ولكنّنا نبيّن لحقيقة الألوهيّة أسماء وصفات ونصفها بالسّمع والبصر والقدرة والحياة والعلم، فإثبات هذه الأسماء والصّفات ليس برهاناً لكمالات الحقّ بل لنفي النّقائص عنه، لأنّنا لو ننظر في عالم الإمكان نرى أنّ الجهل نقص والعلم كمال، لهذا نقول أنّ الذّات المقدّسة الإلهيّة عليم، وأنّ العجز نقص والقدرة كمال فنقول أنّ الذّات الأقدس الإلهيّ قادر، لأنّنا لا يمكننا أن ندرك العلم والبصر والسّمع والقدرة والحياة للذّات الإلهيّة كما هي، لأنّ ذلك فوق إدراكنا حيث أنّ الأسماء والصّفات الإلهيّة عين الذّات، والذّات منزّهة عن الإدارك، ولو لم يكن عين الذّات للزم تعدّد القديم، وما به الامتياز بين الذّات والصّفات يلزم أن يكون قديماً ومحقّقاً أيضاً، وذلك يؤدّي إلى تسلسل القدماء وعدم تناهيها وهذا واضح البطلان، إذاً فجميع هذه الأوصاف والأسماء والمحامد والنّعوت راجع إلى مظهر الظّهور، وما عدا هذا من التّصوّر أو التّفكير ما هو إلاّ أوهام، إذ لا سبيل لنا إلى الغيب المنيع لهذا قيل "كلّ ما ميّزتموه بأوهامكم في أدقّ معانيكم فهو مخلوق مثلكم مردود إليكم" ومن الواضح أننا لو نريد أن نتصوّر حقيقة الألوهيّة فإنّ هذا التّصوّر محاط ونحن به محيطون، ولا شكّ أنّ المحيط أعظم من المحاط. فثبت من هذا واتّضح أنّ تصوّرنا لحقيقة الألوهيّة في غير المظاهر المقدّسة أوهام محضة، إذ ليس إلى حقيقة الألوهيّة الّتي تعبّر بالمنقطع الوجداني سبيل، وكلّ ما يدخل تحت تصوّرنا أوهام، وعلى هذا فانظر كيف أنّ طوائف العالم تطوف حول الأوهام وعبدة أصنام التّصوّر والأفكار وهم لا يعلمون، يعدّون أوهامهم حقيقة مقدّسة عن الإدراك ومنزّهة عن الإشارات ويحسبون أنفسهم من أهل التّوحيد ويعتبرون سائر الملل من عبدة الأوثان، والحال أنّ الأصنام لها وجود جماديّ محقّق، أمّا أصنام الأفكار وتصوّرات الإنسان فهي أوهام محضة بل لا وجود لها أيضاً في عالم الجماد (فاعتبروا يا أولي الأبصار)*


واعلم أنّ الصّفات الكماليّة وجلوة الفيوضات الإلهيّة وأنوار الوحي ظاهرة باهرة في جميع المظاهر المقدّسة، ولكن لكلمة الله الكبرى حضرة المسيح والاسم الأعظم حضرة بهاء الله ظهور وبروز فوق التّصوّر لأنّهما كانا حائزين لجميع كمالات المظاهر السّابقة وأحرزا فوق ذلك الكمالات الّتي تجعل سائر المظاهر الأخرى تابعة لهما، مثلاً إنّ جميع أنبياء بني إسرائيل كانوا مظاهر الوحي وكان حضرة المسيح مهبط الوحي أيضاً، ولكن أين وحي كلمة الله من إلهام إشعيا وإرميا وإيليّا.


لاحظ أنّ الأنوار عبارة عن تموّجات المادّة الأثيريّة الّتي يتأثّر بتموّجاتها عصب البصر وبها يحصل الإبصار، فنور السّراج يحصل من تموّجات المادّة الأثيريّة، ومن ضوء الشّمس تكون أيضاً تموّجات المادة الأثيريّة، ولكن أين نور الكواكب والسّراج من نور الشّمس، وإنّ للرّوح الإنسانيّ في رتبة الجنين جلوة وظهوراً وكذلك لها في رتبة الطّفولة والبلوغ والكمال إشراقاً وبروزاً، فالرّوح روح واحدة ولكنّها في الرّتبة الجنينيّة فاقدة حاسّتيّ السّمع والبصر أمّا في رتبة البلوغ والكمال فإنّها تكون في نهاية الظّهور والجلوة والإشراق، وكذلك الحبّة في بداية نبتها ورقة وهي مظهر روح النّبات وأيضاً في رتبة الثّمر مظهر تلك الرّوح، يعني أنّ تلك القوّة النّامية ظاهرة فيها بمنتهى الكمال، ولكن أين مقام الورقة من مقام الثّمر لأنّ في الثّمر تظهر مائة ألف ورقة ولو أنّ الكلّ ينمو وينشأ بروح واحدة نباتيّة.


دقّق النّظر ما أبعد البون بين فضائل وكمالات حضرة المسيح وإشراقات وتجلّيات حضرة بهاء الله وبين فضائل أنبياء بني إسرائيل مثل حزقيل وصموئيل، فمع أنّ الكلّ مظاهر الوحي إلاّ أن الفرق بينهم لا يتناهى والسّلام.



%
تقدم القراءة
- / -