الدين البهائي
"لتكن رؤيتكم عالمية ..." -- حضرة بهاء الله
"لو رزقت قليلًا من زلال المعرفة الإلهيّة لعرفت بأنَّ الحياة الحقيقيّة هي حياة القلب لا حياةُ الجسد ..." -- حضرة بهاء الله
"إن دين الله ومذهب الله يهدف إلى حفظ واتحاد واتفاق العالم والمحبة والألفة بين اهل العالم." -- حضرة بهاء الله

وجوب اتّباع تعاليم المظاهر الإلهيّة


السّؤال: هناك نفوس موفّقة للأعمال الحسنة والتماس الخير للعموم ومكارم الأخلاق والمحبّة والودّ لجميع الخلق والسّعي في الصّلح العموميّ وإغاثة الفقراء فما حاجتهم إلى التّعاليم الإلهيّة؟ وهم يرون أنفسهم في غنى عنها وما شأن هذه النّفوس؟


الجواب: اعلم أنّ هذه الأعمال والأفعال والأقوال ممدوحة مقبولة وهي شرف العالم الإنسانيّ، ولكن مجرّد هذه الأعمال لا يكفي لأنّها كجسم في نهاية اللّطافة ولكنّه بلا روح، بل إنّ السّبب الأوّل في الحياة الأبديّة والعزة السّرمديّة والنّورانيّة الكلّيّة والفوز والفلاح الحقيقيّ هو عرفان الله، ومن المعلوم أنّ معرفة الحقّ مقدّمة على كلّ معرفة، وهي أعظم فضيلة للعالم الإنسانيّ، لأنّ معرفة حقائق الأشياء في عالم الوجود تؤدّي إلى الفوائد الجسمانيّة وترقّي المدنيّة الصّوريّة، أما عرفان الله فهو سبب التّرقّي والانجذاب الرّوحانيّ والبصيرة الحقيقيّة وعلوّ العالم الإنسانيّ والمدنيّة الرّبانيّة وتعديل الأخلاق ونورانيّة الوجدان. والثّاني محبّة الله التي يضيء نورها في زجاجة القلب بعرفان الحقّ، وتنير الآفاق بأشعّتها السّاطعة، وبها يحيا الإنسان حياة ملكوتيّة، وفي الحقيقة إنّ ثمرة وجود الإنسان هي محبّة الله، ومحبّة الله هي روح الحياة وهي الفيض الأبديّ، فلو لم تكن محبّة الله لكان عالم الإمكان ظلمانيّاً، ولولا محبّة الله لكانت قلوب بني الإنسان ميّتة محرومة من الشّعور الوجدانيّ، ولولا محبّة الله لانمحت كمالات العالم الإنسانيّ وانعدمت، ولولا محبّة الله لمّا كان الارتباط الحقيقيّ في العالم الإنسانيّ، ولولا محبّة الله لفقد الاتّحاد الرّوحانيّ، ولولا محبّة الله لخمد نور وحدة العالم الإنسانيّ، ولولا محبّة الله لما تعانق الشّرق والغرب كما يتعانق الحبيبان، ولولا محبّة الله لما تبدّل الخلاف والشّقاق بالائتلاف، ولولا محبّة الله لما انتهى الافتراق إلى الاتّحاد، ولولا محبّة الله لما صار الأغيار أحباباً، وإنّ محبّة العالم الإنسانيّ إشراق من محبّة الله وجلوة من فيض موهبة الله.


ومن الواضح أنّ حقائق النّوع الإنسانيّ مختلفة، والآراء متباينة والإحساسات متفاوتة، وهذا التّفاوت في الآراء والأفكار والإدراكات والإحساسات بين أفراد النّوع الإنسانيّ منبعث من اللّوازم الذّاتيّة، لأنّ التّفاوت في مراتب وجود الكائنات من لوازم الوجود الذي ينحلّ إلى صور غير متناهية، إذاً نحتاج إلى قوّة كلّيّة تكون غالبة على احساسات الجميع وآرائهم وأفكارهم، ولا يبقى لهذا الاختلاف حكم بفضل تلك القوّة التي تجمع الأفراد عامّة تحت نفوذ وحدة العالم الإنسانيّ، ومن الواضح المشهود أنّ أعظم قوّة في العالم الإنسانيّ هي محبّة الله وهي الّتي تدخل الملل المختلفة تحت ظلّ سرادق الوحدة، وتجعل الشّعوب والقبائل المتضادّة المتباغضة في نهاية المحبّة والائتلاف، فانظروا كم من الأمم والأجناس والقبائل والشّعوب المختلفة قد دخلوا في ظلّ كلمة الله بعد حضرة المسيح بقوّة محبّة الله، وزالت وتلاشت الفوارق والاختلافات التي مضى على وجودها ألف سنة زوالاً كلّيّاً، وانعدمت الأوهام الجنسيّة والوطنيّة، ووجد الاتّحاد الرّوحيّ والوجدانيّ وصاروا جميعاً مسيحيّين حقيقيّين روحانيّين.


وثالث مناقب العالم الإنسانيّ نيّة الخير وهي أساس الأعمال الخيريّة وقد رجّح بعض المحقّقين النّية على العمل، لأنّ النّية الخيريّة نور محض وهي منزّهة مقدّسة عن شوائب الغرض والمكر والخداع، فمن الممكن أن يعمل الإنسان عملاً مبروراً بحسب الظّاهر ولكنّه يكون مبنيّاً على مصالح شخصيّة مثلاً يعتني القصّاب بخروف ويحفظه ولكن عمل القصّاب المبرور هذا مبنيّ على غرض الانتفاع، ونتيجة هذه الحضانة ذبح الخروف المظلوم، فكم من أعمال كثيرة مبرورة باعثها الأغراض الذّاتيّة، أما نيّة الخير فمقدّسة عن هذه الشّوائب.


وخلاصة القول أنّه بعد عرفان الله وظهور محبّة الله وحصول الانجذاب الوجدانيّ ونيّة الخير تكون الأعمال المبرورة تامّة كاملة، وإلاّ فالأعمال الخيريّة وإن كانت ممدوحة إلاّ أنّها تكون ناقصة إذا لم تستند بعرفان الله والمحبة الرّبانيّة والنّية الصّادقة، مثلاً يجب أن يكون الوجود الإنسانيّ جامعاً للكمالات حتّى يصير كاملاً، فالبصر محبوب جدّاً ومقبول ولكنّه يجب أن يؤيّد بالسّمع، والسّمع مقبول جدّاً ولكنّه يجب أن يكون مؤيّداً بالقوّة النّاطقة، والقوّة النّاطقة مقبولة جدّاً ولكن يجب أن تكون مؤيّدة بالقوّة العاقلة، وقس على ذلك سائر قوى الإنسان وأعضائه وأركانه، وحينما تجتمع هذه القوى والحواس والأعضاء والأجزاء يصير الإنسان كاملاً.


والآن يوجد في العالم بعض من النّفوس يريدون في الحقيقة خير العموم ويقومون بمعاونة المظلومين وإعانة الفقراء بقدر استطاعتهم مفتونين بحبّ الصّلح وراحة العموم، فهؤلاء وإن كانوا كاملين من هذه الجهة ولكنّهم ناقصون بحرمانهم من عرفان الله ومحبّته.


فقد كتب جالينوس الحكيم في كتاب شرح الرّسالة الأفلاطونيّة في السّياسة المدنيّة "إنّ العقائد الدّينيّة لها مدخل عظيم في المدنيّة الصّحيحة والبرهان على ذلك أنّ جمهور النّاس لا يقدرون على إدراك سياق الأقوال البرهانيّة فهم من هذه الوجهة محتاجون إلى الكلمات الرّمزيّة من الإخبار بالثّواب والعقاب في الدّار الآخرة، والدّليل على ثبوت هذا المطلب ما نشاهده اليوم من القوم الذين يدعون بالنّصارى المعتقدين بالثّواب والعقاب حيث يصدر عن مؤمني هذه الطّائفة أفعال حسنة كأفعال الفلاسفة الحقيقيّين كما أنّنا جميعاً نرى عياناً أنّهم لا يخشون الموت ويعدّون من المتفلسفين الحقيقيّين لكثرة حرصهم واشتياقهم إلى العدل والإنصاف".


فانظروا الآن كيف أنّ الصّدق وتضحية الرّوح والإحساس الرّوحانيّ والنّوايا الصّادقة والأعمال الخيريّة أوصلت المؤمنين بالمسيح إلى درجة أنّ الفيلسوف جالينوس الحكيم – مع أنّه لم يكن من ملّة المسيح – شهد بمكارم أخلاق هؤلاء المؤمنين وكمالاتهم حيث قال إنّ هذه النّفوس فلاسفة حقيقيّون، فهذه الفضائل والخصال لا تحصل بمجرّد الأعمال الخيريّة، ولو كان المقصود مجرّد حصول الخير وصدوره فهذا السّراج أيضاً مضيء الآن وينير هذا المكان ولا شكّ أنّ هذا الضّياء خير مع هذا إنّك لا تحمد هذا السّراج ولا هذه الشّمس التي تربّي جميع الكائنات الأرضيّة وبحرارتها تنشأ وتنمو، فأيّ خير أعظم من هذا، ولكن لمّا كان هذا الخير غير صادر عن نيّة الخير ومحبّة الله وعرفانه فلا ظهور ولا بروز له أبداً، أمّا لو قدّم شخص من بني الإنسان لآخر قدحاً من الماء فإنّه يشكره ويثني عليه، غير أنّ الإنسان الّذي لا يفكر يقول إنّ هذه الشّمس التي تضيء العالم والتي ظهر منها هذا الفيض العظيم تستحقّ التّقديس والتّمجيد فلم لا نمدحها ولا نشكرها ثم نمجّد ونمدح الإنسان الذي قام بعمل خيريّ محدود؟ ولكنّنا إذا نظرنا بعين الحقيقة نجد أنّ صدور هذا العمل الخيريّ الجزئيّ من الإنسان منبعث عن الإحساس الوجدانيّ ولهذا استحقّ التّمجيد، ولكنّ نور الشّمس وحرارتها ليسا منبعثين عن إحساس ووجدان لهذا لا تستحقّ مدحاً وثناءً ولا شكراً وامتناناً وكذلك النّفوس الّتي تصدر عنها الأعمال الخيريّة وإن كانت ممدوحة غير أنّها ما لم تكن منبعثة عن عرفان الحقّ ومحبّته فإنّها لا شكّ ناقصة، وفضلاً عن هذا إذا نظرت بعين الإنصاف ترى أنّ هذه الأعمال الخيريّة التي تصدر من النّفوس عامّة منبعث أصلها أيضاً من التّعاليم الإلهيّة أي دلّ النّفوس على هذا أنبياء السّلف وبيّنوا لهم محسّناتها وشرحوا لهم تأثيراتها الحسنة فانتشرت هذه التّعاليم بين البشر ووصلت إلى هذه النّفوس بالتّسلسل والتّتابع ووجّهت القلوب إلى هذه الكمالات، ولمّا رأى النّاس أنّ هذه الأعمال مستحسنة وتسبّب السّعادة والهناء في العالم الإنسانيّ فمن أجل هذا اتّبعوها، إذاً فهي أيضاً من التّعاليم الإلهيّة ولكن يلزم لدركها قليل من الإنصاف لا المحاجّة والمجادلة.


الحمد لله قد ذهبت إلى إيران ورأيت كيف أصبح الإيرانيّون محبّين للنّوع الإنسانيّ من نفحات قدس بهاء الله وكانوا يطعنون بأسنّة ألسنهم كلّ نفس يصادفونها من سائر الطّوائف وكانوا في نهاية العداوة والبغض والحقد حتّى كانوا يعتقدون بنجاستهم وكانوا يحرقون التّوراة والإنجيل ويغسلون أيديهم إذا لامست هذين الكتابين، أمّا الآن فإنّهم يرتّلون في مجالسهم ومحافلهم بالمناسبة مضامين هذين الكتابين ويشرحون معاني رموزها ويفسّرونها ويحتضنون أعداءهم ويحنّون على الذّئاب الضّارية كأنّهم غزلان صحارى محبّة الله، وقد رأيت آداب هؤلاء وسلوكهم وسمعت بأخلاق سائر الإيرانيّين، فهل بغير محبّة الله تطوّرت هذه الأخلاق واعتدلت الأعمال والأقوال لا والله، فلو كنّا نريد ترويج هذه الأخلاق والأطوار بالمعارف والعلوم لمضت ألف سنة دون أن يحصل هذا التّطور بين العموم أو ينتشر ذلك بينهم، والحال أنّها حصلت بمحبّة الله في نهاية السّهولة فاعتبروا يا أولي الألباب.



%
تقدم القراءة
- / -