الدين البهائي
"لتكن رؤيتكم عالمية ..." -- حضرة بهاء الله
"لو رزقت قليلًا من زلال المعرفة الإلهيّة لعرفت بأنَّ الحياة الحقيقيّة هي حياة القلب لا حياةُ الجسد ..." -- حضرة بهاء الله
"إن دين الله ومذهب الله يهدف إلى حفظ واتحاد واتفاق العالم والمحبة والألفة بين اهل العالم." -- حضرة بهاء الله

حضرة بهاء الله
صاحب الرسالة الإلهية (١٨١٧-١٨٩٢)

حياته، اضطهاده ومنفاه

إنَّه أبرز شخصية نبيلة مرموقة في قيادة البابيين حفظتها يد القدرة الإلهية من سيل المذابح التي ارتكبت خلال الأعوام ١٨٤٨ – ١٨٥٣م وهو الميرزا حسين علي.[۱] عائلته من طبقة الأعيان من العائلات الفارسية القديمة والعريقة المالكة لأراض واسعة وعقارات متعددة في منطقة نور من إقليم مازندران.[۲] يعتبر الميرزا حسين علي أحد أوائل المؤمنين بدعوة الباب بعدما تسلَّم عام ١٨٤٤م وفي منزل عائلته في طهران، رسالة من حضرته حملها له الملا حسين. ومما رواه الملا حسين أصبح واضحاً بأنَّ إبلاغ الأمر للميرزا حسين علي جاء بناءً على تعليمات خاصة من حضرة الباب. وفي واقع الأمر فإنَّ الباب كان قد أجَّل رحلته إلى مكة المكرمة، والتي أعلن هناك دعوته للمرة الأولى، إلى حين استلامه رسالة الملا حسين يخبره فيها عن نتيجة لقائه مع الميرزا حسين علي. آمن بالدين الجديد أربعة أخوة للميرزا حسين علي بما فيهم أخ غير شقيق أصغر سنّاً يدعى الميرزا يحيى. ونظراً لأنَّ غالبية أتباع حضرة الباب جاءوا من طبقات رجال الدين والتجار والقرويين فإنَّ إيمان بعض أفراد عائلة مؤثرة من طبقة الحكام يعتبر تطوراً هاماً له مغزاه.


خلال الثلاث إلى الأربع سنوات الأولى من إيمان الميرزا حسين علي الذي أصبح فيها مبلغاً نشطاً للدين الجديد عملت مكانته الاجتماعية على حمايته ضد الهجوم عليه إلى حد ما. كما أنَّ سمعته الطيبة وشخصيته المحترمة ونزاهته في الأوساط الحكومية، التي كانت الرشوة منتشرة فيها وأصبحت عرفاً، كانت السبب في حفظه وحمايته.


شغل أفراد أسرته مناصب سياسية هامة في الدولة لعدة أجيال. فقد كان والده الميرزا عباس وزير دولة لشئون منطقة مازندران. ولد الميرزا حسين علي في ١٢ نوفمبر (تشرين الثاني) من عام ١٨١٧م ولم يتجاوز عمره الثانية والعشرين عندما توفى والده عام ١٨٣٩م وقد عرضت عليه وظيفة والده في الحكومة ولكنه رفضها رغم أنَّها كانت مغرية مالياً مما أثار دهشة وتعجب عائلته والمنتسبين له. ولكن بدلاً من ذلك قضى السنين التالية في إدارة أملاك العائلة وتدريب وتربية شبابها والمشاركة بشكل واسع في الأعمال الخيرية مما حدا بأهالي المنطقة أن يدعوه "أبو الفقراء".


ومنذ أن أصبح الميرزا حسين علي أحد أتباع حضرة الباب، وعمره سبع وعشرون سنة نذر جلّ طاقته لخدمة هذا الأمر المبارك اليافع الذي بدأ يواجه أولى حملات الاضطهاد والمعاناة. وعليه، قام الميرزا حسين علي بأسفاره الواسعة ونجح في إيمان العديد من النفوس المقتدرة والنافذة بما فيهم عدد من أقربائه وعائلته، كما مد يد العون المالي إلى العديد من الأنشطة التبليغية للبابيين في مناطق متفرقة من البلاد.


ومنذ بداية إيمان الميرزا حسين علي شرع بمراسلة حضرة الباب وقد استمرت هذه المراسلة حتى استشهاد الباب في عام ١٨٥٠م. وبهذه المراسلة ومن علاقته الحميمة مع رواد الدعوة البابية أمثال وحيد والقدوس والملا حسين والطاهرة أخذت النظرة إليه تتزايد بين الأتباع على أنَّه المرشد والموجِّه لهم في فهمهم لتعاليم الديانة البابية. إنَّ تأثير الميرزا حسين علي كزعيم بابي بلغ ذروته في مؤتمر بدشت عام ١٨٤٨م عندما قام بالإعداد له شخصياً وتوجيهه بصورة غير مباشرة. وقد أظهر المؤتمر بصورة مثيرة طبيعة تعاليم حضرة الباب التي تدعو إلى التغيير الكامل.[۳]


فإلى جانب الإقرار باليوم الإلهي الجديد الذي بزغ نور فجره، هناك أمر هام أخذ نصيبه من مؤتمر بدشت وكانت له أهميته ومغزاه بإقدام الميرزا حسين علي على منح كل من حضر المؤتمر من الواحد والثمانين شخصاً لقباً جديداً يتعلق بالصفات الروحانية التي كان يتحلى بها صاحبه. وفي نفس المكان، أي بدشت، منحت قرة العين الشاعرة العظمية من منطقة قزوين لقب الطاهرة، وهذا اللقب أسكت الذين اعترضوا على ظهورها في ذلك المؤتمر دون حجاب أو نقاب. أما الميرزا حسين علي فقد اختار لنفسه لقب البهاء. بعد انتهاء المؤتمر بفترة وجيزة صادق ووافق حضرة الباب على جميع الألقاب التي أعطيت للمشاركين في ذلك المؤتمر التاريخي حيث جاءت هذه الموافقة في رسائل بعث بها حضرته إلى المشاركين والتي فيها دعاهم بالألقاب التي منحت لهم من قبل الميرزا حسين علي في المؤتمر. وإلى الميرزا حسين علي أرسل الباب توقيعاً فريداً من نوعه كتبه على شكل نجمة تحتوى على أكثر من ثلاثمائة آية مختصرة من مشتقات كلمة "بهاء" بما فيها كلمة "بهاء الله".


يعتبر فن الخط من المهارات الثقافية العالية عند أهل الثقافة والعلم في بلاد فارس كما أنَّ تلك المخطوطة اعتبرت تحفة فنية رائعة ولا يمكن لأي خطاط محترف أن يكتب في مثل ذلك "الجمال والتعقيد". كما قال أحد الكتاب "إنَّها تبدو من على بعد وكأنَّها حبـر منتشر على ورق". ومنذ ذلك الوقت عرف الميرزا حسين علي بين البابيين وفي التاريخ باسم بهاء الله.


ارتفعت موجة جديدة من العنف نتيجة لمؤتمر بدشت كما أنَّ آثار هذا المؤتمر خلقت وضعاً كانت نتيجته هو الاعتداء على كل مؤمن بهذا الدين الجديد. وعندما تدخّل حضرة بهاء الله لحماية الطاهرة وبعض اتباعها الذين ألقي القبض عليهم بعد المؤتمر تمَّ القبض على حضرته وزجّ به في السجن ثمَّ ضرب بالفلقة. وبعد فترة من الزمن عانى حضرته نفس الظلم والأذى عندما أُلقي القبض عليه أثناء طريقه للقاء جناب القدوس والملا حسين في قلعة الشيخ طبرسي. ولكن عندما كان حرّاً بذل جهداً كبيراً في إقناع الأصدقاء والأقارب الذين هم في السلطة (الذين اعترضوا على أنشطته) بأنَّ البابيين هم أناس مسالمون ومطيعون للقوانين. حذر حضرة بهاء الله رجال السلطة بأنَّهم إن لم يبادروا في تحمل مسئولياتهم في وقف الأذى والاضطهاد الذي يمارسه رجال الدين ضد البابيين فإنَّ الدولة ستدخل في دوامة العنف والفوضى وسيختل النظام العام.


وبعد محاولة اغتيال الشاه التي قام بها شابان بابيان في صيف عام ١٨٥٢م ثبت أنَّ هذا التحذير كان صحيحاً وفي محلِّه. فقد ألقي القبض على حضرة بهاء الله وعلى بعض رواد البابية وأُخذوا إلى طهران ووضعوا فـي سجن مظلم شنيع يعرف "بسياه چال" أي الحفرة السوداء. وقد وصف بأنَّه "الزنزانة المظلمة والحفرة الكريهة التي كانت يوماً ما مخزناً لمياه حمام عام بطهران."[٤]


قضى حضرة بهاء الله أربعة أشهر في سجن سياه چال ثارت خلالها موجة شديدة من العنف والاضطهاد ضد البابيين في شتى بقاع بلاد فارس. أما السجناء في سياه چال فكان يهددهم الموت الحتمي. ففي كل يوم كان يأتي الجلادون وينزلون إلى داخل السجن ويختارون أحد الأفراد لإعدامه. وفي بعض الحالات يقومون بوضع قطعة من الخشب داخل فم الضحية وبواسطة المطرقة يتم إدخالها حتى حنجرته، وقد يُلقى بجسد الميت داخل السجن لعدة ساعات بل لعدة أيام بعد أن يربطوه بأولئك الذين مازالوا أحياء داخل السجن.


من بين ضحايا سجن سياه چال الذين خلد التاريخ البهائي اسمهم شاب اسمه سليمان خان، وهو أحد فرسان الحرس الملكي سابقاً. حيث قام سابقاً بإنقاذ رفات حضرة الباب بعد إعدامه ووضعه على حافة خندق في مدينة تبريز مخاطراً في ذلك بحياته. وعندما حان دور إعدامه حفر الجلادون في جسمه بالسكاكين الحادة عدة حفر ووضعوا في كل حفرة شمعة مضيئة. وبهذا الشكل سحب في الشوارع متوجهاً نحو مصيره المحتوم. إنَّ عرض هذا الأسلوب في التعذيب والقتل يعتبر جزءاً من عادات الفرس الذين يهتمون بشكل ومظاهر الأمور، وإنَّها لشهادة على امتزاج المشاعر الروحانية بالاحساسات الرقيقة الإنسانية بأن جعل سليمان خان يسير في شوارع طهران وهو على هذه الحالة مبتسماً للناس ويقرأ أبياتاً من الشعر لشعراء فرس عظام. وعندما سئل لماذا لا ترقص إن كنت سعيداً لهذه الدرجة؟ قام سليمان خان بالاستدارة حول نفسه وهو يرقص بكل عظمة وجلال كما يفعل أهل الصوفية على الطريقة المولوية.


هذه المشاهد الدرامية المهّيجة حول الموت شدّت إليها حفيظة خيال العلماء والفنانين في الغرب وعلى اختلافهم أمثال: كونت دو غوبينو، سارا برنارد، لوي تولستوي، وأرنست رنان فأسَرَ مشاعرهم ذلك التاريخ المفجع الدامي لحضرة الباب وأصحابه الأبطال. تعرف إدوارد براون على هذه الروايات والأمر البابي لأول مرة من خلال مؤلفات كونت دو غوبينو ومن ثمَّ كرَّس جزءاً كبيراً من حياته لدراسة الدين البابي والبهائي. وصف براون هؤلاء الشهداء الشباب بما يلي:


"إنَّ حياة هؤلاء النفوس ومماتهم يعني بأنَّ آمالهم لا تحبط وعشقهم لا يفتر وثبوتهم لن يتزعزع وهي سمات لهذه الدعوة الرائعة التي لها ميزاتها الخاصة. وبغض النظر عما يمكن أن تحمله هذه العقيدة التي ضحى من أجلها المئات من الناس فإنَّهم وجدوا شيئاً جعلهم مستعدين لترك جميع ما في السموات والأرض وأن يسيروا تحت أشعة الشمس والمطر حفاة عراة بأمر جلاديهم ثمَّ ينظروا ويشاهدوا ما أتت به سنوات عمرهم. إنَّه ليس أمراً هيناً أن يطيق الإنسان ما تحملته تلك النفوس وبالتأكيد فإنَّ ما تنفق الروح لأجله جدير بالفهم والدراسة. سوف لن أتحدث عن النفوذ العظيم الذي سيتمتع به الدين البابي مستقبلاً على ما أعتقد، أو إلى الحياة الجديدة التي سيبعثها الدين في الشعوب الميتة، لأنَّه سواء نجحت هذه الدعوة أم لم تنجح فأنَّ البسالة الفذة للشهداء البابيين أمر أبدي ولا يمكن محوه… ولكن ما لم استطع نقله لكم هو شغف ووله هذه النفوس ونفوذهم الذي لا يوصف وصفاتهم الأخرى المؤثرة على أي شخص يقابلهم فعلاً. وعليكم أن تأخذوا بكلمتي...".[٥]


نجا حضرة بهاء الله بأعجوبة من سلسلة الاضطهادات الشديدة التي تعرض لها البابيون، ولم ترغب السلطات الحكومية في أن تفرج عنه لأنَّها كانت على علم بالدور الهام والمؤثر الذي يؤديه في الجامعة البابية. ونظراً للوضع الاجتماعي لعائلة حضرة بهاء الله والتدخل الشخصي للسفير الروسـي الأمير دولكروكوف يصبح من غير الحكمة إعدامه دون محاكمة. ولكن المحاكمة كانت مستحيلة حيث اعترف الذين حاولوا اغتيال الشاه أثناء محاكمتهم، وبحضور مندوب عن الحكومة الروسية، بأنَّ رموز الحركة البابية بما فيهم حضرة بهاء الله بريئون من الاشتراك في هذه المحاولة.[٦]


استطاع أخيراً رئيس الوزراء الجديد، الذي كان من أقرباء حضرة بهاء الله، أن يقنع أعضاء العائلة الحاكمة بعدم التعرض لحضرته رغم أنَّهم كانوا يرغبون في إعدامه وأنَّه من الأفضل نفيه من بلاد فارس[٧] ولكن قبل أن يعلن ذلك صادر الشاه أملاك حضرة بهاء الله ونهب منزله في طهران وسوِّيت قريته بالأرض كما أن أعماله الفنية والخطية وقعت في أيدي رجال الدولة (بما فيهم رئيس الوزراء نفسه.) وهو على حال كهذه، ومجرد من ممتلكاته تماماً وواهن الجسم من قسوة السجن والأذى في سجن سياه چال، نفي حضرته من وطنه دون محاكمة أو مساعدة. والذين قابلوه تملكتهم الدهشة من ثقته العالية وقدرته رغم كل ما عاناه من آلام ومصائب. وفي الواقع ففي سجن سياه چال المظلم هذا وقع أهم حدث في تاريخ البابية والبهائية. فقد نزل الوحي الإلهي على حضرة بهاء الله وعرَّفه بأنه "من يظهره الله". وصف حضرته نزول هذا الوحي في ذلك السجن في أحد الألواح بما يلي:


"وفي ذات ليلة أصغيت إلى هذه الكلمة العليا في عالم الرؤيا من جميع الجهات، إننا ننصرك بك وبقلمك لا تحزن عما ورد عليك ولا تخف إنَّك من الآمنين سوف يبعث الله كنوز الأرض وهم رجال ينصرونك بك وباسمك الذي به أحيى الله أفئدة العارفين..." وبالرغم من أنَّ النوم كان عزيز المنال من وطأة السلاسل والروائح المنتنة حين كنت رهين سجن أرض الطاء (طهران) ألا أنني كنت في هجعاتي اليسيرة أحس كأنَّ شيئا ما يتدفق من أعلى رأسي وينحدر على صدري كأنَّه النهر العظيم ينحدر من قلة جبل باذخ رفيع إلى الأرض فتلتهب جميع الأعضاء لذلك. في ذلك الحين كان اللسان يرتّل ما لا يقوى على الإصغاء إليه أحد."[٨] وعليه فإنَّ ظهور حضرة بهاء الله هو الهدف من الدور البابي والحقيقة الساطعة للذين آمنوا بحضرة الباب. هناك شواهد عدَّة بأنَّ حضرة الباب منذ البداية اعتبر ظهوره بأنَّه الطريق إلى ظهور حضرة بهاء الله. وقد أشار إلى ذلك إلى بعـض أصحابه وذكر في فقرة من كتابـه "البيان":


"طوبى لمن ينظر إلى نظم بهاء الله ويشكر ربه فإنَّه يظهـر ولا مرّد له من عند الله في البيان."[٩] بعدما قضى حضرة بهاء الله أربعة أشهر في سجن سياه چال أفرج عنه بنفس الطريقة العشوائية التي زج به في السجن. وقد تمَّ إبلاغ حضرته بأنَّه طبقاً لأمر الشاه الرسمي يجب أبعاده مع عائلته مع من يرغب في الانضمام إليهم. ومن الأهمية بمكان أن نعلم أنَّه لم يختر تلك المناسبة للإعلان عن رسالته لأصحابه. كما عرض عليه اللجوء إلى روسيا ولكنه اختار مدينة بغداد التي تقع اليوم في العراق، وكانت آنذاك في إقليم تابع للحكومة العثمانية. وبالتدريج وخلال ثلاث سنوات التفت حوله مجموعة من البابيين بالإضافة إلى أعضاء من عائلته الذين رافقوه إلى المنفى. من ضمن أعضاء عائلته الذين جاءوا إلى العراق بعد فترة قصيرة من وصول حضرته أخوه غير الشقيق ميرزا يحيى حيث وصل إلى العراق متنكراً لينضم إلى العائلة في عام ١٨٥٣م. وكان هذا الشقيـق فيما بعد مصدر مصاعب ومعارضة جديدة برزت أمام حضرة بهاء الله بشكل غير متوقع.


إنَّ قصة الميرزا يحيى نرى فيها صنوف النفاق والخداع وتثير مشاعر الحزن والشفقة في آن واحد. فقد كانت أعماله تهديداً مؤلماً لرسالة بهاء الله واستمر تأثيرها يشعل نار الهجوم على الجامعة البهائية حتى يومنا هذا. كان الميرزا يحيى يصغر حضرة بهاء الله بثلاث عشرة سنة، فاعتنى حضرته بتربيته. ونظراً لبراعته في الخط فقد عمل كسكرتير شخصي لحضرة بهاء الله. وقد وصفه من عرفه من الناس بأنَّه إنسان جبان وسريع التأثر ويميل بسهولة للشخصيات القوية. انضم الميرزا يحيى إلى شقيقه بكل شغف في الإيمان بالدين البابي كما صاحب حضرة بهاء الله في بعض رحلاته الأوليّة.


كان الميرزا يحيى لطيف المعشر في طبيعته سهل الحديث ونظراً لقرابته لحضرة بهاء الله ولموقع عائلته الاجتماعية فقد كان محل احترام البابيين. وفي نفس الوقت الذي انعقد فيه مؤتمر بدشت كتب حضرة الباب رسالة بالتشاور مع حضرة بهاء الله وأحد رواد الحركة البابية يرشح فيها الميرزا يحيى رئيساً شكلياً للبابيين بعد وفاة حضرته. وإذا تأملنا الأحداث الماضية يبدو واضحاً بأنَّ هدف هذا الترشيح هو توفير قناة يستطيع حضرة بهاء الله بواسطتها أن يستمر في إدارة شئون الدين الجديد متجّنباً كل خطر يحوم حول ذلك التعيين الجديد وموفراً له الحماية لمقامه العظيم الذي أحرزه.[١٠] وما أن عين الميرزا يحيى لهذا المنصب الشكلي حتى تعرض لأخطار شخصية بسيطـة فكان أن انعزل في أغلب الأوقات مقيماً في أملاك العائلـة في الشمال، إلاّ أنَّه غادرها هارباً عندما وصلت المشاكل والأحداث إلى تلك المنطقة.[۱۱]


وما كادت المجموعة المبعدة في العراق أن تستقر بعد حتى انجرف الميرزا يحيى بأفكار طالب علوم دينية يدعى سيد محمد. هذا الأخير الذي يبدو أنَّه أراد أن يكون مرجعاً دينياً للبابيين، عمل على تحريض الميرزا يحيى على أن يخرج على وصاية أخيه الأكبر ويأخذ زعامة الدين البابي لنفسه.[١٢] تردد الميرزا يحيى في قبول هذا الأمر لفترة من الزمن ولكنَّه أخيراً انصاع واستطاع أن يفصل نفسه عن حضرة بهاء الله مدَّعياً لنفسه حق خلافة حضرة الباب الشهيد.


إنَّ رد فعل حضرة بهاء الله لما قام به أخوه يعكـس لنا نفاذ بصيـرته المتأصلة في شخصيته. فبدلاً من أن يخوض خلافاً مع أخيه حول هذا الموضوع، والذي قد يؤثر سلباً على وحدة الجامعة البابية وكيانها والتي كانت ضعيفة آنذاك، فقد اختار حضرة بهاء الله لنفسه أن يترك كل ذلك وأن يغادر إلى جبال السليمانية قرب منطقة كردستان دون سابق إنذار. ولمدة سنتين انعزل لنفسه في هذه الجبال ولم يتصل بالبابيين. فهذا النفي الذي فرضه على نفسه إلى فيافي كردستان يذكرنا بما حدث لحياة مؤسسي الأديان العظيمة. وكما بدا واضحاً بعد ذلك فإنَّ هذه الفترة كانت له فترة إبداع وعطاء. فقد أخذت دعوته تأخذ شكلاً محدداً وواضحاً في بصيرته وقد تجلى ذلك في الأدعية والمناجاة والأشعار التي نزلت من يراعه خلال أشهر البعد ومازالت بعض هذه الآثار المباركة موجودة بلغتها الأصلية الفارسية، وفيها بعض التلميحات حول رسالته للعالم.


عندما كان حضرة بهاء الله في جبال السليمانية تركت أمور البابيين في يد الميرزا يحيى الذي كان يساعده معلمه الناصح سيد محمد، مما نتج عن ذلك فوضى واضطراب في الجامعة البابية المنفية. وخلال أقل من أربعة وعشرين شهراً ادَّعت بعض النفوس الضعيفة اليائسة مقامات ومناصب متعددة وحاولت جاهدة اغتصاب رئاسة البابيين. أمَّا الميرزا يحيى فقد انعزل بعيداً تاركاً سيد محمد ليجيب عن الأسئلة الدينية التي كانت تثار قدر استطاعته. إنَّ ذلك اللهاث وراء القيادة قد أظهر عدم كفاءته لمنصب تاق له بشدة، وهو درس وعاه أغلب الاتباع البابيين.


ومع تدهور الأوضاع بسرعة سعى بعض المنفيين جاهدين إلى معرفة مكان حضرة بهاء الله حتى يرجونه في الرجوع. وأخيراً استطاع أحد الأحباء المخلصين أن يعرف مكان حضرته وذلك نتيجة الإشاعات التي سمعها حول وجود شخص جليل مقدس يعيش في الجبال. وحتى الميرزا يحيى انضم إلى باقي أفراد العائلة وباقي البابيين في الطلب من حضرة بهاء الله بالعودة لتولي زمام هداية وتوجيه الجامعة. وفي التاسع عشر من شهر مارس (آذار) من عام ١٨٥٦م رجـع حضرته إلى بغداد.


شهدت السنوات السبع التالية تغييراً كبيراً في مقدرات الجامعة البابية حيث استطاع حضرة بهاء الله من خلال القدوة الحسنة والتشجيع والانضباط الشديدين، من حمل البابيين على التمسك بالمبادئ الأخلاقية والروحانية التي كانت سائدة في زمن حضرة الباب. أمَّا الميرزا يحيى فقد استمر في انزوائه، وذاع صيت حضرة بهاء الله في بغداد والمناطق المحيطة بها باعتباره معلماً روحياً، فزاره الأمراء والعلماء ورجال الدين، والمسئولون في الحكومة أيضاً وعدد كبير من رجال مشهورين في بلاد فارس.


وفي بغداد كتب حضرة بهاء الله "كتاب الإيقان" الذي استعرض فيه الخطة الشاملة الإلهية لخلاص البشرية. يحتوي هذا الكتاب على تعاليم حضرته الخاصة بطبيعة الألوهية ووظيفة مظاهر الظهـور ومطالع الوحي والتكامل الروحي للجنس البشـري وينتهي بإثبات أحقية دعوته. واعتبر كتاب الإيقان فيما بعد أحد الآثار الهامة والمؤثرة لحضرة بهاء الله وقاعدة للأعمال الهادفة إلى نشر العديد من المبادئ والمفاهيم البهائية.


ومع تعاظم نفوذ حضرة بهاء الله تزايد الخوف والشك في مخيلة شاه إيران وحكومته والذي انتقل هذا الخوف بدوره إلى الحكومة العثمانية. ثمَّ فجأة ودون سابق إنذار، وفي شهر أبريل (نيسان) من عام ١٨٦٣م، تمَّ إبلاغ حضرة بهاء الله بأنَّه طبقاً لطلب من الحكومة الإيرانية يجب إبعاد المنفيين عن حدود موطنهم الأصلي، ولهذا عليهم أن يغادروا إلى مدينة القسطنطينية (إستنبول حالياً) للإقامة فيها.


وبينما كان حضرة بهاء الله يعد نفسه للرحيل انتقل بصورة مؤقتة للسكن في حديقة تقع في جزيرة على ضفة نهر دجلة والتي سماها "بحديقة الرضوان". وفيها أعلن إلى بعض اتباعه القلائل بأنَّه "من يظهره الله" وأنَّه المبعوث السماوي العالمي الذي وعد بظهوره حضرة الباب وأشير إليه في متون الكتب المقدسة السالفة. أشار التاريخ البهائي إلى حوادث سجن سياه چال في طهران بأنَّها بداية لبزوغ شمس دعوته. وفي حديقة الرضوان أعلنت دعوته بكل وضوح للآخرين وبذلك تغير التاريخ البابي إلى الأبد. هذا الحدث يحتفل به البهائيون في شتى بقاع العالم اليوم باعتباره "سلطان الأعياد" أمَّا آثار ونفوذ هذا الإعلان فيمكن الإحساس به بعد الإعلان العلني لدعوته بأربع سنوات.[١٣]


وصل موكب حضرة بهاء الله إلى عاصمة الدولة العثمانية يوم ١٦ أغسطس (آب) من عام ١٨٦٣م بعد رحلة استغرقت ثلاثة أشهر حيث أقام فيها مدة قصيرة من الزمن. أما العلاقات بين الخليفة العثماني وشاه إيران فقد توترت نتيجة للحروب القصيرة والخدع المستمرة والتجاوزات الحدودية الدائمة. وقد خاف شاه إيران من أن يكون البابيون المنفيون أداة في يد السياسة التركية نتيجة لوجود اتصالات لهم في إيران، ولهذا تحفظت الحكومة الإيرانية من إمكانية استقرار هؤلاء المنفيين في عاصمة الخلافة العثمانية. وعليه بدأ السفير الإيراني ميرزا حسين خان بممارسة الضغوط على السلطات التركية لإبعاد البابيين إلى منطقة أبعد من أراضي الإمبراطورية.[١٤] كما ضاعف ضغوطه مع التحذير بأنَّ البابيين هم أعداء للأنظمة القائمة وخطر يهدد مجتمعاً مختلطاً وغير مستقر مثل الإمبراطورية العثمانية. وقد نجح في مسعاه حيث قامت الحكومة العثمانية في أوائل شهر ديسمبر عام ١٨٦٣م بنفي حضرة بهاء الله وعائلته ومرافقيه بصورة مفاجئة ودون سابق إنذار إلى مدينة أدرنة التي تقع في الجزء الأوربي من تركيا.


وفي أدرنة بدأت مرحلة جديدة من التاريخ البهائي. فالشخصية المؤثرة لبهاء الله التي جذبت العديد من زائريه والتغيير الكبير الذي أوجده بين أتباعه في بغداد والمراسلات الواسعة والنفوذ الكبير الذي كان لحضرته مع الجالية البابية المضطهدة في بلاد فارس، أدى إلى أنْ يكون حضرته محوراً رئيسياً للدين البابي. كما أنَّ إعلان دعوته في حديقة الرضوان كان يناقش بشكل علني بين البابيين. وما أن شعر حضرة بهاء الله بأنَّ الجامعة البابية قد وصلت إلى درجة عالية من التقبل حتى قرر بأنَّ الوقت قد حان لإعلان أمره بشكل عام.


الخطوة الأولى في هذا الإعلان هو أن يتعرف الميرزا يحيى الوصي الشكلي للدعوة البابية على طبيعة دعوة حضرة بهاء الله. ولهذا أنزل حضرته "سورة الأمر"[۱٥] وفيها أعلن دعوته بأنَّه "من يظهره الله" وفيها دعا الميرزا يحيى أن يؤمن به ويؤيده تنفيذاً لما أمره به حضرة الباب بكل صراحة، إلاَّ أنَّ هذه الدعوة لم تستجب بأي حال. وبعد فترة قصيرة من وصول المنفيين إلى أدرنة بدأ الميرزا يحيى بمساعده وتشجيع سيد محمد يحيك المؤامرات والدسائس للاستيلاء على المنصب الذي كان يدَّعي زوراً أنَّه فقده. وعندما فشل في ذلك حاول اغتيال شقيقه بهاء الله مرتين، وبعد فترة قصيرة من المحاولة الثانية للاغتيال تُلي على مسامعه إعلان حضرة بهاء الله.


تردد الميرزا يحيى بعض الشيء ولكنه بعد ذلك فاجأ البابيين ادعاؤه بأنَّه مظهر الأمر السماوي الذي وعد حضرة الباب بظهوره. إنَّ رد الفعل هذا يوضح لنا بأنَّ جميع سلوكياته وتصرفاته السابقة كانت مصدراً للاضطرابات والأزمات. أما البابيون في أدرنة فقد هجروا الميرزا يحيى وتركوه بين عشية وضحاها وحذت حذوهم غالبية البابيين في بلاد فارس والعراق بما فيهم بعض أعضاء عائلة حضرة الباب المؤمنين الذين ما زالوا أحياء فقد تركوا جميعاً الميرزا يحيى. يقدر المستشرق إدوارد براون عدد البابيين الذين تمسكوا بميرزا يحيى بين ثلاثة إلى أربعة بالمائة فقط أما الباقون فقد آمنوا بحضرة بهاء الله. ومنذ ذلك الحين أخذ البابيون يسمون أنفسهم "بالبهائيين" وظهر الدين البهائي ديناً بارزاً.[۱٦]


بعد أن مكَّن حضرة بهاء الله أمره بين البابيين صب اهتمامه على نشر وترويج دينه. ومنذ بداية شهر سبتمبر من عام ١٨٦٧م بدأ بتحرير وتنزيل ألواح متعددة اعتبرت من الآثار الهامة والمميزة في تاريخ الأديان. بعضها كانت موجهة إلى جميع "ملوك وسلاطين الأرض" والبعض الآخر إلى ملوك وسلاطين معينين. في هذه الألواح والرسائل أعلن عن نفسه على أنَّه موعود التوراة، والإنجيل والقرآن ودعا الملوك إلى النهوض لنصرة دينه. احتوت هذه الرسائل على إنذارات مثيرة بأنَّ العالم سيشهد في القرن التاسع عشر انقسامات ونزاعات كبيرة وهي بداية لميلاد حضارة عالمية، إنَّ الفكرة الأساسية للعصر الجديد هي وحدة جميع الجنس البشري.


دعا حضرة بهاء الله بصورة خاصة قادة أوربا إلى تسخير جميع الإمكانيات لتحقيق الوحدة العالمية حيث قال:


"لا بد من انعقاد مجمع كبير على بسيط الغبراء ويبحث الملوك والسلاطين فيه عن الصلح الأكبر وهو أن تتشبث الدول العظيمة بالسلام المتين من أجل رفاهية."[۱۷] أهل العالم… ليس الفخر لمن يحب الوطن بل لمن يحب العالم. في الحقيقة ما الأرض إلا وطن واحد والناس سكانه.


أكد حضرة بهاء الله في رسائله هذه بأنَّ الله سبحانه وتعالى حرَّك قوى تاريخية لا تستطيع أن تقف أمامها أية قوة بشرية. كما أخبر حكام العالم بأنَّ القدرة والسلطة التي منحها الله جل وعلا لهم هي من أجل تلبية احتياجات الجنس البشري وتأسيس السلام العالمي والعدل الاجتماعي والوحدة العالمية. أما الدول التي تحاول أن تستخدم قواها ضد عملية توحيد العالم الإنساني فإنَّها في الواقع تجلب الدمار والخراب لنفسها ولباقي الأمم والشعوب.


بدأ الإعلان العام لدعوة حضرة بهاء الله بسلسلة من العواصف التي هبت عليه والتي مازال أثرها باقياً حتى اليوم. فقد جاءت كرة أخرى من الميرزا يحيى الذي برفضه دعوة أخيه يكون قد أنهى نفوذه بين أتباع حضرة الباب. قال الميرزا يحيى للبروفيسور إدوارد براون في وقت لاحق أنَّ المنفيين الآخرين قد هجروه أيضاً لدرجة أنَّه اضطر في إحدى المرات أن يذهب إلى السوق بنفسه لشراء طعام له. ومع ذلك مازال يحتفظ بدعم سيد محمد وشخصين منفيين آخرين في أدرنة. حاولت هذه المجموعة الصغيرة أن تحد من إقبال البابيين على أمر حضرة بهاء لله في مناطق عديدة من بلاد فارس والأراضي العثمانية، وقد أشارت ألواح حضرة بهاء لله الموجهة إلى الملوك والسلاطين إلى مواضيـع أساء هؤلاء الاستفادة منها.


في تلك المرحلة من التاريخ كانت الدولة العثمانية تعاني من التفكك وعلى شفا الانهيار. فقد كانت هناك ضغوط شديدة بالانفصال من أقليات عديدة منتشرة في شتى أنحاء الإمبراطورية وبالأخص في المناطق الأوربية كما بدأت دول تستقل حديثاً مثل: اليونان، بلغاريا، صربيا ومونتيغرو. بذل الميرزا حسين خان السفير الإيراني في استنبول جهداً كبيراً في إقناع السلطات التركية بأنَّ البهائيين في المنفى يشكلون خطراً سياسياً ودينياً عليهم. كما حاول الميرزا يحيى وسيد محمد بأن يصوروا بأنَّ ألواح ورسائل حضرة بهاء الله إلى الملوك والسلاطين لها جانب سياسي. كما أرسلت رسائل مجهولة إلى استنبول تحذر من مؤامرة سياسية. هذه الروايات كانت لها مصداقية لأنَّ الناس أخذت تتدفق من شتى أنحاء الإمبراطورية للقاء حضرة بهاء الله وحتى السلطات يبدو أنَّها قد تأثرت وخضعت لنفوذه وسلطانه.[۱٨]


وكان اضطهاد البابيين في مراحله الأولى عندما عرضت الحكومة البريطانية والروسية حماية حضرة بهاء لله مما أدى إلى تخوف الحكومة العثمانية من أنَّ ادعاءات الميرزا يحيى قد يكون لها بعض الوزن. ولهذا تقرر أن تحل مشكلة المبعدين نهائياً وبصفة دائمة، فاصدر السلطان عبد العزيز فرماناً سلطانياً بنفي حضرة بهاء الله وأتباعه إلى مدينة عكاء في فلسطين ليكون سجناً أبدياً له ومكاناً لمعاقبته. وفي صبيحة يوم ٢١ أغسطس (آب) من عام ١٨٦٨م أبحر حضرة بهاء الله وحوالي سبعين إلى ثمانين شخصاً من عائلته وصحابته المخلصين من ميناء جاليبولي في سفينة بخارية. وبعد رحلة شاقة مدتها عشرة أيام بالبحر وتحت حراسة مشددة وصل إلى شاطئ مدينة عكاء ودخل قلعتها المهجورة من بابها البحري.


ومن سخريات القدر أن يقع الميرزا يحيى وسيد محمد في الفخ الذي نصباه بأنفسهما. فالحكومة العثمانية أخذتها الشكوك في الميرزا يحيى بأنَّه قد يكون ضليعاً في المؤامرة ولهذا تم نفيه ومعـه ثلاثة بهائيين إلى جزيرة قبرص على أمل أن يقوم هؤلاء الثلاثة بالحد من نشاطه.[۱٩] أما سيد محمد وأحد أصحابه فقد نفيا مع المبعدين البهائيين إلى مدينة عكاء للسبب نفسه.


اختيرت مدينة عكاء على أمل أن لا يستطيع حضرة بهاء الله الاستمرار في العيش فيها. وخلال الستينات من عام ١٨٦٠م كان سجن المدينة مكاناً خراباً ومحلاً لإيواء المجرمين من شتى أنحاء الإمبراطورية العثمانية وشوارعها مليئة بالمتاهات والأزقة ومكاناً كئيباً ذا منازل مهجورة ومنهارة. كما تهب عليها الرياح وتضرب شاطئها أمواج البحر قاذفة بفضلات البحر الأبيض المتوسط إلى شواطئها مؤدية إلى خلق جوٍّ غير صحي، وقد قيل بأنَّ الطير الذي يحلق فوق عكاء فإنَّه سيقع ميتاً من عفونة الجو.


تعتبر السنتان الأوليتان من سجن البهائيين في قلعة عكاء سنتين مليئتين بالصعـاب والحرمان. فمن إستنبول أصدر السفير الإيراني هناك عدة أوامر عيَّن بموجبها أحد مندوبي حكومته ليقيم في عكاء حتى يتأكد من أنَّ السلطات العثمانية تمارس الشدة اللازمة على المسجونين البهائيين. ونتيجة لهذه المعاملة القاسية توفي عدد من المسجونين ومنهم الميرزا مهدي وهو الولد الثاني لحضرة بهاء الله حيث لقي حتفه في حادث مأساوي نتيجة لظروف السجن الصعبة. وفي عام ١٨٧٠م ظهرت بوادر انفراج عندما استدعت الحاجة إلى إخلاء قلعة عكاء نتيجة لتأزم الأوضاع بين الحكومة التركية والروسية، فنقل المسجونون إلى منازل مستأجرة والى بيوت أخرى في المنطقة. تدريجياً وعلى الرغم من وجود تعصب لدى العامة أخذ نفوذ دعوة حضرة بهاء الله ينتشر كما انتشر سابقاً في بغداد وأدرنة. أما رجال الحكومة المتعاطفون مع حضرته فقد قللوا عدد الحراس عليه وبرزت أصوات نافذة تعبر عن إعجابها واهتمامها بالدعوة الجديدة. ألا أنَّ عاصفة جديدة هبّت، فقد قام سيد محمد ومعه اثنان من أتباعه بإشعال نار الفتنة بين عامة الناس نتيجة لعدم ارتياحهم من تحسن أوضاع المسجونين. فقد أثاروا الناس للهجوم على منزل حضرة بهاء الله على أمل القضاء عليه.


كان التهديد الجديد بمثابة استفزاز كبير لبعض المنفيين الذين لم يستطيعوا أن يطيقوه. فقد قرر سبعة منهم أن يعالجوا الموضوع بأنفسهم دون الانتباه إلى مبدأ عدم العنف والانقياد للإرادة الإلهية المشار إليها في الآثار المباركة. فبعد افتعال نزاع متعمد استطاع هؤلاء السبعة قتل سيد محمد واثنين من أتباعه.


وحادثة كهذه كانت لها آثارها السلبية وبمثابة لطمة للدين الجديد أكثر مما فعله سيد محمد نفسه. فقد أضافت وقوداً لنار التهم التي كان المعرضون من علماء الدين الإسلامي يلصقونها بالبهائيين. وبالنسبة لحضرة بهاء الله كانت صدمة كبيرة فاقت كثيراً ما عاناه حضرته في السجن لأنَّها أثرت على سمو وجلال تعاليمه وأحكامه. وجاء في لوح كتبه حضرته آنذاك ما يلي: "ليس ذلتي سجني لعمري إنَّه عزٌّ لي بل الذلة عمل أحبائي الذين ينسبون أنفسهم إلينا ويتبعون الشيطان في أعمالهم ألا إنَّهم من الخاسرين."[۲۰]


قامت محكمة مدنية بالتحقيق في هذا الأمر واستنتجت بأنَّ حضرة بهاء الله وغالبية البهائيين في عكاء لم يكن لهم يد في انفجار هذا العنف، وتمت معاقبة المتهمين وحدهم ومن ثمَّ هدأت الأوضاع تدريجياً. وفي نفس الوقت أنزل حضرة بهاء الله مجموعة من الألواح خاطب فيها ملوك وسلاطين الأرض آنذاك سبق أن نزل جزءاً منها في أدرنة. كما جاء في رسائل خاصة خاطب فيها ملوكاً وسلاطين معينين مثل: لويس نابليون، الملكة فكتوريا، قيصر روسيا ويلهلم الأول، ألكسندر الثاني، ناصر الدين شاه سلطان إيران، وكذلك إمبراطور النمسا فرانسوا جوزف والسلطان عبد العزيز الخليفة العثماني.


في هذه الرسائل دعا حضرته الملوك والسلاطين إلى التعاون والتعاضد من أجل تأسيس منبر دولي يملك القدرة والصلاحية لحل النزاعات بين الأمم والشعوب. إنَّ هذه الحكومة العالمية حديثة النشأة يجب أن تدعم بقوة دولية تشكلها الدول الأعضاء وتستخدمها في فرض حلول سلمية لجميع النزاعات والصراعات العالمية.


كما احتوت تلك الرسائل أيضاً على شرح في كيفية إيجاد روح الوحدة والمحبة بين شعوب العالم. فمثلاً دعا حضرة بهاء الله إلى إيجاد لغة عالمية مساعدة فيقوم كل مجتمع بالحفاظ على هوية تراثه وثقافته الخاصة ولديه الإمكانية في الاتصال بباقي الأجناس والشعوب. كما أنَّ إيجاد نظام تعليمي إجباري يؤدي إلى الحد من الأميّة ونظام عالمي للمقاييس والأوزان يوفر مقياساً عاماً لنظام اقتصادي دولي. ودعا أيضاً إلى تخفيض المصاريف العسكرية والاستفادة من الضرائب للرفاهية الاجتماعية. كما دعا حضرته الملوك إلى قبول مبادئ ديمقراطية معينة من أجل إدارة جيدة وسليمة لشئون بلادهم الداخلية.


ونظراً لحبس المبعدين وعدم استطاعتهم الحركة كانت هذه الرسائل تُهرّب خارج السجن داخل ملابس الزوار. والقنصل الفرنسي قام شخصياً بتسليم أول رسالة من حضرة بهاء الله إلى الإمبراطور لويس نابليون. هناك رسائل أو (ألواح) فيها العظمة والهيمنة نزلت إلى قادة الأديان في العالم بما فيهم البابا بيوس التاسع. وما تناولته هذه الألواح بشكل أساسي دعوة قادة الدين ورجاله إلى ترك أفكارهم ورغبتهم في المناصب الدنيوية والبحث والتحري بشكل جاد حول الدعوة التي جاء بها حضرة بهاء الله. كما أشارت الألواح إلى أنَّ رجال الدين كانوا أول من أنكروا واعترضوا ثمَّ اضطهدوا مؤسسي جميع الأديان في العالم.


قد يكون لوح حضرة بهاء الله إلى البابا بيوس التاسع على الأخص محل اهتمام طلبة التاريخ في المدارس والمعاهد لأنَّها توضِّح ما يجب على البابا وخلفائه عمله وما ثبت بعد ذلك استحالة تجنبه. دعا حضرة بهاء الله البابا إلى التنازل عن أملاكه في الدولة البابوية إلى الحكومة العلمانية وأن يخرج من قصوره في الفاتيكان ليلتقي بقادة الأديان والمذاهب الأخرى وأن يلتقي أيضاً بالزعماء غير الكاثوليكيين في العالم ويدعوهم إلى السلام والعدل. وأن يبتعد عن المراسيم والشكليات الزائدة وأن يكون "كما كان مولاه". وبالمثل دعا رجال الدين الكاثوليك إلى أن: "لا تعتكفوا في الكنائس والمعابد اخرجوا بإذني ثمَّ اشتغلوا بما تنتفع به أنفسكم وأنفس العباد كذلك يأمركم مالك يوم الدين. أن اعتكفوا في حصن حبي هذا حق الاعتكاف لو أنتم من العارفين… تزوجوا ليقوم بعدكم أحد مقامكم إنَّا منعناكم عن الخيانة لا عما تظهر به الأمانة أأخذتم أصول أنفسكم ونبذتم أصول الله وراءكم… إنَّ الذي ما تزوج إنَّه ما وجد مقرّاً ليسكن فيه أو يضع رأسه عليه بما اكتسبت أيدي الخائنين ليس تقديس نفسه بما عرفتم وعندكم من الأوهام بل بما عندنا اسئلوا لتعرفوا مقامه الذي كان مقدسـاً عن ظنون من على الأرض كلها طوبى للعارفين."[۲۱]


لم يستجب ملوك العالم وقادته لألواح حضرة بهاء الله، ولكن ملكة بريطانيا الملكة فكتوريا كان لها رد فعل إذ قالت: "إذا كانت هذه الدعوة من لدى الحق تبارك وتعالى فإنَّها ستبقى من تلقاء نفسها. وإنْ لم تكن فإنَّها لا تؤذي."[٢٢](مترجم عن الإنجليزية) جذبت هذه الألواح مع مرور الزمن اهتمام الناس لأنَّها أشارت إلى التحقق الرائع لكل نبوءة وحدث تنبأ بوقوعه حضرة بهاء الله.[٢٣] فمثلاً أنذر الإمبراطور لويس نابليون الذي كان من أعظم قادة العالم قدرة ونفوذاً آنذاك بأنَّه سيسقط نتيجة لعدم خلوصه وسوء استخدامه لسلطته:


"بما فعلت تختلف الأمور في مملكتك وتخرج الملك من كفك جزاء عملك… وتأخذ الزلازل كل القبائل هناك إلاَّ بأن تقوم على نصرة هذا الأمر وتتبع الروح في هذا السبيل المستقيم."[٢٤]


ولم تمضِ سنتان على نزول هذا اللوح حتى سقط الإمبراطور عن عرشه وفقد تاجه حيث هزم هزيمة نكراء غير متوقعة في سيدان ونفي هو شخصياً من وطنه.[٢٥] ثمَّ أرسل حضرة بهاء الله رسالة إنذار إلى ويلهلم الأول، قيصر ألمانيا الموحدة، الذي انتصر على نابليون وفيها يحذره من الغرور وحبه للسلطة ويخبره عن "سيوف الجزاء" حيث قال تبارك ذكره:


"يا شواطئ نهر الرين قد رأيناك مغطاة بالدماء بما سُلّ عليك سيوف الجزاء". أرسل حضرة بهاء الله رسائل تحذيرية مشابهة إلى قيصر روسيا وإلى الإمبراطور فرانسوا جوزف إمبراطور النمسا وإلى شاه إيران. أما الرسائل التي أرسلها إلى الخليفة العثمانـي السلطان عبد العزيز ورئيس وزرائه عالي باشا، اللذين كان بيدهما حياة المسجونين في سجن عكاء، فقد اتصفتا بالإنذار الواضح والصريح. فقد تنبأت هذه الرسائل بموت عالي باشا وزميله فؤاد باشا وزير الخارجية وأيضاً تنبأت بفقد الحكومة العثمانية لجزء كبير من أراضيها في أوربا وأخيراً سقوط السلطان عبد العزيز نفسه. ولاشك أن تحقق هذه النبوات والبشارات قد عزّز بشكل كبير موقف ومقام حضرة بهاء الله ورفع من شأنه ومنزلته.[٢٦]


إنَّ السنوات العشر التي تلت عام ١٨٦٣م، وهي سنة إعلان دعوة حضرة بهاء الله، قد توجّت بإكمال نزول كتاب هام يعتبره البهائيون اليوم أساس وجوهر رسالة حضرته، هذا الكتاب هو "الكتاب الأقدس". يشير هذا الكتاب إلى تأسيس واستمرار السلطة التي دعا حضرة بهاء الله الجنس البشري لقبولها. يبدأ بتأكيد دعوته بأنَّه "ملك الملوك" وأنَّ رسالته جاءت لتأسيس ملكوت الله على بسيط الغبراء ومن ثمَّ يشير إلى موضوعين رئيسيين هما إعلان الأحكام والقوانين التي تهدف إلى تغيير النفس البشرية وهداية المجتمع الإنساني برمته وإلى تأسيس المؤسسات لإدارة شئون الجامعة التي تؤمن به. هناك بحث ومناقشة أكثر إسهاباً حول هذين الموضوعين يمكن الرجوع إليهما في الفصلين السابع والثامن. يكفي الإشارة هنا بأنَّ أحكام الكتاب الأقدس جاءت لتحل محل الأحكام والقوانين الإسلامية التي لم ينسخها حضرة الباب، كما أنَّها نسخت بعض الأحكام الشديدة التي شرعها حضرة الباب. فقد أسقط حكم الجهاد ومنع حمل السلاح واستعماله أو أي نوع من النزاع والخصومة الدينية.[٢٧] أعلن الانفصال التام عن الإسلام وألغى ما جاء به حضرة الباب حول ترك البحوث الدينية ودعا البهائيين وشجعهم على الانفتاح على الحقيقة أينما كانت:


"ألقى على عباد الله بطريقة لا يعترضوا على كلمات أحد وإنما عليهم أن يواجهوا هذه الكلمات والكتابات برجاحة عقل وشفقة فيها الود والمحبة."[٢٧]


ومع إتمام نزول الكتاب الأقدس بدأت المرحلة الأخيرة لدورة حضرة بهاء الله. أما الأمر السلطاني القاضي بإبعاد حضرته فقد انتهى ولم ينفذ. وبعد ذلك ولمدة عشرين سنة أنزل حضرة بهاء الله ألواحاً عديدة شرح فيها تعاليمه ومبادئه ونظرته لمستقبل الجنس البشري. لقد أعجبت بحضرته في البداية شخصيات مرموقة في فلسطين ثمَّ اصبحوا من أتباعه المخلصين. فآمن به مفتي مدينة عكاء وهو من رجال الدين الإسلامي المميزين. أما حاكم عكاء فكان يخلع حذاءه قبل أن يدخل في محضر حضرة بهاء الله تعبيراً عن احترامه لشخصيته. وهكذا فتحت أبواب السجن، أما سيل الزائرين الذين جاءوا من كل حدب وصوب وتدفقوا كالموج وفي رجوعهم كانوا يحملون ألواحاً ورسائل عديدة منه إلى البهائيين في إيران والعراق. وأمر حضرة بهاء الله أتباعه أن يعيدوا تشييد قناة قديمة للمياه في المدينة من أجل تزويد عكـاء بالمياه العذبة الصالحة للشرب، هذا العمل أدى إلى تخفيف عداء أهل المدينة له وهو العداء الذي بدأ منذ ورود حضرة بهاء الله قلعة عكاء عام ١٨٦٨م. في عام ١٨٧٧م وافق حضرته على الانتقال إلى منطقة قريبة من عكاء اسمها المزرعة وقد أعدها أصدقاؤه للسكن فيها. وبعد سنتين استطاع أتباعه أن يستأجروا قصراً جميلاً له يقع في ضواحي المدينة وبأجر بسيط للسكن فيه نظراً لأنَّ صاحبه ترك المنطقة هرباً من انتشار الوباء فيها.


وفي مسكنه هذا الذي سمي "البهجة" استقبل حضرة بهاء الله المستشرق البريطاني إدوارد براون وهو أحد الغربيين القلائل الذين زاروا حضرته وكتبوا عنه. لقد قرر براون أن يكتب عن التاريخ البابي والبهائي نتيجة انجذابه وتأثره من استشهاد البابيين في إيران. ووصف لقاءه في قصر البهجة مع مؤسس الدين البهائي بما يلي:


"وجدت نفسي في حجرة كبيرة ويبدو في نهايتها أريكة (دوشك) منخفضة وفي مقابل الباب يشاهد كرسيان أو ثلاثة. لم أكن أعلم تماماً بمن سألتقي أو بمن سأواجه (لأنَّه لم تعط لي معلومات كافية في هذا الخصوص) وقبل أن تنقضي لحظتان أو ثلاثة وفي جو من الحيرة والرهبة أدركت بأنني لست وحيداً في الغرفة. ففي زاوية الحجرة وعلى الأريكة رأيت رجلاً وقوراً وجليلاً وعلى رأسه تاج مثل تاج الدراويش (ولكن ذو طول وصنع غير عادي) وتلتف عمامة صغيرة بيضاء حول أسفل التاج. أما الوجه الذي وقعت عليه عيناي فلا يمكنني أن أنساه ولا يمكنني أن أصفه، إنَّ بصره الثاقب يمكن له أن يكشف أسرار القلوب وآثار القوة والقدرة ظاهره على جبينه الوضاح المبارك… لا تسلني في محضر من كنت واقفاً! بل وقفت وانحنيت أمام منبع التقديس والمحبة الذي يحسده الملوك ويتلهف إليه الأباطرة. بصوت لطيف دافئ أمرني بالجلوس ومن ثمَّ أضاف: "احمد ربك بأنَّك حضرت وكنت من الفائزين… جئت لزيارة هذا المسجون المنفي… لم نهدف شيئاً سوى إصلاح العالم وخير الأمم ومع ذلك اتهمونا بإشعال نار الفتنة والتحريض وأمروا بظلمنا ونفينا… يجب أن تنتهي هذه النزاعات وسفك الدماء والمشاحنات ويصبح الناس إخواناً وأسرة واحدة… ليس الفخر لمن يحب الوطن بل لمن يحب العالم…".


وفي وقت لاحق من السنة نفسها نصب حضرة بهاء الله خيمته على سفح جبل الكرمل الذي يقع على الجانب الآخر من خليج عكاء. وعلى سفح هذا الجبل عين حضرته المكان الذي يجب أن يدفن فيه رفات حضرة الباب. وأصبح هذا المكان محوراً للعديد من المقامات والأمكنة المتبركة والأبنية الإدارية والحدائق التي تمثل المركز العالمي للدين البهائي.


ومع اقتراب السنوات الأخيرة من حياته ابتعد حضرة بهاء الله عن الاتصال بالمجتمع الخارجي وأخذ يقضي وقته في كتابة الألواح والرسائل ولقاء الزائرين. أمَّا شئون الجالية فقد تركها إلى أكبر أبنائه عباس الذي أسماه عبد البهاء. وفي أواخر عام ١٨٩١م ذكر حضرة بهاء الله لأتباعه بأنَّه قد أنجز عمله وأنَّه يرغب في ترك هذا العالم حيث قال:


"يا سلطان الأرض والسماء إلامَ أودعت نفسك بين هؤلاء في مدينة عكا اقصد ممالك الأخرى المقامات التي ما وقعت عليها عيون أهل الأسماء".


بعد ذلك بفترة وجيزة أصيب بالحمى التي عانى منها فترة قصيرة وصعدت روحه الطاهرة المقدسة إلى رحاب الملكوت في فجر اليوم التاسع والعشرين من شهر مايو (أيار) من عام ١٨٩٢م وقد بلغ من العمر خمسة وسبعين عاماً.
* من كتاب "الدين البهائي"


%
تقدم القراءة
- / -