الدين البهائي
"لتكن رؤيتكم عالمية ..." -- حضرة بهاء الله
"لو رزقت قليلًا من زلال المعرفة الإلهيّة لعرفت بأنَّ الحياة الحقيقيّة هي حياة القلب لا حياةُ الجسد ..." -- حضرة بهاء الله
"إن دين الله ومذهب الله يهدف إلى حفظ واتحاد واتفاق العالم والمحبة والألفة بين اهل العالم." -- حضرة بهاء الله

حضرة بهاء الله
صاحب الرسالة الإلهية (١٨١٧-١٨٩٢)

نزول الوحي على حضرة بهاء الله

. . . الكلمة الإلهية الخلاقة تعمّ البشرية عن طريق أنبياء الله ورسله. وما حضرة بهاء الله إلا مظهر هذه الكلمة الإلهية في يومنا هذا، فأتباعه الذين لا حصر لهم في العالم يؤمنون بأنه صاحب أحدث الرسالات السماوية التي تعاقبت على البشرية حتى الآن. ويعتقد هؤلاء أيضا بأن آثار حضرة بهاء الله الفارسية والعربية، المدونة نقلا عنه أو المكتوبة بخط يده، والتي وثّـقها هو بنفسه إبان حياته، هي آثار دينية مقدسة. ويجدر بالذكر هنا أنه يشار لهذه الآثار أحيانا بعبارة "الألواح المباركة".


. . . فالوحي الذي اختص به كان فيضاً غزيراً مثيراً للإعجاز لدرجة أنه يستحيل على أحد الإلمام بأطرافه، وتصبح أية محاولة للإحاطة بذلك الفيض محاولة يائسة، تماما كمن يحاول جمع مياه بحر واسع لا قرار له في وعاء ضيق محدود.


لولاية حضرة بهاء الله ميزتان لا مثيل لهما في تاريخ الإنسانية. أولاهما المعاناة والاضطهاد اللذان ابتلي بهما صاحب الظهور الإلهي. وثانيتهما غزارة آثاره وكتاباته. ولا أدَلّ على ذلك سوى التباين بين النور والظلمة، العظمة والعبودية، العزة والذلة. ويمكن وصف حياته بكتاب اسودت صفحاته بما ارتكبه جيل ضال من قسوة ووحشية، إلاّ أن حروفه لمعت بأنوار الوحي الإلهي وأشرقت ببهائها على عالم غلّفته سحب الجهل والتعصب.


إن القوى الروحية الكامنة التي أطلقها حضرة بهاء الله في السنوات الأربعين لولايته، في هذا الظهور الأعظم قدر لها أن تعيد للبشرية حياتها وتؤسس لها حضارة إلهية بشّر بها الرسل السابقون على أنها "ملكوت الله على الأرض". فالقناة التي جرت منها هي الكلمة الإلهية التي أظهرها للوجود في هذا العصر. لم تكن تلك الكلمة ثمرة العلم والمعرفة، بل كانت من وحي الروح القدس لأن حضرة بهاء الله لم يتلقَّ إلا تعليماً ابتدائياً محدوداً.


الكلمة الإلهية منزهة عن المعرفة المكتسبة

كان معظم سكان بلاد فارس في القرن التاسع عشر أمّيـين تحت سيطرة رجال الدين يطيعونهم طاعة عمياء. فهناك طبقتان متعلمتان: علماء الدين ورجال الدولة ثم عدد قليل من عامة الناس. ولَقَب "العالِم" لم يكن يُطلق إلا على أقطاب الدين ورجاله حيث كانوا يمضون عقود أعمارهم في دراسة الفقه والشريعة الإسلامية وقوانين التشريع والفلسفة والطب والفلك، وفوق ذلك كله اللغة العربية وآدابها لأنها لغة القرآن، وهذا ما دعا رجال الدين إلى الاهتمام بها حيث قضى العديد منهم سنيّ حياته في صقل ملكة الإبداع فيها لسعتها وغناها في التعبير، واعتبروا أن بحثاً لم يكتب بالعربية لا قيمة له، وأي خطبة تلقى من على المنبر لم يستعمل الخطيب فيها كثيرا من الكلمات العربية الصعبة لن تلقى نصيبها من التأثير، وغالبا ما تكون غير مفهومة للعوام. وبهذا النهج كان الوعاظ يسرحون بخيال المستمعين الأميّين في غالبيتهم، فيصابون بالذهول وتبدو لهم مليئة بالعلم. فكان مقياس علوم الإنسان معرفته باللغة العربية وحجم عمامته.


أما الطبقة الثانية فتضم رجال الدولة والموظفين وبعض التجار الذين ما أصابوا من العلم إلا قليلا في طفولتهم من قراءة وكتابة ودراسة الخط والقرآن الكريم وبعض أعمال شعراء الأدب الفارسي المشهورين، وكل ذلك يتم خلال سنوات قليلة يختتمها بعضهم بالزواج قبل سن العشرين، كما جرت العادة.


إلى هذه الطبقة كان ينتمي حضرة بهاء الله، وكان لوالده مكانة مرموقة في بلاط الشاه ومشهورا كخطاط مبدع، ذلك الفن الذي يمنح صاحبه منزلة رفيعة لدى الدوائر الملكية. تلقّى حضرة بهاء الله تعليمه الابتدائي في طفولته لفترة قصيرة وبرع في الخط كوالده، وهناك نماذج رائعة من خطه في محفظة الآثار البهائية العالمية على جبل الكرمل. وعندما بلغ التاسعة عشرة تزوج من آسية خانم ورزقا بسبعة أولاد بقي منهم ثلاثة على قيد الحياة هم: حضرة عبد البهاء، الورقة المباركة العليا وميرزا مهدي (الغصن الأطهر).


كان رجال الدولة في تلك الأيام يتنعمون بما توفره لهم السلطة المستبدة واتصفوا بالغطرسة والعدوانية، ومجرد وجودهم يثير الرعب في نفوس الأبرياء. أما حضرة بهاء الله فكان على العكس من ذلك، ومن قابله في شبابه تملّكه العجب. فوالده يتبوأ منصباً مرموقاً في بلاط الشاه وله حظوة لدى رئيس الوزراء، فمن الطبيعي أن تظهر عليه علائم التجبّر والاستبداد، إلا أن حياته كانت تجسيداً للرحمة والشفقة والمحبة، فكان لليتيم أباً حنوناً وللذليل عوناً وللفقير والمحتاج ملجأً وملاذاً. فجعلت منه هذه الفضائل الإلهية، التي انعكست على حياته منذ الصغر، موضع حب وافتتان لكل من سمع باسمه والتقى بشخصيته الجذابة.


وعلى الرغم من أن رجال الدولة كانوا في ذلك الزمان ساسة الأمة في بلاد فارس، إلا أن رجال الدين الأقوياء كانوا يعتبرونهم أقل مرتبة منهم وغير لائقين لولوج دنيا العلم والمعرفة. كان حضرة بهاء الله يدهشهم جميعا بسعة علمه وعمق كلماته وبشرحه في أكثر من مناسبة بحضور العلماء معضلات دينية إسلامية غامضة بأسلوب سلس بليغ.


لم تكن الكلمة الإلهية ثمرة العلوم المكتسبة، فحاملو الرسالات السماوية لم يتلقوا تعليماً في أغلب الأحيان، فلم يكن موسى وعيسى رَجلَيْ علم ولا كان محمد مثقفاً. وعند إشراق أنوار الوحي على قلبه نطق بالكلمات الإلهية التي كان يسجلها أحد صحابته في بعض الأحيان فوراً وفي مكان نزولها، أو كانت تحفظ في الصدور لتدوّن فيما بعد. أما حضرة الباب وحضرة بهاء الله فلم يتجاوز تعليمهما المرحلة الابتدائية، إلا أن علمهما الموحى به كان فطرياً أحاط البشرية جمعاء.


في أحد ألواحه المباركة المعروف بـ"لوح الحكمة"، الغني بنصائحه وتوجيهاته للفرد في سلوكه، بيّن حضرة بهاء الله جانباً من المعتقدات الأساسية لبعض فلاسفة الإغريق القدماء، وذكر أنه لم يدخل مدرسة ولم يطّلع على علوم الناس، بل إن معرفته بكل هذا أوحيت له من ذي القدرة والجلال وانطبعت على صفحة قلبه ونطق بها لسانه في كلمات. وفي لوح آخر كشف حضرة بهاء الله عن مصدر علمه ومشرق رسالته الإلهية في الكلمات التالية:


"يا سلطان، إني كنت كأحد من العباد وراقدا على المهاد، مرّت عليّ نسائم السبحان وعلّمني علم ما كان. ليس هذا من عندي بل من لدن عزيز عليم... هذه ورقة حرّكتها أرياح مشية ربك العزيز الحميد".[۱]


ظهور حضرة بهاء الله وجوهر رسالته الإلهية

أدى الوصال الرمزي بين الله -باعتباره الأب- والرسول المختار -باعتباره الأم- إلى إنجاب الوحي الإلهي الذي نطق بالكلمة الإلهية. من المستحيل على الإنسان إدراك هذه العلاقة المقدسة، فهي واسطة الاتصال بمظهر أمره، إذ إن معلوماتنا المحدودة في هذا السياق مستقاة من كلمات حضرة بهاء الله، وتظل الكلمات غير قادرة على التعبير عن الحقيقة الروحانية.


فللكلمة الإلهية روح باطنية وشكل خارجي، ولا يمكن الإحاطة بالروح المودعة في باطن الكلمة لأنها تنتمي إلى عالم اللامخلوق ووجدت بقوة الروح القدس، بينما يكون الشكل الخارجي قناة تعبر فيها الروح القدس. وعندما تتعلق الكلمة الإلهية بعالم الإنسان تغدو محدودة.


وبما أن الأم تترك في طفلها شيئا من صفاتها وملامحها، كذلك فإن حامل الرسالة السماوية يؤثر على الشكل الخارجي للكلمة الإلهية. ولنأخذ مثلا النبي (ص) الذي ولد في الجزيرة العربية وتكلم العربية فارتبطت الكلمة الإلهية في القرآن الكريم بطبيعة المجتمع الذي نشأ فيه ارتباطاً وثيقاً. ولكون حضرة بهاء الله فارسياً فقد نزلت الكلمة الإلهية بالفارسية والعربية. فشخصيته وأسلوبه وطبيعة اللغة الفارسية ومصطلحاتها وأمثالها والقصص التي أوردها عن حياة معاصريه في ذاك القطر والأماكن التي نفي إليها، أثرت في شكل الكلمة الإلهية المنزلة في هذه الدورة.


وبالرغم من أن حضرة بهاء الله لم يتلق العلم في مدارس الفقه وحلقات الدراسة، فقد شهد له الضالعون بفنون الأدب بأن كتاباته باللغتين العربية والفارسية متفوقة في غناها وجمالها وفصاحتها من الناحية الأدبية. ومع أنه كان غير متمرس باللغة العربية ومفرداتها الواسعة وقواعدها الصعبة، التي كانت تستنفد حياة رجال الدين كلها في سبيل إتقانها، فإنه أثرى الأدب العربي بكتاباته بحيث أوجد أسلوباً جديداً، كما حدث في أيام النبي محمد (ص) بحيث ألهم الباحثين والكتاب البهائيين، وكذا الأمر في كتاباته بالفارسية.


لن يجد القارئ نفسه في أسمى العوالم مفتونا بجمال أسلوبه وفصيح عباراته وتدفق كلماته ووضوح إنشائه وعمق بياناته فحسب، بل سيجد أمامه أيضا ما أبدعه حضرة بهاء الله من مصطلحات جديدة تنقله إلى فهم أوسع وإدراك أعمق لحقائق عالم الروح بدرجة كبيرة.


نزلت كتابات حضرة بهاء الله، المعروفة بـ"الألواح"، بالعربية [٦٠٪ منها] أو الفارسية وغالبا بالاثنتين معا. فهناك العديد من الألواح نزل جزء منها بالفارسية وجزء بالعربية وقد أشار في أحد ألواحه إلى اللغة العربية بأنها "اللغة الفصحى" وإلى اللغة الفارسية بأنها "اللغة النوراء" و"اللغة الحلوة". وامتازت كتاباته العربية بالقوة والعظمة، وتبرز بياناته فيها في قمة عظمتها وفصاحتها، وتتصف كتاباته الفارسية بالجمال والدفء وتحريك المشاعر الروحانية. وبعكس الكتّاب الذين ينشدون العمل في جو هاديء، فقد أنزل معظم ألواحه في خضم البلايا خلال نفيه أربع مرات متتالية.


وحتى يستطيع الكاتب أن يكتب، لا بد أن يعتمد على علمه ومعرفته ثم يتفكر ويتأمل في الموضوع ويقوم بالبحث، وبعد عمل مضن قد يتمكن من إنتاج كتاب يخضع دائما للتصحيح والتحسين، وغالبا ما يشعر الكاتب بضرورة إعادة محاولته من جديد. ولكن الأمر مع مظاهر أمر الله مختلف حيث لا يعتمد هؤلاء في ما يبدعونه من آثار على إنجازاتهم البشرية.


كانت الكلمات الإلهية تنهمر من شفتي حضرة بهاء الله عند نزول الوحي، ويقوم كاتب وحيه بتدوينها وأحيانا يكتبها بنفسه، وقد شهد حضرته في أحد ألواحه بأن غالبا ما عجز كاتب الوحي عن تدوينها لغزارة تدفقها....إن تدفق الآيات في هذا الظهور أفاض على الإنسانية بغزارة بحيث أنزل حضرة بهاء الله في ساعة واحدة ما يعادل ألف آية.


أحاطت الكلمة الإلهية بالبشرية في هذا العصر وكأن أبواب السماء قد فتحت. ففي فترة الأربعين سنة من ولاية حضرة بهاء الله، انغمس الوجود في بحر من الفيض الإلهي أطلق قوى روحية هائلة لا يدرك أحد كنه إمكاناتها. فكتاباته آثار مقدسة للجنس البشري كافة وهي غزيرة وواسعة -بشهادة حضرته- بحيث إنها تؤلف ما لا يقل عن مائة مجلد لو جمعت.


كان كاتب وحي حضرة بهاء الله -معظم فترة ولايته- هو ميرزا آقا جان من كاشان، ولقبه "خادم الله" و"العبد الحاضر"، ذلك لأنه كان دوماً حاضراً لخدمة مولاه. لم ينتم إلى طبقة العلماء بل كان تعليمه بسيطاً. عمل في شبابه في صنع الصابون وبيعه في كاشان. وقَدِم إلى العراق بعد فترة وجيزة من وصول حضرة بهاء الله وتشرف بمحضره الأنور بمنزل أحد الأحباء في كربلاء، وهناك شعر بقوة روحية هائلة تنبعث من محياه قلبت كيانه بالكلية واشتعل بمحبة مولاه. فكان أول شخص لمّح له حضرة بهاء الله عن مقامه ثم شرّفه فيما بعد فعيّنه كاتباً للوحي.


ورغم أنه عاش في كنف حضرة بهاء الله أربعين عاما يتنعم بأفضاله وبركاته مصاحباً له في رحلته مع الوحي الإلهي قريباً من مولاه قائماً على خدمته ليل نهار، إلا أنه في النهاية خان العهد والميثاق وانضم إلى ناقضي العهد في عدائهم لحضرة عبد البهاء بعد صعود حضرة بهاء الله.


وكلما كان الوحي ينزل على حضرة بهاء الله، أكان ذلك في بيته المتواضع ببغداد أو في أدرنة في البرد القارس، أو حين كان يسافر بحراً أو براً، أو حين وجوده في زنزانته بسجن عكاء أو قصره الفسيح في البهجة، كان ميرزا آقا جان دائم الحضور في تلك الأثناء برزمة أوراقه ودواة الحبر وحزمة أقلام القصب لتسجيل كلمات الفيض الإلهي المنهمر من الشفتين المباركتين، ولسرعة نزولها لم يكن من السهل قراءتها قبل إعادة نسخها، وبعد قراءتها والموافقة عليها كان حضرته يزينها بأحد أختامه أحياناً.


استعمل حضرة بهاء الله عشرة أختام صنعت له في أوقات مختلفة من ولايته، بالإضافة إلى واحد كان يحمل اسم "حسين علي" ومن الأختام العشرة كان أحدها يحمل اسم "بهاء الله" والأخرى تحوي عبارات تصفه بالمسجون ومظلوم العالمين وفي بعضها ثبّت بلغة مهيبة وعبارات واضحة سلطانه الفريد، وعظمته السامية، ومقامه المجيد مَظهراً إلهياً كلياً وخليفة الله على الأرض.


ومن الذين قاموا على نسخ الألواح المباركة، حضرة عبد البهاء الذي عكف على تلك المهمة منذ صباه في بغداد إلى نهاية ولاية حضرة بهاء الله. وقد كتب العديد منها بخط يده المباركة.


وكانت العادة أن يدوّن اللوح ثم يعمد إلى كتابة عدة نسخ منه لنشرها بين الأحباء، وفي بعض الأحيان في أيام حضرة بهاء الله كان الفيض ينزل بغزارة متناهية بحيث لم يكن بمقدور عدد من الكتبة العاملين ليلاً ونهاراً تدوين ألواحه جميعها وقد ترك بعض الكتبة للأجيال القادمة مجلدات كتبت بخط يدهم.


كان الملا زين العابدين من أبرز كتّاب الوحي وقد لقّبه حضرة بهاء الله بـ"زين المقربين". وكان قبل اعتناقه الدين البابي عالماً مجتهداً وقطباً بارزاً في مسقط رأسه -نجف أباد- وأثناء حبس حضرة بهاء الله في سياه ﭽال برزت فيه مشاعر الغيرة والحماس للدين البابي حتى إن أصدقاءه المقربين، الذين كانوا في وقت ما من تابعيه وأكثر المعجبين به، ناصبوه العداء وقاموا على معارضته واضطهاده بشدة.


كان زين المقربين دقيقاً جداً في نسخ ألواح حضرة بهاء الله ويبذل جهوداً مضنية في التأكد من صحة تدوينها، فكل لوح بخط يده يعتبر صحيحاً ومطابقاً للأصل. وقد ترك للأجيال عدة مجلدات بخط يده الرائع تضمنت معظم ألواح حضرة بهاء الله الهامّة. واليوم توثّق المنشورات البهائية بالفارسية والعربية بمقارنتها بتلك المجلدات.


وثمة أثر كتابيّ آخر له علاقة وثيقة بما كان يتحلى به زين المقربين من ذكاء فذّ ودقة في تقصي الأمور، وهو الكتاب المعروف بعنوان "رسالة سؤال وجواب". وبما أنه كان مجتهداً كفؤاً في تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية فقد سمح له حضرة بهاء الله بأن يسأل أي سؤال يعنّ له حول تطبيق الأحكام الإلهية المنزّلة في "الكتاب الأقدس". وتضمنت الإجابات التي تفضل بها حضرة بهاء الله على أسئلة زين المقربين إيضاحات إضافية وتوسعاً في شرح أحكام شريعته السمحاء، ويعد كتاب "سؤال وجواب ملحقاً لازماً "للكتاب الأقدس".


أما الشخص الآخر صاحب المواهب الفذة الذي قدم أجل الخدمات في مجال تدوين واستنساخ الألواح فقد كان الخطاط المشهور ميرزا حسين الملقب بـ"مشكين قلم" وهو من أهل مدينة إصفهان....


أمضى "مشكين قلم" سنوات عدة من حياته في نسخ ألواح كل من حضرة بهاء الله وحضرة عبد البهاء، وهنالك المجلدات العديدة بخطه الجميل، وقد خلد اسمه بفضل رسومه ورموزه وتصميمه لـ"الاسم الأعظم".


إن إحدى الميزات الرئيسة للدورة البهائية تتمثل في أن الكلمات التي أنزلها صاحب الظهور الإلهي وحي أصيل موثوق بصحته. بعكس الظهورات السابقة عندما لم تدون فيها كلمات الرسل حال إنزالها. أما الكلمات التي أنزلها حضرة بهاء الله فقد دونت كما أملاها هو بنفسه على كتّاب وحيه. وفي حالات كثيرة سجلت المناسبات التي نزلت فيها الألواح من قبل كتّاب الوحي، أو غيرهم من الصحابة الموثوق بهم، وأحيانا سجل تلك المناسبات الحجّاج الزائرون، وأحيانا أخرى سجلها أولئك الذين تشرفوا بمحضره المنير.


كان لاندفاع الروح القدس اندفاعاً قوياً أثناء نزول الوحي أثره المهيب على حضرة بهاء الله من الناحية الجسمانية. فالإنسان العادي يصعق عادة إذا ما وصلته أنباء فائقة الخطورة، فكيف يكون الأمر إذاً بالنسبة للهيكل الجسماني للمظهر الإلهي حين يصبح ذلك الهيكل قناة يفيض بواسطتها روح القدس ليغمر الإنسانية جمعاء!


حين نزول الوحي لم يكن يسمح لأحد بالبقاء في المحضر المبارك سوى كاتب وحيه، ولكنه أحياناً كان يأذن لبعض المؤمنين بالبقاء حينئذ لفترة قصيرة. وقد شهد أولئك الذين نالوا هذا الشرف العظمة الخاصة بهيكله المبارك الذي كان يشع أيضا نوراً وضياءاً. ووجد الكثيرون أنفسهم عاجزين عن النظر إلى طلعته البهية وقد بهر أبصارهم ذلك التجلي الإلهي العظيم.


من هؤلاء الحاج ميرزا حيدر علي الإصفهاني الموطن الذي اعتنق الأمر في مطلع ظهوره . . . وفي إحدى زياراته لعكاء سمح له بالتشرف بالمحضر المبارك أثناء نزول الوحي، وقد ترك للأجيال القادمة ما كتبه باختصار عن تلك المناسبة التي لا تنسى:


"عندما صدر الإذن وأزيح الستار، دخلت الغرفة حيث استوى سلطان سلاطين الملك والملكوت، بل سلطان عوالم الله، على كرسي العظمة. كانت الآيات تتدفق كالغيث الهاطل، وكأن الباب والجدار والبساط والسقف والأرض والهواء في ذلك المقام الأقدس قد تعطر وتنور واهتز وتحرك وتحول كل منها إلى آذان امتلأت بروح من الفرح والحبور... في أي حال كنت وفي أي مقام؟ من لم يذق لم يدر..."[۳]


وقيل إن أحد آثار نزول الوحي على حضرة بهاء الله، كان بقاء حضرته فترة من الوقت، بعد ذلك، في حالة من الاضطراب والتأثر بحيث لم يكن باستطاعته تناول الطعام.


القوة الخلاقة للكلمة الإلهية

إن كلمة الله هي أشرف إبداع للخلق الإلهي وتسمو فوق إدراك البشر. وفي أحد ألواحه حذرنا حضرة بهاء الله من مقارنة خلق الكلمة بخلق باقي الموجودات، وأشار إلى أن كل كلمة من الكلمات الإلهية بمثابة مرآة تنعكس منها الصفات الرحمانية، وبقوة تأثيرها ظهر عالم الإمكان. وقد جاء في الإسلام أن الله خلق الكون بقوله "كن" وبها ظهرت الموجودات كلها. فوحي حضرة بهاء الله، وهو كلمة الله لهذا العصر، له أيضا قوة خلاقة مماثلة. وفي بعض ألواحه أشار حضرة بهاء الله إلى كلمة "كن" على أنها علة خلق الموجودات. ففي "لوح الزيارة" الذي جمع بين عدة مقتطفات من الألواح المباركة بعد صعوده، يتفضل: "وأشهد أن بحركة من قلمك ظهر حكم الكاف والنون وبرز سر الله المكنون، وبدئت الممكنات وبعثت الظهورات". وفي مثال آخر، يتفضل في "الصلاة الكبيرة": "... والذي ظهر إنه هو السر المكنون والرمز المخزون الذي به اقترن الكاف بركنه النون."[٤] فباجتماع حرفي الكاف والنون تتكون كلمة "كن" التي بدئت بها الممكنات.


يشير المقتطف التالي من أحد ألواح حضرة بهاء الله إلى القوة الخلاقة لكلماته:


"كلما يخرج من فمه إنه لمحيي الأبدان لو أنتم من العارفين. كلما أنتم تشهدون في الأرض إنه قد ظهر بأمره العالي المتعالي المحكم البديع. إذا استشرق عن أفق فمه شمس اسمه الصانع بها تظهر الصنايع في كل الأعصار وإن هذا لحق يقين، ويستشرق هذا الاسم على كل ما يكون وتظهر منه الصنايع بأسباب الملك لو أنتم من الموقنين. كلما تشهدون ظهورات الصنعية البديعة كلها ظهر من هذا الاسم وسيظهر من بعد ما لا سمعتموه من قبل. كذلك قدر في الألواح ولا يعرفها إلا كل ذي بصر حديد. وكذلك حين الذي تستشرق عن أفق البيان شمس اسمي العلام يحمل كل شيء من هذا الاسم بدايع العلوم على حده ومقداره ويظهر منه في مد الأيام بأمر من لدن مقتدر عليم. وكذلك فانظر في كل الأسماء وكن على يقين منيع. قل إن كل حرف تخرج من فم الله إنها لأمّ الحروفات وكذلك كل كلمة تظهر من معدن الأمر إنها لأم الكلمات وإن لوحه لأم الألواح فطوبى للعارفين..."[٥]


وفي لوح آخر يشير إلى نفوذ كلماته بقوله الأحلى:


"قد أودع في كل حرف يخرج من فمنا قوة بحيث تخلق خلقا جديدا ما اطلع عليه أحد غير الله. إنه على كل شيء محيط".[٦]


فكلمات مظاهر أمر الله هي الهيكل الخارجي للقوى الروحية المنبعثة عنهم، وما ستر في جوهر باطنها غير محدود في قوة الخلق والإبداع لأنها تنتمي للعالم الإلهي ولهذا يعجز الإنسان عن إدراكها بتمامها إلا على قدر محدود، ذلك لأن قواه العقلية محدودة.


يمكن تشبيه الكلمة الإلهية بأشعة الشمس التي تنقل حرارتها. فقريباً من قرصها تشتد الحرارة بحيث تستحيل الاستفادة منها في الفضاء الخارجي، إلا أن الأشعة نفسها بمرورها في طبقات الجو وغلاف الأرض وأطباق السحاب يصل قسم محدود من طاقتها إلى سطح الكرة الأرضية. وبالمثل تظهر الكلمة الإلهية في هذا العالم للعقل الإنساني على درجة محدودة بحقائقها ومعانيها الروحانية لأنه، بقواه المحدودة، عاجز عن إدراك هذه الحقائق بتمامها.


تتعاظم الكلمة الإلهية في قوتها ونفوذها وإبداعها وحقيقة معانيها عندما تعرج الروح إلى بارئها مفارقة الجسد لتبدأ ترقيها في العوالم الروحانية الإلهية. ورغم أن هذه المعاني والحقائق تبقى محجوبة عن إدراك البشر، فإن المظاهر الإلهية أصحاب هذه الكلمة يدركون قوة سطوتها وعمق معانيها بصورة كاملة.


الكلمة الإلهية أصل المعرفة

تلبية لطلب الشيخ محمود، أحد علماء المسلمين الذي اعتنق الأمر في عكاء فيما بعد،[٧] أنزل حضرة بهاء الله لوحاً في تفسير سورة "والشمس" الفرقانية، وفيه كشف آفاقا من المعرفة فيما يخص الكلمة الإلهية، وكما نص حضرته، فإنه من كل كلمة منزلة من سماء الوحي جرت الأنهار العذبة السائغة من الأسرار الإلهية والحكم الربانية. وإجابة عن سؤال الشيخ نفسه فصّل لكلمة "الشمس" معان عديدة، وأوضح أن لها معان أخرى فوق الحصر بحيث لو انشغل عشرة كتبة في تدوين تفاسيره لها مدة سنة أو اثنتين لما نفدت تلك التفاسير والشروح.


وفيما يلي آيات مقتطفة من ذاك اللوح المبارك الموجه إلى الشيخ محمود:


"فاعلم بأنك كما أيقنت بأن لا نفاد لكلماته تعالى أيقن بأن لمعانيها لا نفاد أيضا، ولكن عند مبينها وخزنة أسرارها والذين ينظرون الكتب ويتخذون منها ما يعترضون به على مطلع الولاية إنهم أموات غير أحياء ولو يمشون ويتكلمون ويأكلون ويشربون. فآه آه لو يظهر ما كنز في قلب البهاء عما علّمه ربه مالك الأسماء لينصعق الذين تراهم على الأرض. كم من معان لا تحويها قمص الألفاظ وكم منها ليست لها عبارة ولم تعط بيانا ولا إشارة. وكم منها لا يمكن بيانه لعدم حضور أوانها كما قيل (لا كل ما يعلم يقال ولا كل ما يقال حان وقته ولا كل ما حان وقته حضر أهله)، ومنها ما يتوقف ذكره على عرفان المشارق التي فيها فصلنا العلوم وأظهرنا المكتوم. نسأل الله أن يوفقك ويؤيدك على عرفان المعلوم لتنقطع عن العلوم لأن طلب العلم بعد حصول المعلوم مذموم. تمسك بأصل العلم ومعدنه لترى نفسك غنيا عن الذين يدعون العلم من دون بينة ولا كتاب منير..."[٨]


ليست لكلمات المظاهر الإلهية معان باطنية فحسب، بل إن كل حرف منها يكتنز المعاني والأسرار الإلهية. وفي حديث مشهور ينسب للإمام علي بن أبي طالب ورد أن: "كل ما في التوراة والإنجيل والزبور موجود في القرآن، وكل ما في القرآن في الفاتحة، وكل ما في الفاتحة في البسملة، وكل ما في البسملة في الباء، وكل ما في الباء في النقطة..." وليس أدلّ من ذلك صراحة على أن كلمة الله سامية في طبيعتها منزهة عن إدراك الإنسان.


وفي تفسير بعض الحروف المقطعة وبيان معانيها الباطنة أنزل حضرة الباب، المبشر بحضرة بهاء الله، آثاراً كتابية لا حصر لها [و قد أُنزلت غالبية آثاره باللغة العربية]. فعلى سبيل المثال أنزل ما لا يقل عن ثلاثة آلاف آية في شرحه لسورة "والعصر" في القرآن الكريم وفسر فيها حرفها الأول "الواو"، كما أنزل حضرة بهاء الله ألواحاً بديعة أسهب فيها في تفسير الحروف المقطعة.


القلم الأعلى

إن من بين النعم والعطايا النادرة لظهور حضرة بهاء الله ما فاض به قلمه الموصوف بالقلم الأعلى، ويدل هذا الوصف فيما يدل عليه من معان إلى أنه مظهر الروح الأعظم. ولم يسبق في تاريخ الأديان، عدا الظهور البابي، أن ترك المظهر الإلهي للأجيال القادمة تراثاً من آثاره الكتابية خطّها بيده. فهناك العديد من الألواح في المواعظ والأدعية والصلوات خطّها حضرة بهاء الله بيده وتشكِّل هذه الألواح أنفس الآثار البهائية المقدسة.


كثيرا ما كتب الأحباء القدامى رسائل لحضرة بهاء الله يسألونه النصح أو يزودونه بالأخبار، فتنزل الألواح المباركة إجابة عنها، وقد وصف [ أحدهم] كيفية نزولها. . . . ومما قاله شفاهاً في وصف تلك الأحداث ما يلي:


"أثناء نزول الكلمات الإلهية على حضرة بهاء الله أذكر أن صرير قلم ميرزا آقا جان -كاتب وحيه- كان يسمع من مسافة عشرين قدما[٩]. ففي تاريخ الأمر لم يرد شيء يذكر في كيفية نزول الألواح. لذلك... سأصفها...


كان للميرزا آقا جان محبرة بحجم الكأس الصغير وأمامه عشرة أقلام إلى اثني عشر، وصحائف كبيرة من الورق مكدّسة أمامه. في تلك الأيام كان آقا جان يتسلم الرسائل الواردة إلى حضرة بهاء الله فيحملها ويتشرف بالمحضر الأبهى ويأخذ في قراءتها بعد صدور الإذن. وبعد ذلك يشير إليه الجمال المبارك أن يمسك بالقلم ليبدأ في تدوين الكلمات النازلة ردّا على الرسالة...


كانت سرعة ميرزا آقا جان في كتابة الألواح حين نزولها لدرجة أن حبر الكلمة الأولى لم يكن ليجف تماما عند كتابة آخر كلمة في الصفحة التي كانت تبدو وكأن أحدا غمس خصلة من شعر في الحبر وحركها على الصفحة بكاملها.


فالكلمات غير واضحة وليس بمقدور أحد قراءتها سوى ميرزا آقا جان، حتى هو كان يعجز في بعض الأحيان عن فكّ رموز بعضها فيطلب مساعدة حضرة بهاء الله. وبعد انتهاء النزول، وحسب الأمر، يعيد آقا جان كتابة الرسالة بخط جميل ويرسلها لصاحبها...[١٠]


ووصف ميرزا طراز الله سمندري نزول الألواح بالكيفية نفسها، وهو الذي تشرف في سن السادسة عشر بمحضر حضرة بهاء الله في آخر سنة من ولايته... ذكر ما يلي:


"في تلك الأيام كان حضرة بهاء الله يأمر ميرزا آقا جان أن يتلو على مسامعه الرسائل الواردة، وعند الرد عليها كانت الآيات الإلهية تنزل بسرعة مدهشة بلا تفكر أو تأمل. ولضرورة سرعة الكتابة أثناء نزول الوحي كانت معظم الكلمات غير مقروءة، حتى إن ميرزا آقا جان نفسه كان يجد صعوبة في قراءة بعضها فيلجأ إلى حضرة بهاء الله. وبإعجاز كهذا كانت الكلمات الإلهية تنهمر من سماء إرادة الرحمن على قلب مظهر أمر الله الممرّد الصافي، ثم ينطق بها مبرهنة على أحقيته أمام عجز أي من البشر عن الإتيان بمثلها. ويؤكد حضرة بهاء الله على هذه الحقيقة في لوحه المبارك مخاطباً السلطان ناصر الدين شاه بقوله الأحلى:


"ليس هذا من عندي بل من لدن عزيز عليم..."[۱۱] ... شملتني العناية الإلهية مرتين فيالمحضر المبارك أثناء نزول الألواح المباركة... كانت الكلمات تنهمر من شفتي المبارك وهو يذرع الغرفة جيئة وذهاباً وكاتب الوحي يدوّنها... ليس من السهل وصف كيفية نزول الوحي الإلهي على حضرته."[١٢]


غالبا ما تشرف الأحباء الأوائل باستلام ألواح مباركة من القلم الأعلى نزلت بحقهم، فكانت أثمن ما يملكون. أما أنفَسُها فهي التي كانت بخط يده، ولكن حضرة بهاء الله كان نادرا ما يسبغ هذا الشرف، وخاصة بعد فترة أدرنة التي عانى فيها من اعتلال صحته بسبب السم الذي دسه له ميرزا يحيى -الأخ غير الشقيق- ،حيث ساءت صحته للغاية وفقد الطبيب أي أمل في شفائه لولا القدرة الإلهية التي حفظت حياته. وبقيت الرعشة في يده حتى آخر أيام حياته ونادرا ما أمسك القلم للكتابة إلا في بعض الألواح الخاصة والهامة مثل كتاب عهده وما وجهه لحضرة عبد البهاء من الألواح والرسائل، ولا بد للقارئ المتفحص أن يلاحظ رعشة اليد في المخطوط من تلك الآثار المباركة.


%
تقدم القراءة
- / -