الدين البهائي
"لتكن رؤيتكم عالمية ..." -- حضرة بهاء الله
"لو رزقت قليلًا من زلال المعرفة الإلهيّة لعرفت بأنَّ الحياة الحقيقيّة هي حياة القلب لا حياةُ الجسد ..." -- حضرة بهاء الله
"إن دين الله ومذهب الله يهدف إلى حفظ واتحاد واتفاق العالم والمحبة والألفة بين اهل العالم." -- حضرة بهاء الله

حضرة بهاء الله
صاحب الرسالة الإلهية (١٨١٧-١٨٩٢)

ملخّص منفى حضرة بهاء الله

غادر حضرة بهاء الله السجن وقد جرد من ممتلكاته واعتلّت صحته وحنت قامته ثقل القيود وأدمت رقبته وورّمتها حدة السلاسل. لم يصرح لأحد عن تجربته مع الوحي الإلهي إلا أن المقربين منه لم يغب عنهم ما طرأ على شخصيته من تألق وقوة وتغيير روحاني لم يشهدوا له مثيلاً من قبل.


ونقتطف من حديث ابنته، الورقة المباركة العليا، تصف مشاعرها بُعيد إطلاق سراحه من سياه ﭽال حيث تفضلت:


"أثناء فترة السجن كان للجمال المبارك مكاشفة إلهية عجيبة. طوق وجوده المبارك إشعاع نوراني مضيء أدركنا أهميته بعد سنوات. تملّكنا العجب في ذلك الوقت دون فهم ذلك الحدث المقدس أو حتى معرفة تفاصيله".(1)


أمضى حضرة بهاء الله الشهر الذي سبق نفيه من بلاد فارس في منزل أخيه غير الشقيق، ميرزا رضا قلي، وكان طبيبا، لم يؤمن بالدين البابي بعكس زوجته مريم وهي ابنة عمّة حضرة بهاء الله، صاحب الفضل في إيمانها، في أوائل أيام الدين الجديد. كانت من المخلصين الأوفياء من أفراد العائلة. وبمنتهى العناية والاهتمام قامت مريم وحرم المبارك، آسية خانم، برعايته حتى تحسنت صحته، ومع أنه لم يتماثل للشفاء تماماً إلا أنه استجمع قواه ليتمكن من مغادرة طهران إلى العراق. وخلال فترات نفيه، كثيرا ما كان حضرة بهاء الله يستذكر إخلاص مريم وولاءها فيغدق عليها من بركاته وعناياته. أرسل إليها من العراق بعض الألواح المعروفة بـ"ألواح مريم"، التي تعتبر نادرة في أسلوبها والأشجان التي عبّرت عنها. وبلغة مؤثرة رقيقة شاطرها في أحد الألواح أحزانه القلبية وعدّد ما أثقل كاهله من آلام نتيجة أعمال عديمي الوفاء من الأصحاب والأحباب حيث يتفضل:


"محا ما لحقني من ظلم ما لحق اسمي الأول (حضرة الباب) من لوح الوجود ... يا مريم إنا وردنا عراق العرب من أرض الطاء (طهران) بعد بلاء لا يعد ولا يحصى بأمر ظالم العجم.(1) وابتلينا بِغلّ الأحباء من بعد غلّ الأعداء وبعده الله يعلم ما ورد علي... لقد تحملت من البلايا والرزايا ما لا يقدر عليه أحد".(2)


كرست مريم حياتها لدين حضرة بهاء الله وكم كانت تتوق للتشرف بمحضر مولاها ثانية، ولكن أعداء الأمر من بعض أفراد العائلة منعوها من مغادرة المنزل، فماتت حزينة وفي قلبها غصة. كانت طوال حياتها محط عناية حضرة بهاء الله وعطفه وأغدق عليها بلقب "الورقة الحمراء" وبعد وفاتها أنزل بحقها لوح زيارة خاص بها.


في الثاني عشر من كانون الثاني عام ١٨٥٣م غادر حضرة بهاء الله طهران إلى العراق يرافقه ابنه الأكبر عباس، الذي كان في التاسعة من عمره، واتخذ فيما بعد لنفسه لقب "عبدالبهاء". وبفضل بصيرته الروحانية أدرك مقام والده وما يزال بعد طفلاً، واعتاد حضرة بهاء الله في بغداد أن يناديه بالمولى (آقا) رِفعاً لمقامه بالرغم من حداثة سنه، وهو لقب كان حضرة بهاء الله يخاطب به والده في طهران. وأنعم عليه فيما بعد بعدة ألقاب رفيعة منها: "الغصن الأعظم"، و"سر الله"، و"غصن الأمر"، و"من طاف حوله الأسماء". ويعتبر بعد الرسالة الإلهية أثمن هدية من حضرة بهاء الله للبشرية، وقُدِّر له أن يخلف والده مركزاً لميثاقه وأن يعهد إليه بإدارة كامل شؤون دين الله، وبعد صعود صاحب الأمر أن يكون منبع القوى الروحية التي أطلقها حضرة بهاء الله لإحياء الجنس البشري.


رافق حضرة بهاء الله من أفراد عائلته المباركة ابنته بهائية خانم ذات السنوات الست والملقّبة بـ"الورقة المباركة العليا" وهي التي تبوأت مرتبة فريدة في الدورة البهائية وتعتبر من أبرز نساء هذا العصر. كانت حياتها مفعمة بالتجارب والمحن قلّما تحمّلها أحد من العائلة بمثل ذلك التسليم والثبات، والى جانب مشاركته الآلام، عاشت تحت نير الحزن والكرب بما أصاب حضرة بهاء الله وحضرة عبدالبهاء من معاملة وحشية قاسية. وتعجز الكلمات عن وصف درجة إخلاص الورقة المباركة العليا -ورقة الفردوس الأبهى- في خدمة حضرة بهاء الله وحضرة عبدالبهاء وتعجز الأقلام عن وصف فضائل حياتها الطاهرة.


لقد تخلت الورقة المباركة العليا عن فكرة الزواج حتى تتفرغ لخدمة والدها، وتمكنت عبر السنين، بفضل إيمانها الراسخ ومثابرتها، أن تخفف عن حضرة بهاء الله وأفراد عائلتها بعض المعاناة، وعكست في حياتها تلك المواهب والخصال التي تميز بها شقيقها حضرة عبدالبهاء، المثل الأعلى لدين حضرة بهاء الله.


أدت الورقة المباركة العليا دوراً فريداً في تقدم دين والدها وازدهاره. فبعد صعود حضرة عبدالبهاء، وقد كانت بلغت سنا متقدمة، أمسكت بزمام الأمور وأدارت دفّة الأمر بكفاءة وقدرة لفترة قصيرة عملت خلالها على جمع شمل المؤمنين ليلتفوا حول حضرة شوقي أفندي الذي عينه حضرة عبدالبهاء وليا لأمر الله. وفي عام ١٩٣٢م صعدت إلى الملكوت الأبهى ووري جثمانها الطاهر قرب مرقد حضرة الباب على جبل الكرمل.


وفي رحلة حضرة بهاء الله هذه رافقته زوجته آسية خانم التي لقَبها بـ"نوّاب" و"الورقة العليا". وقد كانت آسية خانم، وهي ابنة أحد النبلاء يدعى ميرزا إسماعيل الوزير، صاحبة خلق رفيع وخصال نبيلة تشع عطفاً وشفقة. وصفتها ابنتها الورقة المباركة العليا بهذه الكلمات:


"... أستعيد في ذاكرتي أول ذكرياتي فأجدها ملكة في وقارها وجمالها، تراعي مشاعر الجميع، مثالا للرقة واللطافة، مدهشة في إيثارها، وكل عمل تقوم به لا تستطيع إلا أن تجد فيه المحبة من قلبها الصافي الطهور. تشع منها المودة وعلائم السعادة أينما حلّت، وتطوق الزائرين بشذى اللطافة والكياسة."(3)


كان إيمانها بحضرة بهاء الله -وهو في قلبها مولاها- راسخاً لا يتزعزع، فقاست في سبيل محبته الآلام والصعاب بكل صبر وأناة جراء النفي أربع مرات متتالية. وفي لوح وجهه حضرة بهاء الله إليها بعد صعودها عام ١٣٠٣ه‍ (حوالي ١٨٨٦م) أسبغ عليها مقاما مميزا فريدا من نوعه فأشار إلى أنها ستكون "صاحبته الأبدية في كل عوالم الله".


في زمهرير الشتاء والبرد القارس، وعبر جبال بلاد فارس الغربية المغطاة بالثلوج، بدأت الرحلة إلى بغداد. كانت المعاناة شديدة، فأصابت المنفيين بكثير من الأذى والضرر. بقي حضرة بهاء الله في العراق عشر سنوات أمضى منها سنتين وحيداً في جبال كردستان الموحشة، ومعظم السنوات الباقية في بغداد.


ولكن الأعداء، ومن ضمنهم القنصل العام للحكومة الفارسية في بغداد وبعض رجال الدين، نجحوا في مسعاهم لنفيه مرة أخرى. فصدر مرسوم السلطان، بناء على رسالة من الحكومة الفارسية إلى الحكومة العثمانية، باستدعاء حضرة بهاء الله إلى الآستانة. وفي عشية مغادرته العراق عام ١٨٦٣م، وفي مكان خارج بغداد، كشف عن مقامه لأصحابه على أنه "من يظهره الله" الذي بشر به حضرة الباب، وأنه الموعود المنتظر.


وبعد أن أمضى قرابة خمسة أشهر في العاصمة العثمانية، بدأ أعداؤه سعيهم في نفيه مرة أخرى، فنجحوا في إرساله إلى أدرنة، التي أسماها حضرته بـ"السجن البعيد" وفيها بلغت شمس ظهوره سمتها إذ أعلن دعوته للعالم أجمع. ولمدة خمس سنوات تحمل صنوف البلايا والمحن ثم نفي أخيراً إلى مدينة السجن -عكاء- في الأراضي المقدسة.


أمضى حضرة بهاء الله السنوات الأربع والعشرين الأخيرة من ولايته في عكاء أو في الأرياف المجاورة. فالمحن والآلام التي أحاطت به خلال السنوات التسع الأولى من سجنه داخل أسوار عكاء كانت شديدة القساوة حتى إنه أشار إليها في أحد ألواحه بما يلي: "إن في ورودنا هذا المقام سمّيناه بالسجن الأعظم، ومن قبل كنا في أرض أخرى تحت السلاسل والأغلال (أي طهران)، وما سمي بذلك..."(4)


__________________________________________________________________ (1) ناصر الدين شاه. [الفقرة بالخط المائل لم ترد في "كتاب القرن البديع"، ولكنها واردة في الأصل الإنجليزي في God Passes By الصفحة ١٣٣. (المترجم)] (2) كان أحدهم ابن والدة حضرة بهاء الله من زواج سابق.


%
تقدم القراءة
- / -