الدين البهائي
"لتكن رؤيتكم عالمية ..." -- حضرة بهاء الله
"لو رزقت قليلًا من زلال المعرفة الإلهيّة لعرفت بأنَّ الحياة الحقيقيّة هي حياة القلب لا حياةُ الجسد ..." -- حضرة بهاء الله
"إن دين الله ومذهب الله يهدف إلى حفظ واتحاد واتفاق العالم والمحبة والألفة بين اهل العالم." -- حضرة بهاء الله

حضرة بهاء الله
صاحب الرسالة الإلهية (١٨١٧-١٨٩٢)

من يظهره الله

لم يسبق في التاريخ، حتى ظهور حضرة الباب، أن بشر مظهر إلهي بمن سيأتي من بعده وزامن الواحد فيهما الآخر. كان حضرة الباب۱ يصغر حضرة بهاء الله بعامين وعاشا في بلد واحد لا يفصل بينهما سوى ٥٠٠ ميل: فحضرة الباب في شيراز وحضرة بهاء الله في طهران.


كان حضرة الباب مظهرا إلهيا مستقلا افتتح الدورة البابية، فنسخ أحكام الإسلام ووضع أحكاما جديدة، وكما فعل الرسل السابقون من قبل فقد جاء برسالة إلهية مستقلة سرعان ما انتشرت في أنحاء بلاد فارس والعراق. وبظهور حضرة الباب ختم كور النبوات بمجيء يوم الله على لسان رسله من جهة، وافتتح كور تحقق الوعود ومحوره حضرة بهاء الله من جهة أخرى. وقد مجد حضرة بهاء الله حضرة الباب فوصفه بأنه "سلطان الرسل" و"النقطة التي تدور حولها أرواح النبيين والمرسلين" والذي "قدره أعظم من كل الأنبياء" و"أمره أعلى وأرفع من عرفان كل الأولياء وإدراكهم".[۱] فكانت رسالته تهيئة النفوس لمجيء حضرة بهاء الله، المظهر الكلي الإلهي وموعود كافة الكتب السماوية السابقة.


إن مقام حضرة بهاء الله من السمو بمكان بحيث بشر به مظهر إلهي مستقل هو حضرة الباب. فمهد الطريق لمجيئه وأسس عهدا متينا لظهوره وأنشأ خلقا جديدا يليق بلقائه وحمل رايته.


كان إعلان حضرة الباب لأتباعه عن "من يظهره الله" من بعده إعلانا حصينا متينا مبرما، وأكثر وضوحا وتأكيدا مما أبرمه الرسل السابقون. فعلامات المجيء القادم في الظهورات السابقة كان يكتنفها الغموض وجاءت في قالب مجازي، إلا أن حضرة الباب لم يأت بالعلامات على شاكلتها بل بيّن أن بهاء "من يظهره الله" سيكون واضحا للجميع بشكل مذهل حتى أنه ليس بحاجة إلى علامات. وحذر الخلائق أجمعين من أن أحدا لن يعرفه بما لديه من علوم، ولن يستطيع الحكم عليه بما عنده من موازين، أو يضع الحجج والبراهين على أحقيته، لأنه سوف يكون فوق الإدراك وسيعرف بنفسه وكلماته. والدليل الوحيد على صدق دعوته تنزيل قلمه الأعلى لا ما يأتي به البشر. وفي كتاباته في تمجيد حضرة بهاء الله يؤكد حضرة الباب قائلا: "يستحي اليقين أن يوقن به... ويستحي الدليل أن يدل عليه".[۲]


وفي فترة ولايته، كان حضرة الباب يؤكد مرارا وتكرارا على عظمة المظهر الكلي الذي يأتي من بعده وجلاله. وفي أحد أدعيته يناجي حضرة بهاء الله بهذه الكلمات المنزلة:


"سبحانك يا ربي المقتدر ما أضعف كلمتي وكل ما يظهر عني إلا بأن يرجع إلى عزك المنيع، وإني ألتمس أن كل ما يظهر مني يكون بفضلك مقبولا لديك".[۳]


وفي موضع آخر يتفضل :


"وقد كتبت جوهرة في ذكره وهو أنه لا يشار بإشارتي ولا بما ذكر في البيان".[٤]


تدور رسالة حضرة الباب وتعاليمه وأحكامه وتحذيراته حول محور واحد كامن في "من يظهره الله". ففي "كتاب البيان" -أم الكتاب في دورته- قرر بأن الهدف من إنزال كل حرف فيه هو مساعدة أتباعه في معرفة "من يظهره الله" وإطاعته. وفي موضع آخر تفضل:


"إن البيان من أوله إلى آخره مكمن جميع صفاته وخزانة ناره ونوره".[٥]


وصرح بأن "كتاب البيان" معلق بقبول "من يظهره الله" إذ بكلمة منه يقبل أحكامه وشرائعه أو يرفضها، وأن "كتاب البيان" يستمد عظمته من "من يظهره الله" وهو الذي أنزله حقا ويدرك وحده ما بطن فيه وما ظهر. وفي موضع آخر يؤكد أن "من يظهره الله" والذين يتعلمون منه فقط يستطيعون فهم معاني الكتب المقدسة السابقة.


أكد حضرة الباب على أنه رسول أرسله "من يظهره الله" وأنه عبد حقير لدى عتبته. فخاطب أتباعه محذرا بأنهم لن يكونوا أوفياء "لكتاب البيان" أو يحظوا بالقبول لدى المحبوب ما لم يؤمنوا "بمن يظهره الله". وشرح في "كتاب البيان" بأن الذين اتبعوه وأطاعوه بإخلاص فيما شرّع لهم في هذا الكتاب المبين هم المؤمنون بالله حقا، ومع هذا فإن روح الإيمان ستسلب منهم ما لم يؤمنوا "بمن يظهره الله" ويعتنقوا أمره. وفي موقع آخر من الكتاب يضرب لنا مثلا لو أن أحدا متفقها في "البيان" حافظا آياته متفرسا بمعرفته متحليا بكل الفضائل لو يتردد أقل من آن في قبول "من يظهره الله" يحبط الله إيمانه ويبطل اعتقاده به. وفي خطابه لوحيد، أكثر أتباعه شهرة، حذره بكلماته التالية:


"فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة لو أيقنت بأنك يوم ظهوره لا تؤمن به لأرفعت عنك حكم الإيمان... ولو علمت أن أحدا من النصارى ممن لم يؤمنوا بي يؤمن به لجعلته قرة عيناي".[٦]


وفي كثير من كتاباته المباركة أعرب حضرة الباب عن بالغ حزنه وأساه بمجرد تفكيره بأولئك الذين سيعرضون عن موعود البيان من أتباعه. وفي إشارته إلى "من يظهره الله" تفضل قائلا:


"... وإن يؤمنن به يوم ظهوره كل ما على الأرض فإذا يسر كينونتي حيث كل قد بلغوا إلى ذروة وجودهم ... وإلا يحزن فؤادي وإني قد ربيت كل شيء لذلك فكيف يحتجب أحد؟!"[٧]


ولكونه مظهرا إلهيا فقد أحاط حضرة الباب بمقام حضرة بهاء الله إحاطة تامة تعلو قدرة الإنسانية في الوصول إلى حقيقة مقامه. وإن الإدراك والعظمة والقدرة لمن قدر له أن يأتي من بعده لأمر معجز تقف دونه عقول البشر. ولهذا السبب فإن آيات حضرة الباب في تمجيد حضرة بهاء الله قد صعقت خيال أولئك الذين لم يكونوا على درجة من الوعي بمقامه المتعالي الرفيع. كان ظهور حضرة بهاء الله من العظمة والروعة، كما صوره حضرة الباب، بحيث لم يجد عذرا لأولئك الذين احتجبوا عنه. كان ظهوره بالنسبة له كالشمس وضوحا وجلوة، ولهذا نصح أتباعه ألا يتطرق الشك إلى قلوبهم لدى سماعهم برسالة "من يظهره الله". وإذا زلزلت قلوبهم في أمره فإن عليهم غضب الله طالما بقوا في شك وريبة.


وفي كتاباته دعا حضرة الباب أتباعه إلى الحذر من أن يقف "كتاب البيان" أو الكتب السماوية الأخرى أو أي شيء في الوجود دونهم في معرفة "من يظهره الله". وهذه بعض كلماته:


"لا يمنعكم البيان وما نزل فيه عن جوهر الوجود ومالك الغيب والشهود".[٨]


وكذلك يتفضل :


"إياك إياك يوم ظهوره أن تحتجب بالواحد البيانية۲ فإن ذلك الواحد خلق عنده".[٩]


وخاطب أتباعه مكررا:


"أن يا كل شيء في البيان فلتعرفن حد أنفسكم فإن مثل نقطة البيان يؤمن بمن يظهره الله قبل كل شيء وإنني أنا بذلك لأفتخرن على من في ملكوت السموات والأرض".[١٠]


لمّح حضرة الباب في مرات عدة إلى "سنة التسع" موعدا لمجيء "من يظهره الله" وبدأت رسالة حضرة الباب عام ١٢٦٠هـ (الموافق ١٨٤٤م) وسنة التسع توافق ١٢٦٩هـ التي بدأت في منتصف عام ١٨٥٢م تقريبا حيث كان حضرة بهاء الله قد أمضى شهرين في سياه ﭽال بطهران، مكان إعلان دعوته السرية.


وفيما يلي بعض الكلمات التي لمعت من أفق "البيان العربي" وألواح أخرى أنزلها حضرة الباب لبعض تلاميذه:


"وفي سنة التسع أنتم كل خير تدركون".


"وفي سنة التسع أنتم بلقاء ربكم ترزقون"۳.


"فإن لكم بعد حين٤ أمر ستعلمون".


"من أول ذلك الأمر إلى قبل أن يكمل تسع كينونات الخلق لم تظهر وإن كل ما قد رأيت من النطفة إلى ما كسوناه لحما ثم اصبر حتى تشهد خلق الآخر قل فتبارك الله أحسن الخالقين!"


"إصبر حتى ينقضي عن البيان تسعة فإذا قل فتبارك الله أحسن المبدعين".[۱۱]


وأشار حضرة الباب من جهة أخرى إلى السنة التاسعة عشر المطابقة لإعلان دعوة حضرة بهاء الله في بغداد والتي وقعت في نهاية السنوات القمرية التسع عشرة من بداية العصر البهائي. وهذا ما تفضل به بهذا الخصوص:


"يظهر مالك يوم الدين في نهاية الواحد وابتداء الثمانين"٥.[١٢]


وفي معرض ذكره عن تاريخ مجيء "من يظهره الله" طلب حضرة الباب من أتباعه في "كتاب البيان" الفارسي أن يكونوا واعين من بداية ظهوره وحتى عدد "واحد" وأن يصغوا بآذان واعية للرسول الجديد عند ظهوره. ومع أن حضرة الباب قد أشار مرارا إلى السنتين "تسع" و"تسع عشرة"، فقد نص صراحة على أن مجيء "من يظهره الله" رهن بإرادة ذاته، وفي أي وقت يختاره لإظهار نفسه فإن على كل فرد التوجه إليه وإطاعة أمره. وفي قلعة ماه كوه أعلن حضرة الباب هذا الإعلان الخطير:


"لو ظهر في هذه اللحظة لكنت أول العابدين وأول الساجدين".[١٣]


مجد حضرة الباب بعبارات التبجيل والتفخيم عظمة ظهور حضرة بهاء الله، وذكر أنه ليس في عالم الوجود شيء يهب السعادة مثل سماع آيات "من يظهره الله" وإدراكها. وتفضل قائلا: "إن تلاوة البيان ألف مرة لا توازي تلاوة آية واحدة ينزلها من يظهره الله".[١٤] وفي أحد فصول "كتاب البيان" يصرح بأن أعظم شاهد بيّن على أحقية "من يظهره الله" نزول آياته، وأن على أتباعه أن يكونوا واعين لطبيعة المظهر الجديد الفائقة، فيهيئوا أنفسهم لمجيء "من يظهره الله"، وأن يقرأوا الفصل الخاص بذلك الوارد في "كتاب البيان" ويتمعنوا فيه مرة كل تسعة عشر يوما.


وعن الذين قد يدّعون أنهم موعودو "كتاب البيان"، فقد أكد حضرة الباب بكل ثقة أن من يدعي هذا المقام بالباطل فلن يقوى على إثباته ويغدو عاجزا عن إنزال كلمات الله وهي البرهان الأتم لـ"من يظهره الله". ومع هذا، ومن أجل إعزاز مقام "من يظهره الله" وإجلاله، فإن من يدعي هذا المقام، فقد أمر حضرة الباب أن يترك وشأنه دون اعتراض عليه وعلى أقواله.


كان حضرة الباب حريصا على حماية حضرة بهاء الله، لذا منع أتباعه من الجدال والنزاع الذي مارسه علماء الإسلام لأن نتيجته الحتمية تشيع وانقسام، وحثهم على طهارة القلم واللسان ومراعاة الآداب في الحديث والبيان، خاصة في التعبير عن آرائهم، أو طرح براهينهم أثناء أي نقاش، وكان هدفه من ذلك كله عدم الإساءة لـ"من يظهره الله" من قبل أتباعه بقول أو عمل. وحذر أتباعه أيضا من توجيه أسئلة لـ"من يظهره الله" إلا بما يليق بمقامه الرفيع احتراما وتبجيلا بالمظهر الكلي الإلهي المتعالي فوق امتحان العباد. إلا أن حضرة بهاء الله رفع هذا المنع في "الكتاب الأقدس" وسمح للأحباء سؤاله بكل حرية.


لدى تلاوتنا كتابات حضرة الباب، خاصة "كتاب البيان"، ندرك أنه هيأ أتباعه بكل وسيلة ممكنة لمجيء "من يظهره الله". فلم يعطهم فهما حقيقيا لمقامه السامي ولا وضع أمامهم صفات روحانية تجعلهم لائقين بقبول ظهوره فحسب، بل وجه سلوكهم وأوصاهم بمظهرهم ولباسهم، حتى لا يكدّروا جانبه بالإضافة إلى تطهير نفوسهم من علائق هذا العالم.


في عدة فقرات من "كتاب البيان" وفي كتاباته الأخرى ذكر حضرة الباب حضرة بهاء الله باسمه مشيرا إليه بـ"من يظهره الله". وكل هذه الإشارات تدل دلالة واضحة على أن حضرة بهاء الله هو موعود "كتاب البيان" وقبلة الباب نفسه في عبادته. وفي "كتاب البيان" الفارسي نجد مثالا مدهشا في معرض إشارته لـ"من يظهره الله" حيث يتنبأ حضرة الباب بتأسيس نظام جديد من قبل حضرة بهاء الله. وتلك كلماته:


"طوبى لمن ينظر إلى نظم بهاء الله ويشكر ربه. فإنه يظهر ولا مرد له من عند الله في البيان".[۱٥]


كثيرة هي الخصائص التي أوردها حضرة الباب في كتاباته عن عظمة الرسالة التي يحملها "من يظهره الله" وهي عظمة تفوق أي تصور، وعديدة هي عبارات الولاء والفناء تجاه صاحب تلك الرسالة. فقد عرف حضرة الباب حضرة بهاء الله على أنه مصدر وحيه وإلهامه ومظهر ظهوره وهدف عبادته، وكثيرا ما تمنى القتل في سبيله. ففي كتاب "قيوم الأسماء"٦، الذي وصفه حضرة بهاء الله بـ"أول وأعظم وأكبر"[۱٦] ما أنزله قلم حضرة الباب، نجد الإشارات التالية إلى حضرة بهاء الله -"من يظهره الله"-:


"يا سيدي الأكبر. ما أنا بشيء إلا وقد أقامتني قدرتك على الأمر، ما اتكلت في شيء إلا عليك وما اعتصمت في أمر إلا إليك... يا بقية الله قد فديت بكلي لك ورضيت السبّ في سبيلك وما تمنيت إلا القتل في محبتك وكفى بالله العلي معتصما قديما وكفى بالله شاهدا ووكيلا...
وعندما يحل الميقات أظهر بإذن الله الحكيم من علياء الجبل الأرفع الأسنى قبسا من مكمنك المنيع لينصعق الذين أقروا بتلألىء السيناء وهم يأنسون بارقة من نورك الخاطف الذي يحيط بأمرك".[۱۷]


صوّر حضرة الباب في كتاباته شخص "من يظهره الله" بأنه صاحب جلال يبعث الرهبة في النفوس، وهو عظيم لا يحدّ عظمته وجبروته حدّ. فريد لا مثال له. فدراسة هذه الكتابات تمنح القارئ إدراكا أفضل لحقائق أمر حضرة بهاء الله مع أنها تظهر عجز الإنسان عن تقدير أهمية ظهوره أو نفوذ كلماته أو معرفة سمو مقامه تمام المعرفة.


ولهذا العجز يعزى ربما وجود مدرستين فكريتين رئيستين بين الأحباء حول مقامه، برزتا في إحدى مراحل ولاية حضرة بهاء الله. فبعضهم اعتقد أنه المظهر الكلي الإلهي وآخرون ذهبوا إلى أبعد من ذلك. وعندما سئل عن مقامه، أكد حضرة بهاء الله بأن الفريقين على حق طالما أنهم مخلصون في اعتقادهم، أما إذا تجادلوا وتنازعوا فيما بينهم وحاول أحدهما تبديل معتقد الآخر فكلاهما على باطل. وهذا دليل قاطع أن الإنسان بعقله المحدود عاجز عن فهم المقام الحقيقي للمظهر الإلهي، والميزان في ذلك مدى الإيمان والإخلاص، وحيث أن الله تعالى يعرف حدود الإنسان وقدراته فهو يقبل منه ما يستطيع تحقيقه من إنجازات.


ورغما عن هذا الاختلاف في وجهات النظر في مقامه بين أتباع حضرة بهاء الله في بداية ولايته، والذي منشؤه الوحيد تباين قدراتهم في إدراك حقيقة هي على غاية من السمو والرفعة، فإن الهدف الرئيس لظهوره في اتحاد بني البشر لم ينحرف عن مساره مطلقا. فمنذ البداية، طوقت الجامعة البهائية بسوار من الحفظ والحماية ضد أي انقسام أو تشيع واستمرت في ذلك خلال تاريخها الحافل بالأحداث، لتعكس تأثير التلاحم والوحدة الذي يقوى نسيجها ويحركها. إن الذين عرفوا حضرة بهاء الله واعتنقوا أمره قد دخلوا حصن وحدة روحانية تتخطى في طبيعتها كل الحدود البشرية، وقد نشأت هذه الوحدة بقوة الميثاق الإلهي مع البشرية في هذا العصر.


وفي الآثار الكتابية للشخصيات الرئيسة للدين البهائي إشارات عديدة للطبيعة الفائقة لظهور حضرة بهاء الله. كما أن ولي أمر الله، حضرة شوقي أفندي، تطرق إلى توضيح هذا الموضوع، بل ويمكن القول بأن شرحه الواضح للمغزى من ظهور حضرة بهاء الله كان من الدعائم التي أسهمت في ترسيخ بنيان الأمر المبارك. ففي مؤلفه الهام، "دورة بهاء الله" ألقى الضوء برأي سديد حصيف على كل ما يتعلق بالظهور الأعظم: مؤسسيه، هيئاته ومؤسساته، تعاليمه الرشيدة، أهدافه، غاياته ومقدراته النهائية المصيرية. ولم يتوفر للبهائيين قبل ذلك مرجع مماثل يعرض نمطا متماسك العناصر في وضع أسس دراسة منهجية لدينهم. فحضرة شوقي أفندي هو الذي وضع الظهور المحيّر لحضرة بهاء الله في قالب يستوعبه الإنسان المعاصر بقدراته المحدودة، وساعد في وضع الفيوضات الهاطلة من طاقاته الروحية في قنوات، ومكّن المؤمنين من أتباعه من التركيز على رؤية جلية واضحة للأمر المبارك وإدراك رصين للكيفية التي تدار به أموره وتسيّر شؤونه.


وأما عن ظهور حضرة بهاء الله ومقامه فقد كتب حضرة شوقي أفندي أروع فقراته وهي كما يلي:


إن الذي٧ تلقى العبء الفادح لهذا الظهور الفائق المجد، في مثل هذه الظروف المؤثرة، لم يكن سوى هذا الذي سوف تفتخر به الأجيال القادمة وتمجّده، بل ويؤمن به اليوم أتباع يفوقون العدّ والحصر، باعتباره قاضي الجنس البشري ومشرّعه ومخلصه، ومنظم الكوكب كله، وموحّد بني الإنسان كلهم، وفاتح العصر الألفي المرتجى، ومنشئ "الكور العالمي"، ومؤسس السلام الأعظم، ومنبع العدل الأعظم، ومعلن بلوغ النوع الإنساني سن الرشد، ومبدع النظام العالمي الجديد، وملهم الحضارة العالمية وخالقها. لبني إسرائيل لم يكن بأكثر ولا بأقل من تجسيد "الأب الأبدي"، "رب الجنود" الذي "أتى من ربوات القدس"، وللعالم المسيحي عودة السيد المسيح "في مجد أبيه" ولشيعة الإسلام رجعة الإمام الحسين، ولأهل السنة نزول "الروح" (عيسى المسيح)، وللزردشتيين شاه بهرام الموعود، وللهندوس تجسيد كريشنا، وللبوذيين بوذا الخامس.


أما اسمه فقد جمع بين اسم الإمام الحسين، أعظم خلفاء محمد رسول الله وألمع "نجم" في "الإكليل" المذكور في رؤيا يوحنا، واسم الإمام علي أمير المؤمنين وثاني الشاهدين اللذين مجدهما يوحنا في رؤياه. أما اسمه الرسمي فبهاء الله، وهو اسم نص عليه "البيان الفارسي" بصفة خاصة، ويعني مجد الله ونوره وسناءه. أما ألقابه فهي "ملك الملوك" و"رب الأرباب" و"الاسم الأعظم" و"جمال القدم" و"القلم الأعلى" و"الاسم المكنون" و "الكنز المخزون" و"من يظهره الله" و"نور الأنوار" و"الأفق الأعلى" و"البحر الأعظم" و"سماء الرفعة" و"الأصل القديم" و"القيوم" و"نير الآفاق" و"النبأ العظيم" و"مكلم الطور" و"ممتحن الحقائق" و"مظلوم العالم" و"مقصود الأمم" و"رب الميثاق" و"سدرة المنتهى" وهو ينحدر من صلب إبراهيم (أبي المؤمنين) عن زوجته قتّورة، كما ينتمي إلى زرادشت ويزدجرد آخر ملوك بني ساسان. أضف إلى ذلك إنه كان من سلالة يسّى وينتسب إلى أسرة من أعرق أسر مازندران وأشهرها عن طريق والده ميرزا عباس المعروف بميرزا بزرك وهو رجل نبيل كان على اتصال وثيق بالدوائر الوزارية في بلاط فتح علي شاه.


إليه أشار أشعيا أعظم أنبياء بني إسرائيل، بأنه "مجد الرب" و"الأب الأبدي" و"رئيس السلام" و"العجيب" و"المشير" و"القضيب الخارج من جذع يسّى" و"الغصن النابت من أصوله" الذي "يجلس على كرسي داود" و"بقوة يأتي وذراعه تحكم له" و"يقضي بالعدل للمساكين ويحكم بالإنصاف لبائسي الأرض" و"يضرب الأرض بقضيب فمه ويميت المنافق بنفخة شفتيه" و"يجمع منفيي إسرائيل ويضم مشتتي يهوذا من أربعة أطراف الأرض". وبه تغنى داود في مزاميره واصفا إياه بـ"رب الجنود" و"ملك المجد"...


وإليه أشار السيد المسيح بـ"رئيس هذا العالم" "المعزي" الذي "يبكت العالم على خطية وعلى بر وعلى دينونة" و"روح الحق يرشدكم إلى جميع الحق". والذي "لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به ويخبركم بأمور آتية" و"صاحب الكرم" "ابن الإنسان يأتي في مجد أبيه" "آتيا على سحاب السماء بقوة ومجد كبير" من حوله "جميع الملائكة القديسين" وقدّام عرشه تجتمع "جميع الشعوب" وإليه أشار صاحب الرؤيا بـ"مجد الله" و"الألف والياء" و"البداية والنهاية"، "الأول والآخر"، وجعل ظهوره "الويل الثالث" ومجد شريعته ووصفها بأنها "سماء جديدة وأرض جديدة"، "مسكن الله مع الناس"، "المدينة المقدسة"، "أورشليم الجديدة نازلة من السماء من عند الله مهيأة كالعروس مزينة لرجلها". وإلى يومه أشار السيد المسيح نفسه بأنه "التجديد، متى يجلس ابن الإنسان على كرسي مجده"...


وإليه أشار القرآن الكريم "بالنبأ العظيم" وأعلن أن يومه هو يوم "يأتيهم الله في ظلل من الغمام" يوم "جاء ربك والملك صفا صفا" و"يوم يقوم الروح والملائكة صفا"...


وشبه رسول الله كماله ومجده، كما يشهد حضرة بهاء الله نفسه "بالبدر ليلة أربعة عشر". وحدد الإمام علي بن أبي طالب أمير المؤمنين مقامه، حسب الشهادة السابقة، بأنه "مكلم موسى من الشجرة على الطور". ولطبيعة رسالته الفائقة شهد الإمام الحسين، كما صرح حضرة بهاء الله أيضا، بأنها "ظهور من أرسل رسول الله"...


أما حضرة الباب فقد مجده تمجيدا لا يقل دلالة فوصفه "بساذج الوجود" و"بقية الله" و"السيد الأكبر" و"النور المهيمن الحمراء" و"مالك الغيب والشهود" و"غاية الدورات السابقة، بما في ذلك دورة القائم". وكان يميزه رسميا بأنه "من يظهره الله" و"الأفق الأبهى" حيث عاش هو نفسه. ونص على لقبه نصا خاصا ومجد "نظمه" في أشهر كتبه وهو "البيان الفارسي"، وصرح باسمه حين أشار إليه بقوله: "ابن علي مرشد صدق للبشر" وكثيرا ما حدد موعد ظهوره شفاها وكتابة بصورة لا يرقى إليها الشك، وحذر أتباعه من الاحتجاب عنه "بالواحد البيانية فإن ذلك الواحد خلق عنده". وفضلا عن ذلك أعلن أنه هو نفسه "أول العابدين وأول الساجدين" وأنه خشع له "من قبل أن تخلق كينونات الخلق" وأنه "لا يشار بإشارتي ولا بما ذكر في البيان" وأن "نطفة ظهوره في عامها الأول أقوى من كل البيان". وبوضوح أكد أنه "قد أخذ عهد ولايته عن كل شيء قبل أن يأخذ عهد ولايته هو". واعترف بلا تحفظ أنه ما هو إلا "حرف من ذلك الكتاب المبين وقطرة من ذلك البحر العظيم" وأن ظهوره "ورقة من أوراق أشجار جنته"، "وأن كل ما رفع البيان" لم يكن إلا خاتما في إصبعه وأنه هو نفسه "خاتم في يدي من يظهره الله... يقلب كيف يشاء لما يشاء بما يشاء". ويخاطبه بصراحة بأنه "قد فديت بكلي لك ورضيت السب في سبيلك وما تمنيت إلا القتل في محبتك". وأخيرا تنبأ بكل وضوح بأن "البيان في مقام النطفة اليوم، وآخر كمال البيان أول ظهور من يظهره الله". "من أول ذلك الأمر إلى قبل أن يكمل تسعة كينونات الخلق لن يظهر لأن كل ما قد رأيت من النطفة إلى ما كسوناه لحما. ثم اصبر حتى تشهد خلقا آخر. هنالك قل فتبارك الله أحسن الخالقين".


وهذه شهادة حضرة بهاء الله المؤيدة والدالة على طبيعة ظهوره العظيم عظمة لا تحيط بها الأفهام، الفائقة تفوقا لا تدركه العقول قال: "ظهر من طاف حوله نقطة البيان (حضرة الباب)" وأكد ذلك مرة أخرى فقال: "لو أصبح اليوم كل من في السموات والأرض في عداد الحروف البيانية الذين هم أعظم وأكبر من الحروف الفرقانية عشرة آلاف مرتبة وتوقفوا عن قبول الأمر أقل من آن لعدوا عند الله من المعرضين، وأدخلوا في عداد حروف النفي".


وأشار إلى نفسه في كتاب الإيقان: "إن سلطان الهوية ذلك قادر على أن يقبض روح كل البيان وخلقه بحرف من بدائع كلماته، وأن يهب لهم جميعا بحرف واحد حياة بديعة خالدة، وأن يبعثهم من قبور النفس والهوى ويحشرهم". وفضلا عن ذلك وصف يومه بأنه "سلطان الأيام" و"يوم الله" الذي هو "بمثابة النور لظلمة الأيام" "النهار الذي لا يعقبه ليل" "الربيع الذي لن يعقبه خريف" وهو "بمثابة البصر للقرون والأعصار". وهو اليوم الذي به "بشر كل نبي وناح كل رسول حبا لظهوره" و"الذي تمنّته كل القبائل والأمم" يوم "امتحن الله كل النبيين والمرسلين ثم الذين هم كانوا خلف سرادق العصمة وفسطاط العظمة وخباء العزة". وبالإضافة إلى ذلك قال: "قد انتهت الظهورات إلى هذا الظهور الأعظم، به بلغت غايتها ومنتهاها" وقال مرة أخرى: "لم يقف أحد من المظاهر السابقين على كيفية هذا الظهور بتمامه إلا على قدر مقدور". وأشار إلى مقامه بقوله: "لولاه لما أرسل رسول وما نزل كتاب".


وأخيرا، وليس آخرا، إليك ما قاله حضرة عبدالبهاء في طبيعة ظهور والده الفائق: "تمضي القرون وتنتهي الدهور وتنقضي آلاف الأعصار حتى تطلع شمس الحقيقة في برج الأسد وتسطع من دارة الحمل". وقال مرة أخرى: "إن الأولياء السابقين لينصعقون حين يتصورون دور الجمال المبارك، ويتمنون دقيقة واحدة منه".[۱٨]


تضم الآثار البهائية عدة إشارات لحضرة بهاء الله على أنه المظهر العالمي الإلهي الذي افتتح كورا عالميا جديدا في تاريخ الإنسانية. وفي إجابته عن أحد الأسئلة، شرح حضرة عبدالبهاء هذا الموضوع، فتفضل قائلا:


"وبالاختصار نقول أن الدورة الكلية لعالم الوجود عبارة عن مدة مديدة وقرون وأعصار عديدة من غير حد ولا حساب. وتتجلى مظاهر الظهور في تلك الدورة في ساحة الشهود حتى يتجلى ظهور عظيم كلي يجعل الآفاق مركز الإشراق وظهوره يكون سبب بلوغ العالم رشده ودورته تمتد كثيرا. ثم تنبعث المظاهر في ظله من بعده ويجددون بعض الأحكام المتعلقة بالجسمانيات والمعاملات حسب اقتضاء الزمان وهم مستظلون بظله".[۱٩]


إن حضرة بهاء الله ليس صاحب الظهور البهائي الذي سيمتد إلى فترة لا تقل عن ألف سنة طبقا لشهادته فحسب، بل صانع كور عالمي يدعى بالكور البهائي سيمتد ظله إلى خمسة آلاف قرن من الزمان على الأقل حسب ما ذكره حضرة عبدالبهاء. وسيظهر خلال هذه المدة المديدة عدد من مظاهر أمر الله ليؤسسوا شرائع إلهية مستقلة إلا أنهم يستمدون وحيهم من حضرة بهاء الله. وفي أحد ألواحه يتفضل حضرة عبدالبهاء بالبيان التالي:


"أما ما يختص بالمظاهر الذين ينزلون في المستقبل في ظلل من الغمام، فاعلم بأنهم من حيث الإلهام فإنهم يكونون في ظل جمال القدم٨، وأما من حيث العصر الذي يظهرون فيه كل يفعل ما يشاء".[۲۰]


وعلى ضوء هذا البيان يتضح أن حضرة بهاء الله بظهوره هذا هو مصدر الحياة الروحية للبشرية خلال دورته، وسيبقى القوة الباعثة للظهورات القادمة ليطلق بواسطتها قوى روحية في سبيل تقدم الجنس البشري في الكور البهائي. ويدخل في صميم العقيدة البهائية أن المظاهر الإلهية في حقيقتهم متحدون، وما اختلافهم إلا في شدة إشراقهم. فيكشف كل منهم عن فضائل إلهية توافق استعداد الناس وإدراكهم في عصره. وقد يبدو لأول وهلة أن هذا الاعتقاد لا ينسجم والقول بأن مظاهر أمر الله في المستقبل هم تحت ظل حضرة بهاء الله، ومع ذلك هم يأتون بأحكام وتعاليم جديدة للإنسانية، ويفتتح كل منهم دورة جديدة ضمن الكور البهائي. فدعونا نلقي بنظرة فاحصة على كل هذه المواضيع.


إن مجيء المظهر الإلهي قد يشبه بحلول فصل الربيع في عالم الطبيعة، فكما تستقبل الطبيعة حياة جديدة في كل ربيع، فإن الإنسانية تنتعش وتتجدد حياتها بمجيء كل مظهر إلهي جديد. ونلاحظ في الطبيعة أن الشجرة تنمو بالتدريج بتوالي الفصول عاما بعد عام إلى أن تصل مرحلة الإثمار أول مرة. وهذا حدث على غاية من الأهمية لأن الشجرة وصلت إلى مرحلة النضج وستعطي ثمارها كل عام مدى حياتها.


وكذلك الأمر في الإنسان. فقد نما بالتدريج خطوة خطوة بظهور مظاهر أمر الله، وفي عصر قدر للإنسانية فيه أن تبلغ مرحلة البلوغ، جاء ظهور حضرة بهاء الله. إنها مرحلة شبيهة بتلك التي ستعطي فيها الشجرة أولى ثمارها. لذلك، فإن كل ما يمكن أن تحققه الإنسانية نتيجة فيوضات ظهور حضرة بهاء الله، وكل ما تحمله شجرة الإنسانية من ثمار في العصر الذهبي لظهوره، سيضمن الأساس للتقدم والتطور في عهود المظاهر الإلهية القادمة. وتوضح دراسة الآثار الكتابية البهائية أن الهدف الأساسي لحضرة بهاء الله، ما بقيت الحياة على الأرض، هو تأسيس وحدة العالم الإنساني. وسيكون تحقيق ذلك ثمرة ظهوره لهيكل المجتمع الإنساني، والهدف الأقصى الذي يمكن للإنسانية أن تبلغه.


وستستمر الإنسانية في حقب المظاهر الإلهية القادمة في التطور بفضل فيوضاتهم، لتكتسب مواهب نبيلة وقوى روحانية بحيث يصعب تصور مداها في الوقت الحاضر، إلا أنها ستعمل في إطار وحدة العالم الإنساني التي أسسها حضرة بهاء الله ومن سيتبعه من المظاهر الربانية من عصر لعصر ضمن الكور البهائي وفي ظله.


وفي خطابه للجيل المعاصر له، وضح حضرة بهاء الله طبيعة الأساس الثابت الذي وضعه للإنسانية وأكد عليه بقوله:


"يا بني الإنسان إن المقصد الأساسي للإيمان بالله والإقرار بدينه هو المحافظة على مصالح الجنس البشري وترويج اتحاده... هذا هو الصراط المستقيم والأساس الثابت القويم. كل ما يرتفع فوق هذا الأساس لن تضعضعه تغيرات العالم ولا حوادثه ولن تقوض أركانه ثورة القرون الأولى التي لا عدد لها".[۲۱]


وفي المقتطف التالي بقلم حضرة ولي أمر الله شوقي أفندي حول أهمية الظهور الإلهي نجد حضرته يقتبس كلمات حضرة بهاء الله نفسه ليؤكد لنا رفعة شأن هذا الظهور الجليل وطبيعته المتميزة الفريدة من نوعها:


"(إنّا نشهد بهذا الأمر وعظمته ولقد شهدنا بذلك مرارا في أكثر الألواح ليستيقظ أهل العالم من غفلتهم). كذلك يعلن حضرته صراحة بقوله عز بيانه (قد بلغت كل الأمور في هذا الأمر الأعز غايتها وتمامها) (إن الذي ظهر في هذا الأمر الأعز الأمنع لا يقوم معه شيء مما ظهر من قبل ولن ترى شبهه القرون). ويتفضل مشيرا إلى نفسه بقوله الأحلى (إنه هو الذي سمي في التوراة بيهوه وفي الإنجيل بروح الحق وفي الفرقان بالنبأ العظيم)، (لولاه ما أرسلت الرسل وما نزلت الكتب يشهد بذلك كل الأشياء)، (قل إنه لو يتكلم بكلمة تكون أحلى من كلمات العالمين). وأيضا مترجما (إن أكثر الناس لا يزالون ضعافا. فلو كان لديهم من الاستعداد ما يكفي إذاً لأفضنا عليهم من علمنا على شأن يجد أهل الأرض والسماء أنفسهم بهذا الفضل الجاري من قلمنا أغنياء عن كل عرفان سوى عرفان الله ولاستووا على عرش الاطمئنان المقيم) وأيضا (أشهد أن قلم القدس قد كتب على جبيني الأبيض بنور مبين أن يا ملأ الأرض وسكان السماء هذا لهو محبوبكم بالحق وهو الذي ما رأت عين الإبداع شبهه والذي بجماله قرت عين الله الآمر المقتدر العزيز".[٢٢]


إن كلمات حضرة بهاء الله هذه تشهد بعظمة أمره وتبعث الرهبة والدهشة في نفوس أتباعه وهم يتأملون الطاقات الهائلة التي منحها للجنس البشري، ومن المقدر أن يرسل أنواره إلى قرون وعصور لا يمكن حصرها إلى حيث يبلغ الزمان مداه. وإن مبشره حضرة الباب، النقطة الأولى "التي تدور حولها أرواح النبيين والمرسلين"،[٢٣] قد نفخ في الصور باعثا إلى الوجود فجر اليوم الجديد، وأضفى على هذا الأمر باستشهاده المجد والعزة والخلود. وأما مؤسسه حضرة بهاء الله، فقد بعث "بقبس من مكمنه المنيع"[٢٤] في يوم الله هذا في الوجود خلقا جديدا نفخ فيه روحا جديدة، وأنزل الأحكام والتعاليم التي صيغت لتطوير مصالح الجنس البشري وحماية وحدته، ووضع أساسا متينا لسنوات قادمة تعد بالآلاف، وحمى مركز عهده حضرة عبدالبهاء -وهو المظهر لكل فضيلة بهائية والنموذج لكل مثل أعلى بهائي-[٢٥] من هجوم الناقضين، وأرسل شعاع رسالته إلى أمم الغرب، ورسم معالم نظامه الإداري وهو نواة النظام العالمي الجديد الذي سيرتفع بنيانه على هذا الكوكب.


يقوم أتباع حضرة بهاء الله المخلصون على تشييد مؤسسات هذا النظام الإداري البديع، محليا ومركزيا وعالميا، على أنقاض نظام قديم بال، تملأهم ثقة تامة بأن الطاقات الخلاقة الكامنة في ظهوره، وبالقدرة الإلهية، ستعيد هيكلة المجتمع الإنساني، مجتمع نشبت فيه اليوم أنياب الاضطراب وفتكت به خيبة الأمل، لتحيله إلى مجتمع عالمي متحد في جميع شؤونه التي قدر لها أن تبلغ في القرون القادمة عصرها الذهبي حتى يتحقق ملكوت الله الذي طال انتظار تأسيسه على الأرض.
المصدر: ظهور حضرة بهاءالله - المجلد الأول - الفصل الثامن عشر: "من يظهره الله"، من منشورات دار النشر البهائية في البرازيل، الصفحة ٣١١ - ٣٣٠.


%
تقدم القراءة
- / -